الأربعاء، 12 أكتوبر 2016

هذا الدولار الذي يحكم العالم








قاسم شعيب



لم يكن المال في الحضارات القديمة هدفا بذاته. كان مجرد وسيلة. ولأجل ذلك كانت العملة ذهبا أو فضة ذات رصيد حقيقي وقيمة. قبل ذلك كان الناس يعتمدون المقايضة للحصول على المنافع. كان الناس ينتجون ما يحتاجون ويبيعون الفائض أو يهبونه، وكانوا يشترون ما لا ينتجونه.
ومع ظهور الرأسمالية حلَّت العملة الورقية محل الذهب والفضة. أصبحت للورقة النقدية قيمة رمزية توازي منتجات تباع وتشترى. وباتت الحسابات المصرفية هي الأساس بعد ظهور العملة الورقية. في البداية كانت العملة الورقية تملك رصيدا حقيقيا يعكس قيمة من الذهب يساوي سلع ومنتجات تُباع وتُشترى. والقيمة ينبغي ان تكون مساوية لنوعية العمل المتضمنة في إنتاج السلعة، وليس لكميته. لكنها أصبحت لا حقا مرتبطة بالعلامة أو الماركة المسجلة للبضاعة. أصبحت القيمة مرتبطة باسم الشركة التي يُدَّعى أنها تنتج البضاعة وليست البضاعة في حد ذاتها.
وفي العام 1971 أعلن الرئيس الامريكي نيكسون فك ارتباط الدولار بالذهب، وألغيت بذلك اتفاقية بريتون وودز التي عُقدت عالمياً في نهاية الحرب العالمية الثانية والتي أفرزت لاحقا صندوق النقد والبنك الدوليين واتفاقية الجات التي فشلت وتحولت إلى منظمة التجارة العالمية. عندها تمّ فك الارتباط بين الرمز وما يرمز إليه؛ أصبح المال قيمة بحد ذاته. بل إن المال صار سلعة يباع ويشترى وأصبحت له أسعار ترتفع وتنخفض على مدار الساعة بحسب ما تقرره أمريكا؛ القوة الاقتصادية الأكبر في العالم.
نجحت الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 في فرض عملتها على العالم. ساعدها على ذلك خروج الحلفاء المنتصرين عسكريا بمشاكل اقتصادية ضخمة بسبب تكاليف الحرب. أمريكا وحدها التي حافظت على قوة اقتصادها لبعدها الجغرافي على مسرح العمليات الحربية. وفي مؤتمر بريتون وودز الذي عقد العام 1945 نجحت أمريكا في إقناع الدول المجتمعة تحت ضغط المشاكل الكبيرة التي كانت تواجهها اقتصادياتها على اعتماد الدولار الأمريكي احتياطيا عالميا لعملات هذه الدول على أن تفك هذه الدول ارتباط عملاتها بالذهب، وتربطها بالدولار الأمريكي شرط أن تلتزم أمريكا بدعم الدولار بالذهب مقابل سعر ثابت و هو 35 دولار للأونصة (الأونصة حوالي 28 غرام)، وبذلك قامت دول العالم بشراء الدولار بالذهب مقابل هذا السعر الثابت.
كان كل 35 دولارا يعادل أونصة ذهب وبعد فك الارتباط بين الدولار والذهب أصبح ثمن أونصة الذهب 350 دولارا بانخفاض قيمة الدولار 9 مرات. وتحول النظام المالي من خادم للنظام الاقتصادي إلى عبء عليه. كانت عندها نسبة الاقتصاد الأمريكي إلى النظام المالي واحد إلى واحد. وبعد الانفصال أصبح حجم المال يتجاوز الاقتصاد إلى أن وصل إلى حوالي 40 ضعفا في عقد التسعينيات.أصبحت أمريكا حرة طليقة في طباعة ما تشاء من الدولارات. ولإدخال الدولارات في حركة الاقتصاد الرسمي والاقتصاد الحقيقي العالمية أصدرت أمريكا أوامرا لأكثر الدول تصديرا للنفط ليتم تداول النفط بالدولار.
أما سعر الدولار فلا تقرره آليات السوق في العرض والطلب، بل تقرره القوة الأميركية وحدها. أمريكا هي البلد الوحيد في العالم الذي يقرر كمية ما يطبع من عملة ورقية، كما يقرر سعرها، وقيمتها بناء على قرارات سياسية. وبقية العملات الأخرى يقرر أسعارها السوق بناء على تغيرات العرض والطلب التي لا تخرج عن متطلبات الاقتصاد الأميركي والقوة العسكرية الأميركية. وأية دولة أخرى لا تستطيع الاستدانة إلا بالدولار وهو ما يعني الخضوع للشروط الأمريكية.
والبلد المستدين لابد له من سداد الدين الخارجي بالعملة الأجنبية، لأن الدولار هو العملة التي لا تتأثر قيمتها بتقلبات السوق بعد أن فرضتها الولايات المتحدة عملة عالمية فوق قوانين العرض والطلب با تلكه من مخزون ذهبي. وعندما يعجز هذا البلد عن سداد الدين، ويعلن إفلاسه، يؤتى به إلى مؤتمر باريس، لتعاد جدولة ديونه بشروط اقتصادية تتعلق بالأجور والخدمات التي تقدم للناس وأسعار الصادرات وأسعار الواردات ومستوى الضرائب.. أما الولايات المتحدة، الدولة التي وضعت نفسها فوق القوانين جميعا، فهي بلا شك لا تذهب إلى نادي باريس، لأنها تستطيع أن تطبع ما تشاء من عملتها، ولأنها تتمتع بالقوة العسكرية اللازمة لفرض هذه العملة على الجميع.
ورغم ذلك كله تضطر أميركا إلى الاستدانة، وقد بلغت ديونها ما يقارب 17 تريليون دولار. لكنها تستطيع أن تطبع ما تشاء من الدولارات وتوزعها على الدائنين وتمحو ودائعهم المصرفية، أو على الأقل جزءاً منها، حتى لا تتهم بالنصب والاحتيال. هذا الأمر لا تستطيعه أية دولة أخرى تخضع عملتها لقوانين السوق في العرض والطلب.
وهناك مصدر آخر يعزز القوة الامريكية وهو لجوء المدخرات العالمية إليها بسبب قدراتها الاقتصادية والعسكرية وتُستخدم تلك المدخرات لشراء أسهم في الدين الأميركي الحكومي أو لأغراض أخرى. هذه المدخرات قادمة من دول النفط والمواد الخام الأخرى وفي مقدمها دول عربية خليجية مثل المملكة السعودية، وهي أيضا قادمة من دول آسيا الشرقية الصاعدة اقتصاديا.
هذه الأموال تتغير قيمتها بعد إيداعها في البنوك واستثمارها بحسب ما تراه السلطة الأميركية، أو ما تقرره السوق الأميركية التي تخضع لقرارات سياسية ولا علاقة لها بقوانين العرض والطلب.. ومن الطبيعي أن تخسر تلك الودائع والمدخرات قيمتها الحقيقية بسبب التضخم أو الشروط التي تفرضها عليها الدولة الأمريكية. تستطيع بذلك الولايات المتحدة ممارسة نهب منظّم دون أن تجد من يحتج على ممارساتها من أصحاب المدخرات الذين لا يسعهم سوى السكوت والرضى. بل إن أمريكا يكنها الحجز على مدخرات الدول الأخرى لديها لأي سبب تخترعه. ومثال ذلك قانون جاستا الأخير الذي يتيح محاكة دول بتهم الارهاب وإجبارها على تعويض الضحايا. وقد رفعت في المدة الأخيرة عدة قضايا ضد السعودية التي تم تجميد أرصدتها في البنوك الأمريكية.
والمساس من اعتماد الاقتصاد العالمي على الدولار تعتبره أمريكا مساسا بأمنها القومي. كل من يحاول توجيه الاقتصادات العالمية بعيدا عن الدولار سيعتبر عدوا للأمن القومي الأمريكي. و هذا ما يفسر الاغتيالات والانقلابات والحروب التي تعرضت لها دول وزعامات حاولت الاعتماد على عملة أخرى غير الدولار. ورغم نجاح الكثير من دول العالم في الاعتماد على وسائل أخرى لدعم اقتصاداتها، الا أن الدولار يبقى العملة الرئيسية حتى اليوم.
أمريكا اليوم تستخدم سلاحين في وقت واحد. سلاح القوة الاقتصادية وسلاح القوة العسكرية. وهي مثل الإمبراطوريات التي سبقتها عبر التاريخ تلجأ الى التصفية الجسدية أو السجن لكل من يعارض سياساتها ويحاول فضحها ما دامت قادرة على ذلك. والديمقراطية التي ترفع شعاراتها لا تملك منها شيئا في الحقيقة، فالذي يحكم هو رأس المال. الحزبان الجمهوري والديمقراطي في أمريكا ليسا إلا واجهة سياسية. وبرامجهما وقراراتهما عندما يكون أحدهما في الحكم لا تخرج عما يقرره راس المال في الغرف الخفية.
والقوة التي لا زال يمتلكها الدولار ليفرض نفسه العملة المعيارية في العالم كله تستند إلى مخزون ضخم من الذهب. فالذهب يعتبر العملة الاحتياطية العالمية حيث تواصل البنوك المركزية في الولايات المتحدة وأوروبا جهودها من أجل حيازة أكبر كمية من الذهب.
وليس غريباً أن تتصدر الولايات المتحدة قائمة الدول الأكثر حيازةً للذهب باحتياطي يساوي 5 .8133 طن مقابل ألمانيا 5 .3395 طن وإيطاليا  بـ 8 .2451 طن وفرنسا بـ 4 .2435 طن والصين بـ 1 .1054 طن وسويسرا بـ 1 .1040 طن وروسيا بـ 7 .936 طن التي تواصل شراء الذهب بعد ان استفاقت متأخرة واليابان بـ 2 .765 طن رغم أنها من أكبر الاقتصادات في العالم وهولندابـ 5 .612 طن والهند بـ 7 .557 طن.
ويلاحظ أن ألمانيا تُبقي فقط على حوالي ثلث ذهبها داخل أرضها، والباقي يوجد في الخارج، 45 في المائة منه لدى الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في نيويورك، و13 في المائة في لندن، و11 في المائة في باريس، وفقط 31 في المائة في البنك المركزي الألماني في فرانكفورت.
لكن المفاجئ والذي يدعو إلى الاستغراب هو كيف لدول لا تمتلك بالضرورة ناتجاً محلياً ضخماً أن تكون هي المالك الأكبر للذهب. بل إن الملفت أن دولتين صغيرتين مثل هولندا وسويسرا يصنفان من بين المالكين الكبار للذهب في العالم. لكننا إذا علمنا أنهما بؤرتين لأكبر رؤوس الأموال التابعة لمجموعة بيلدبيرغ المعروفة بحكومة العالم الخفية، يزول ذلك الاستغراب.
إننا عندما نجد دولة مثل المملكة المتحدة على سبيل المثال تحتل المركز السابع عالمياً بين بلدان العالم من حيث احتياطي الذهب ولكنها تحتل المركز السابع عشر عالميا من حيث الناتج القومي، نفهم أن الجهات الحاكمة فعليا في الاقتصاد العالمي استطاعت أن تخزّن كميات ضخمة من الذهب لإدامة سيطرتها على العالم ولمواجهة أية حالات طارئة أو حرب يتم الاعداد لها. فالمسألة لا تتعلق بالولايات المتحدة باعتبارها دولة، بل بمن يحكم في الخفاء تلك الدولة كما دول أخرى كثيرة. إن ذلك يزداد وضوحا عندما نجد دولة مثل البرازيل لا تمتلك إلا حصة صغيرة جداً من الذهب مقارنة بإجمالي ناتجها القومي، فهي لا تستحوذ إلا على 5 .0% من الاحتياطي الأجنبي. وتزداد الصورة وضوحا عندما نعلم أن صندوق النقد الدولي، الذي يمتلكه يهود، هو ثالث جهة رسمية تستحوذ على الذهب..

إن احتياط الذهب الذي تتوفر عليه الولايات المتحدة لا يمكنها من السيطرة على العالم فحسب، بل إنه هو الذي يمنع عنها أي انهيار اقتصادي. ولن يكون ذلك الانهيار ممكنا إلا في حالتين؛ الأولى أن تتفق دول العالم القوية المعارضة للهيمنة الأمريكية على عملة جديدة واحدة تستغني بها عن الدولار في تعاملاتها الاقتصادية ومنها بيع النفط وبقية المواد الخام. والثانية تعرض الولايات المتحدة لحرب نووية أو كوارث طبيعية غير عادية تحطم اقتصادها بشكل نهائي. والاحتمال الثاني هو الذي نرجحه حيث لا إمكانية لظهور قوة اقتصادية وازنة في العالم بعد نجاح أمريكا في إفشال مجموعة البريكس بعد إسقاط الحكومات اليسارية في الشيلي والأرجنتين والبرازيل ومحاصرة فينيزويلا وروسيا.. 

ليست هناك تعليقات: