قاسم شعيب
تعاني دول كثيرة بسبب المديونية. وعادة
ما تكون تلك الدول محكومة بطبقة سياسية فاسدة تنخرط في لعبة الاقتراض إلى أن ينتهي
الأمر بإعلان الإفلاس، وما يرتب على ذلك من تداعيات بائسة.
والمؤسسات التي تقوم بمهمة الإقراض هي بالأساس
صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. أنشئ هذان البنكان عام 1945 بعد الحرب العالمية
الثانية عندما تم تنظيم مؤتمر في الولايات المتحدة الأمريكية وقع الاتفاق فيه على معاهدة
بريتون وودز الدولية عام 1944.
حينها اجتمع ممثلون من 44 دولة لتطوير النظام
النقدي الدولي الجديد الذي أصبح يعرف باسم نظام بريتون وودز. وكان الهدف المعلن من
هذا النظام الجديد "ضمان استقرار سعر الصرف، ومنع التخفيضات التنافسية، وتعزيز
النمو الاقتصادي".
عمل نظام بريتون وودز خلال السنوات
التي تلت الحرب العالمية الثانية بشكل جيد. وتزايد الطلب على الدولار بعد إطلاق
مشروع مارشال لإعادة الإعمار في أوروبا بسبب تزايد الإنفاق على السلع الأمريكية كالسيارات
والصلب والآلات.. كانت الولايات المتحدة تملك حينها نصف احتياطيات الذهب الرسمية في
العالم بما يقدر بـ 574 مليون أوقية وهو ما جعل النظام المالي يبقى آمنا.
في ذلك المؤتمر تم إنشاء البنك الدولي
وصندوق النقد الدولي. والصندوق هو وكالة متخصصة تابعة للأمم المتحدة، بموجب المعاهدة
المذكورة في نيوهمشر الأمريكية عام 1945 بدعوى العمل على تأمين سلامة الاقتصاد العالمي
ودعمه. ويقع مقر الصندوق في العاصمة الأمريكية واشنطن دي سي، ويديره من الناحية
التنفيذية أعضاؤه الذين يشملون جميع بلدان العالم تقريباً البالغ عددها 188 بلدا.
أما البنك الدولي فهو أيضا أحد الوكالات
المتخصصة في الأمم المتحدة ولكنه يهتم بالتنمية. بدأ نشاطه في 27 يناير 1946 بالمساهمة
في إعمار أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. والإعمار أو إعادة الإعمار بعد توقف
الحروب والنزاعات هو مجال عمل هذا البنك الذي يتدخل أيضا بعد الكوارث الطبيعية من
أجل إعادة التأهيل والبناء. لكن هذا البنك يوسع اليوم أعماله لتشمل حالات الفقر، وهو
يدّعي العمل على التخفيف من حدته.
هذا ما يقال عادة عن هذين البنكين،
اللذين يجري تصويرهما على أنهما منقذان لكثير من الدول والشعوب من الفقر والإفلاس.
لكن الحقيقة هي أنهما وجدا تحت عناوين مضللة من أجل إحكام القبضة اليهودية على
الاقتصاد العالمي. فالبنك الدولي يديره يهود من أمريكا بينما يدير صندوق النقد الدولي
يهود أوروبيون.
كان هذان البنكان يريدان منذ البداية
استغلال الدمار الواسع الذي سببته الحرب العالمية الثانية التي تم افتعالها لتأسيس
الكيان الغاصب "إسرائيل" على أرض فلسطين. وفوق ذلك، تم استغلال نتائجها من
أجل إقراض الدول التي كانت في حاجة إلى السيولة النقدية لإعادة الإعمار مقابل
فوائد ربوية فاحشة تستخلصها تلك البنوك. لا شك أن ذلك كان له أثره في استعادة
النشاط الاقتصادي المنهار، لكنه من ناحية أخرى سبّب كوارث اقتصادية لكثير من الدول
التي كرّست تلك البنوك حالة التخلف لديها.
ساهم صندوق النقد الدولي في استعادة قابلية
تحويل العملات وتحريك النشاط التجاري متعدد الأطراف. وكان ذلك شيئا طبيعيا، فالإقراض
يعني إيجاد السيولة اللازمة للحركة التجارية التي تحتاجها الدول. ورغم أن الدول
تحتاج إلى القروض لإعادة الإعمار وبناء المؤسسات إلا أن الضريبة كانت دائما باهظة
بسبب الفوائد الربوية المرتفعة.
كان ادعاء كل من جون ماينارد كينز الذي
ترأس وفد بريطانيا، وهاري ديكستر وايت ممثل الوفد الأمريكي، أن تحقيق النمو الاقتصادي
بعد الحرب العالمية الثانية ليس ممكنا إلا بإنشاء مؤسسة بنكية تمنع العودة إلى الانغلاق
الداخلي للدول والحماية، وليس فقط تجنب تكرار الكساد الكبير. ولا شك أنه هدف كبير ولكنه
ماكر لأن هدفه تسهيل اختراق رأس المال الأجنبي للدول الأخرى ثم التدخل في قراراتها
السيادية.
وكان لابد من خطوة إضافية، بالنسبة إلى
مؤسسي هذه البنوك، ترفد هذا التوجه، فكان تحرير التجارة الدولية من خلال اعتماد الاتفاقية
العامة للتعريفات الجمركية والتجارة المعروفة بـ "GATT" بعد إجراء
مفاوضات لتحرير التجارة عام 1947.
أصبحت الولايات المتحدة على هذا النحو هي القوة العظمى بعد الحرب
العالمية الثانية التي شهدت تراجع نفوذ بريطانيا، وولادة هذه المؤسسات البنكية
التي اختار لها اليهود الولايات المتحدة مقرا.
بعد أن أنجزت البنوك الدولية مهمتها في أوروبا بدأت، منذ سبعينيات القرن العشرين، تتمدد نحو البلدان
النامية، وتقدّم لها كل الإغراءات لإقناعها بالاقتراض منها حتى تتمكن من زيادة وارداتها
وسد العجز في موازين مدفوعاتها. وبذلك بدأ حجم الديون المستحقة على تلك الدول النامية
يكبر بصورة دراماتيكية.
وصلت الفوائد الربوية الزائدة
على تلك الديون إلى أكثر من نصف ما يجب سداده سنوياً وحين عجزت بعض الدول النامية عن
السداد، طلب صندوق النقد والبنك الدولي بالتنسيق مع منظمة التجارة والتنمية في الأمم
المتحدة، الأونكتاد، التوسط بين الدول المدينة والدائنين من أجل جدولة ديونها.
وهذه
الجدولة تعني توزيع أقساط الدين على عدد أكبر من السنوات مع زيادة فائدة أخرى على الأقساط
الجديدة، وتكون فائدة التأخير هذه أكبر من سعر الفائدة الأصلي الذي تم به الإقراض،
وبذلك يتم الإيقاع بتلك البلدان داخل الشبكة الربوية اليهودية التي لا فكاك منها
إلا بقرارات ثورية شجاعة تقرر التوقف عن تسديد الدين وفوائده جميعا أو وجود حكومة
نزيهة قادرة على تسديد الديون في مدة وجيزة كما فعل لولا داسيلفا في البرازيل مثلا.
أما
إذا أعلن البلد المديون عجزه المطلق عن تسديد ديونه وفوائدها الربوية المتراكمة،
فإن المنظمات الدولية تجد الوقت مناسبا للتدخل بدعوى إعادة تنظيم ماليته وٕإصلاح نظامه
الاقتصادي. ولأن صندوق النقد الدولي يُعنى ببرامج التكيّف وسياسات "الإصلاح" النقدية
والمالية، بينما يُعنى البنك الدولي بدفع "التنمية"، فإن الدول الغربية، التي تخضع
لرأس المال اليهودي بشكل كامل، تجد المبرّرات الكافية للتدخل في السياسات
الاقتصادية والتعليمية والثقافية وحتى القرارات السيادية لتلك الدول.
ولكي
تضمن تلك البنوك الدولية تحقيق أهدافها من الاقراض فإنها تضع شروطا على الدولة
المدينة منها: عودة تدفق الائتمان إلى القطاع العقارى
وشفافية أكثر للعمليات الحكومية وإعادة هيكلة مؤسسات الدولة والتوسع فى الخوصصة وتشجيع
الاستثمارات الأجنبية المباشرة وإجراءات التكيف المالي ومواجهة التضخم.
ومعنى ذلك أن الدولة المَدينة مطالبة بإقامة سوق
تجارية للنقد الأجنبي يزيل سيطرة الدولة على سعر صرفه، وٕالغاء القيود المفروضة على
الواردات، وتشجيع الاستثمارات الأجنبية بإعفائها من الضرائب والرسوم الجمركية، وإمدادها
بالأراضي، ومصادر الطاقة والمواد الخام بأسعار زهيدة، والسماح لها بتحويل أرباحها إلى الخارج وتصفية أعمالها
متى تشاء.
وفي الغالب يعين الصندوق ممثلا له يقيم
في الدولة المدينة. ويشترط الصندوق أن يكون مقره في البنك المركزي أو وزارة المالية
لكى يراقب عن قرب تطور الأحوال السياسية والاقتصادية داخل البلد المدين.
وٕاذا
أذعن البلد المَدين لهذه الشروط يمنحه صندوق النقد شهادة حسن سيرة وسلوك يمكنه بها
أن يعاود الاقتراض من البنوك الدولية والمؤسسات النقدية العالمية مرة أخرى لتستمر دوّامة الاستنزاف!
هذه
الشروط في حقيقتها ليست سوى وسائل لإنهاك البلد الذي وقع في شباك الاستدانة والقروض،
ولاستنزاف موارده وأسواقه، والعصف بصناعات أهله وتجارتهم، وزرع لبذور الاضطراب والفوضى
الاجتماعية.
لقد وقعت دول عديدة في هذا الفخ، لعل أبرزها اليونان. بينما تسير تونس ومصر ودول عربية أخرى على هذا الطريق. تصبح سيادة الدولة منتهكة. ولا تزيد خطط التقشف الأمور إلا سوءا والاقتصاد إنهاكا. تفقد الدولة السيطرة على اقتصادها بسبب نظام الخوصصة الذي اشترطه صندوق النقد الدولي
والذي أدى إلى تسريح العمال والموظّفين وانتشار الفقر.. في ظل تضليل إعلامي واسع
يرجع الأزمة إلى ضعف الموارد وجشع التجار وليس إلى شروط البنوك الدولية، لتتم بذلك
تبرئة الأشرار ومصدر البلاء واتهام جهات لا علاقة لها بالأزمة.
وعندما تعجز الدولة على سداد القروض يتم
الاستيلاء على مؤسسات الدولة من مطارات وموانئ وشركات ومصانع وغيرها. وتصبح حتى
ثقافة الشعب وقيمه مستباحة ذلك أن الاقتصاد مجرد مدخل لإحكام القبضة على كل شيء:
التعليم والثقافة والدين والأرض والإنسان..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق