السبت، 1 أكتوبر 2016

حروب ما بعد الحداثة







قاسم محمد


هناك فَرْق بين الحداثة والمعاصرة. الثانية لا تشير إلى أكثر من المعنى الزمني. فهي تعنى المزامنة، أو معايشة الحاضر بالوجدان والسُّلوك والإفادة من كلّ منجزاته العلميَّة والفكريَّة. أما الحداثة فإنها تحيل إلى فكر معين وإيديولوجيا. هي لا تشير إلى الحداثة الغربية التي جاءت في حقبة زمنية تلت عصر النهضة وامتدت إلى بداية القرن العشرين، بقدر ما  تشير إلى الحمولة الفلسفية والفكرية والدينية والعلمية والفنية التي طبعت تلك المرحلة. الحداثة الغربية هي إيديولوجيا الغرب. لكن حداثة الغرب ليست واحدة في ظاهرها. فهناك حداثة ألمانية وأخرى فرنسية وثالثة إنجليزية.. الخ. وهو ما يعني أن كل أمة يمكنها أن تنجز حداثتها الخاصة.
أما ما بعد الحداثة، فهي الحقبة التي تَلَتْ مرحلة الحداثة منذ بداية القرن العشرين وهي مستمرة حتى الآن. وأهم معالمها أفكارُ الموت والنهاية وإطلاق الغرائز والكفر بكل شيء؛ الإله والإنسان والقيم والأخلاق.. رؤية تمزج بين العدمية والكلبية والبراغماتية. وكل تلك الشعارات عن الحرية وحقوق الانسان والتنمية والبيئة ليست إلا أحابيل لتبرير التدخل والحروب والقتل والنهب. لكن ما بعد الحداثة ليست خالية من الدين. بل إن جوهرها دين، كما هو شأن أية فلسفة. وذلك الدين هو دين عبادة الشيطان. هذا الأمر لم يعد سرا. فقد أصبحت لذلك الدين، منذ عقود، معابد ورموز وأتباع في كل مكان من العالم. بل إن المسلة الفرعونية، التي ترمز إلى الشيطان واتخذ منها النورانيون شعارا، أصبحت منتصبة في أهم عواصم العالم.
وحروب ما بعد الحداثة هى الحروب الاستباقية التى تهدف إلى إجهاض قوة الخصم قبل استكمال نموها. وهي الحروب التي تقوم عليها فلسفة الإبادة والاستيطان  كما حدث للهنود الحمر في أمريكا والفلسطينيين بعد نكبة 1948، وكما يحدث لبعض العرب، مثل السوريين واليمنيين، منذ بداية 2011.
حروب ما بعد الحداثة الأمريكية ليست إلا تطبيقا للمضمون الفكري لما بعد الحداثة. أي إنها لا تريد شيئا أقل من قتل الإنسان والقيم وإنهاء العالم. شر مطلق يراد تعميمه. تؤمن المؤسسات الأمريكية والصهيونية الحاكمة بفكرة النظام العالمي الجديد. هم يريدون إعادة تشكيل العالم لتكون هناك حكومة عالمية واحدة عاصمتها القدس. تُلغى حينها الدول والحكومات والحدود والجوازات ليكون هناك شيء واحد اسمه الحكومة العالمية.
حروب ما بعد الحداثة قد يسميها آخرون الحروب الجديدة. في العقود الماضية نشبت حروب كثيرة. نتائجها كانت متشابهة: تقسيم دول على أسس عرقية ودينية، أو الإبقاء عليها كما هي، ولكن مع نهب ثرواتها وتكريس تبعيتها من خلال حكام فاسدين.. النموذج الأوضح هو دول البلقان ودول القوقاز في آسيا الوسطى التي استقلت بعد سقوط الاتحاد السفياتي.
تخضع الشعوب لأكبر مقاولة سياسية يستخدم فيها خطاب الهوية أداة للتقسيم. والهوية هنا مشترك ثقافي له تمظهرات متعددة قد تكون دينا أو مذهبا أو لغة أو إثنية.. هذه الهوية استخدمت أداة للتقسيم ولكنها أيضا تستخدم للوصول إلى السلطة. الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا تفعل ذلك، لكنها ليست المثال الوحيد.
والسياسة على قاعدة الهوية لا تريد تجميع الناس وكسب عقولهم وقلوبهم، وإنما تريد التصفية من أجل التخلص من المختلف ثقافيا أو إثنيا من خلال الفرز والتهجير والتطهير والقتل الجماعي. فهي سياسة إقصائية تتناقض مع السياسة القائمة على الولاء السياسي أو الأيديولوجي، ولا معنى للقيم الإنسانية لديها. ومثالها ما حدث في يوغسلافيا ودول إفريقية عديدة.
الحرب اليوغوسلافية، في التسعينيات، استعادت، في بعض جوانبها، أساليب حروب ما قبل الحداثة حيث تمت التعبئة على أساس الهويات والعصبيات، واستخدمت المليشيات وتم استهداف المدنيين على أوسع نطاق. كان ذلك، عمل تراجعي نحو زمن تصور الكثيرون أنه انتهى. اختفت الحروب الحديثة بكل خصائصها حيث الاعتماد على الجيوش النظامية المنضبطة والأيديولوجيا الشمولية كما في حركات التحرر الوطني..
أصبحت حروب ما بعد الحداثة مهمة تقوم بها قوى غير نظامية، أو إنها تحولت إلى مزيج من القوى النظامية وغير النظامية para – military، حيث ظهرت ميليشيات ومرتزقة تقاتل هنا وهناك. وحتى الأزياء لم تعد موحدة بالضرورة والهندام صار متفاوتا. الحروب الحديثة تقوم بها الدول وقواها النظامية. كانت الدولة هي التي تحتكر القوة، بعد أن تم تجاوز ما كان حاصلا في القرون الوسطى. في الحروب الجديدة دخلت القوى المليشياوية وشركات الأمن والجيوش الشعبية.. وفي كثير من الأحيان تتم الاستعانة بالمجرمين وأصحاب السوابق واستيعابها داخل مليشيات.
كانت الحروب الكلاسيكية تتجنب المدنيين وكانت الجبهات هي الفيصل في تحقيق النصر وفق معاهدات دولية مثل معاهدي جنيف 48 ولاهاي 75. حتى حروب التحرير كانت تلتزم تلك المعاهدات رغم أن المستعمر كان، في الغالب، متحللا من أية معاهدات. ونسبة الضحايا المدنيين كانت واحد بين كل ثمانية قتلى. لكن الحروب الجديدة دخلت المدن والأحياء الشعبية وأصبحت المؤسسات المدنية مستهدفة. لم تعد هناك أية معاهدات أو اتفاقيات محترمة وأصبحت النسبة الأكبر من القتلى والجرحى من المدنيين. اضطر الناس إلى ترك بيوتهم والهجرة أو النزوح. بل إن كثيرا منهم واجه الحصار بسبب وجود مقاتلين بينهم فكانت هناك الكثير من القصص التي تروى حول المجاعات في يوغسلافيا ودول افريقية. أما المثال الحي، فهو سوريا التي يتعرض فيها المدنيون لكل تلك الأشكال من المعاناة.
لم تعد عمليات القتل الجماعي والتهجير والتجويع ممارسة تستحق الملاحقة القضائية، بل صارت شيئا عاديا. حروب ما بعد الحداثة أضحت ردة نحو ممارسات ما قبل حداثية. فقدَ القانون الدولي والمعاهدات والمواثيق حرمتها وباتت الحروب لا أخلاقية. صحيح أن الحرب مقترنة بالقتل والأسر. غير أن هناك أخلاقيات متعارف عليها مثل تحريم التمثيل الجثث وتعذيب الأسرى واستهداف المدنيين وحصار الناس وحرق المزارع وتدمير المصانع والمؤسسات.. لم تعد محترمة.
وما يجمع تلك الحروب هو أنها تحدث خارج المجموعة الغربية الرأسمالية. هي حروب في فضاءات مستباحة غربيا وأمريكيا، قد تكون دولا إفريقية أو آسيوية أو لاتينية أمريكية.. وعندما ظهرت حروب في بعض مناطق أوروبا، فإن ذلك كان من أجل تفكيك المجموعة الشيوعية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وحتى قبله. لا تحدث حرب أهلية في دولة غربية، والسبب هو أن الغرب نفسه هو من يفتعل الحروب بأشكالها المتعددة ومنها الحروب الأهلية. فليس أسهل عليه من إشعال حروب داخلية من أجل النهب والإخضاع. وتلك الحروب الداخلية هي في الحقيقة حروب أمريكية وغربية لأن أمريكا والغرب هم من يشعلها. وهم من يغذِّيها.
أما الطابع الغربي الأمريكي الناعم لتلك الحروب يتجلى من خلال الشبكة الدولية للمعلومات. وكذلك شبكات التواصل. فهناك أولا تدريب يتلقاه في أمريكا وأوروبا كثير من شباب الدول المستهدفة من أجل التحريض على العنف وإثارة الغرائز الطائفية والإثنية وتعميم الفوضى. وهناك ثانيا التمويل الضخم للأفراد والمنظمات والجمعيات والمؤسسات التي قبلت بالانخراط في المشروع الأمريكي لتعميم الفوضى والفساد والحرب. وهناك ثالثا شراءٌ لذمم الأحزاب والسياسيين الذين يمثلون شيئا وازنا داخل مجتمعاتهم. بل إن العمل داخل الجامعات والمراكز العلمية والبحثية لم يتوقف. فكل برامج تلك المؤسسات ومناهجها ومشاريعها هي ترويج للثقافة الغربية وانتصار لقيمها المزيفة.

حروب ما بعد الحداثة هي حروب أمريكا ضد الشعوب المستهدفة من أجل تدميرها أو إخضاعها. وهي حروب تدار في الأغلب من بعيد من خلال تدريب وتسليح وتمويل الجماعات الموالية ثم إرسالها على العدو الذي لن يجد أمامه سوى خيارين؛ إما الدفاع أو الاستسلام والهزيمة. وهي أيضا ليست فقط حروبا عسكرية، بل هي أيضا حروب إعلامية وثقافية واقتصادية. الفكرة الأمريكية الجديدة هي: فلنجعل أعداءنا يتقاتلون، فهذا أفضل لنا ولمصالحنا.

ليست هناك تعليقات: