الاثنين، 2 أبريل 2018

هل يمكن بناء القيم الأخلاقية على أساس الفكر الإلحادي؟



قاسم شعيب



يبحث علم الأخلاق في ما ينبغي أن يكون عليه سلوك الإنسان. فالأخلاق لا تقبل بما هو واقع دائما، بل تبحث عن الأفضل والأكمل من أجل تحقيقه. وإذا كان العلم الطبيعي يريد اكتشاف الواقع من خلال الملاحظة والتجربة والسبر والاستنتاج، فإن العلم الأخلاقي يريد الانطلاق بالواقع نحو آفاق أجمل اعتمادا على قدرات الإنسان الكامنة. والفرق الآخر بين الاثنين هو الموضوع لأن العلم الطبيعي يبحث في هو مادي بينما تبحث الأخلاق فيما هو روحي.
يفتقر الملحد إلى مرجعية نهائية تحدد له بوصلة الحركة. ولأجل ذلك يرفض الاعتراف بوجود الحقيقة المطلقة ويعتبر الحقيقة نسبية وذاتية وكل إنسان يراها على طريقته. لا شك أن الذاتية والنسبية ليست خاصة بالملحدين بل إنها تشمل المثاليين واللادريين والشكاكين والريبيين والوجوديين.. وباختصار كل النزعات الذاتية على مختلف تلوّناتها.
يختلف الفلاسفة في الأسس والمعايير التي يقوم عليها العقل العملي. وهناك معياران أو أساسان عندهم. الأول، الأساس الذاتي. والثاني، الأساس الموضوعي. والأساس الذاتي ليس شيئا آخر سوى الرؤية الذاتية للشخص أو مجموعة الأشخاص أو المجتمع في عمومه. أما الرؤية الموضوعية فهي التي تعتمد أسسا واقعية منفصلة عن الإنسان وتتفق حولها جميع العقول. فهذا الاتجاه يرى أن القاعدة الصلبة للأخلاق متحققة في الواقع الخارجي خارج ذهن الإنسان. وهي لذلك صحيحة في ذاتها حتى لو لم يؤمن بها أحد.
لا يؤمن الإلحاد بالأساس الموضوعي للأخلاق ويتبنى الأساس الذاتي القائم داخل الذهن الإنساني. فهو يقيم تصوراته على المعيارية الذاتية، لكن مشكلة هذه المعيارية في نسبيتها. ذلك أنها لا تقبل بالإطلاق، وهو ترى أن الأحكام الأخلاقية تتباين بحسب تباين وجهات النظر وتعدد الأفراد. فالمجتمعات تختلف قواعدها الأخلاقية باختلاف ثقافاتها وتقاليدها وأنساقها الفكرية والدينية. وهذا ما يعني غياب مرجعية ثابتة ونهائية في نظر الاتجاهات المادية والوضعية لأن المرجعية لديهم ليس واحدة بل متعددة، والأخلاق ليست نهائية بل متغيرة.
يعترف جان بول سارتر بحقيقة أن الإلحاد وإنكار وجود الله يعني ضرب كل القيم[1]. لكن الحرج الذي شعر به سارتر والناتج عن التداعيات المدمرة لإنكار وجود الله حاول ريتشارد دوكنز المعروف بإلحاده الالتفاف عليه من خلال إنكار وجود الخير والشر والحديث عن عدمية مطلقة للوجود فقال: "في هذا العالم لا يوجد شر ولا يوجد خير، لا يوجد سوى لامبالاة عمياء وعديمة الرحمة"[2]. وهو بذلك يتجه إلى نوع من النسبية الأخلاقية والعدمية الوجودية التي لا يمكن بناء الحياة على أساسها بسبب تصادم المصالح والأهداف والرؤى.
 وبالفعل، فإن إنكار وجود الله ورفض اعتباره ضامنا للحق والخير والمسؤولية يعني استباحة كل شيء، وهو ما يعني الانخراط في عبثية تدمر الحياة لا محالة. وهذا ما فهمه الباحث الأميركي اللاأدري ديفيد برلنسكي عندما قال مفسرا مقولة ديستوفسكي: "إذا كان الإله غير موجود فكلّ شيء مباح"، "فإذا لم تكن الواجبات الأخلاقية مأمورة بإرادة الله، ولم تكن في الوقت ذاته مطلقة، فإن (ما ينبغي أن يكون) هو ببساطة ما يقرّره الرجال والنساء. لا يوجد مصدر آخر للحكم. هل هذه إلا طريقة أخرى للقول بأنه طالما أن الإله غير موجود، فكل شيء مباح؟"[3].
تعني نسبية القيم تحوّل مفاهيم الحق والخير والفضيلة إلى أشياء نسبية متغيّرة بحسب نظرة الشخص لها حيث لا مرجعية موحدة تجمعها. والقول بنسبية القيم يعني أنه لا يوجد معيار للقيم وأن المنطق الإلحادي والوضعي عامة لا يملك معيارا لها. لا يستطيع الفكر المادي الوضعي تفسير مفاهيم الوعي والإدراك والقيم الأخلاقية. ولا يمكنه الاعتراف بوجود مكوّنات غيبية فوق طبيعية في عالمنا، وكل ما يستطيعه هو السعى إلى البحث عن تصوّر مادّي جديد يستطيع تقديم مبرّرات موضوعية تسوّغ الفعل الأخلاقي الإنساني في إطاره.
 إن إنكار الواقع الموضوعي للقيم واتفاق الناس جميعا حولها لا حل له نظريا إلا باللجوء إلى مقولة النسبية التي لا تصمد أمام أية محاججة منطقية. فالناس يتعاملون في الحياة العامة على أساس التسالم على تلك القيم. ولولا ذلك لاستحالت المعاملات الإنسانية. فأشياء مثل الأمانة والعهود والصدق والحقوق لو لم تكن موضوعية متفق عليها بين الناس لما كانت المعاملات المالية والتجارية والاجتماعية ممكنة.. بل إن الادّعاء بنسبية القيم من الممكن أن يحوّل القتل إلى ممارسة متهوّرة لا تقوم على أساس سوى الأهواء والنزوات. وهو أخطر ما يمكن أن يصيب الحياة العامة.
إن الحديث عن نسبية الأخلاق يعني بوضوح استباحة كل شيء. يصبح الزنا والسدوية والشذوذ والخيانة والكذب والقتل والشر والرذيلة.. أشياء مبرّرة تماما. ولعل هذا ما وصلت إليه اليوم بعض المجتمعات والأفراد كما هي حالة لورنس كراوس الذي يعتقد بصحة زنا المحارم في مناظرته مع حمزة تزورتيس. وكذلك ريتشارد دوكنز الذي رأى أن الإجهاض فعل أخلاقي ومشروع طالما ليس هناك ألم، وبرّر ذلك بقوله: "لأن الجنين في بطن أمّه هو أقل إنسانية من أي خنزير بالغ"[4]. وهذا التبرير يوضح قيمة الإنسان في رأي دوكنز!
وبالمنطق ذاته تصبح السدومية والمثلية الجنسية ممارسة مشروعة بل يصبح الجنس مع البهائم شيئا مشروعا كما قال الأسترالي بيتر سنجر. فمادام ذلك لا يتضمن أذى من أي نوع للحيوان فهو أمر طبيعي ومقبول في إطار حميمية العلاقة بين الحيوانات والإنسان[5]. لا يهتم أتباع هذا التيار بقيمة الحياة الإنسانية التي لا يمكن لشيوع ممارسات السدومية والجنس الحيواني سوى تدميرها فضلا عن الأمراض التي تسببها تلك الممارسات الشاذة والمصادمة للطبيعة.
ليس الإلحاد حقيقة تتحرك داخل الإنسان. بل هو مجرد أداة لتبرير اعوجاج في السلوك والفكر يعاني منه الشخص. يؤمن كل الناس في قرار أنفسهم بالله خالقا لهذا الوجود. غير أن الذين يقبلون برسالاته ويسلّمون لأمره قلة من الناس. مشكلة الإنسان مع الله كانت دائما في طاعته وليس في الإيمان بوجوده.
والأخلاق مثل بقية القيم الحقوقية هي الضحية الأولى لنزعات الإلحاد المزعومة. ذلك أن إنكار الوجود الإلهي مجرد مدخل لإنكار رسالاته ورفض القيم التي دعا إليها. لا شك في حاجة الأخلاق إلى الإيمان والعقل معا، فهما صديقان لا ينفصلان. ورغم أن البعض قد يرى إمكانية لتأسيس الأخلاق على العقل فحسب، إلا أن هذه ليست إلا حالة قلة من الناس. ذلك أن أكثر الناس تحركهم الانفعالات والعواطف، والثواب والعقاب. فما لم يكن هناك ثواب محتمل أو عقاب متوقع، فإن هذا الصنف من الناس ليس بإمكانه الالتزام بأية ممارسات أخلاقية.
ولأجل ذلك يرى أغلب الناس أن الإلحاد لا يمكنه أن يكون أساسا للأخلاق، بل إنه سبب رئيسي في تدميرها. وهم يستدعون التجربة السياسية لبلدان المعسكر الشيوعي لتأكيد ذلك.
إن الماديين والملاحدة ليس بإمكانهم تبرير القيم الأخلاقية حتى وإن آمنوا بها. فالأخلاق تحتاج إلى الدّين والعقل، وكلاهما مرفوض لدى المدرسة المادية. وبرفضهم للدّين والعقل لا يبقى لديهم أساس موضوعي للفعل الأخلاقي.
يمكننا أن نجد ماديين وملحدين يمتلكون أخلاقا ولكن لا توجد أخلاق إلحادية. والسبب هو أن الملحد يتأثر ببيئته وتربيته ومنهما يكتسب الالتزام الأخلاقي. أما الإلحاد النظري ذاته فهو لا يقبل الأخلاق الموضوعية والمطلقة المؤسسة بالضرورة على الدين أو العقل أو كليهما.


[1] Jean-Paul Sarte: Basic writings, New York: Routledge, 2001, P.32.
[2] Richard_Dawkins, River Out of Eden:A Darwinian_View of Life, P.133.
[3] David Berlinski: The Devil’s Delusion:Atheism and It’s Scientific_Pretensions, P.19,40.
[4] Richard Dawkins tweets on abortion. https://www.lifesitenews.com/opinion/richard-dawkins-tweets-on-abortion-any-fetus-is-less-human-than-an-adult-pi.
[5]  بيتر سينغر، الالحاد وجماع الحيوانات https://www.youtube.com/watch?v=2pG01ASbgyM.

ليست هناك تعليقات: