السبت، 3 سبتمبر 2016

حوار مع المفكر قاسم شعيب: في تحرير العقل الاسلامي العربي، ونظام الحداثة والدين







مرحبا دكتور قاسم في موقع مؤسسة مؤمنون بلا حدود.
مرحبا بكم.
1-هل يحتاج العقل الاسلامي العربي بالفعل الى التحرير؟ وما هي شروط التحرر؟ ومن ماذا؟
من الواضح أن ما يمكن أن نسميه العقل الإسلامي أي العقل الذي يرى نفسه يفكر من خلال نصوص الإسلام يحتاج إلى تحرير. فهو عقل يرى نفسه عقلا إسلاميا لكنه في الحقيقة عقل بونورامي تحكمه مرجعيات متعددة ومتضاربة في أحيان كثيرة. إننا لو فتحنا عقل إنسان عربي، سنجد أنه مشكَّل من أفكار دينية وحداثية واجتماعية وأسطورية وخرافية وعلمية في وقت واحد. فهو إنسان يتحدث مرة لغة الحداثة والتنوير لإقناعنا بصحة وجهة نظره، ومرة يتحول إلى شيخ دين يتلو علينا الكثير من الآيات والأحاديث لتبرير فكرة أو موقف، وفي أحيان كثيرة نفاجأ بكائن مؤمن بأساطير وخرافات لا وجود لها إلا في بعض الأذهان بل إن الكثير منا تجده محافظا وحداثيا في وقت واحد دون أن يشعر بتناقض..
وتنوع المرجعيات ليس مشكلا في حد ذاته لو تم تحقيق الانسجام المطلوب بينها، لكن المشكل يتبدى عندما تنعكس تلك الأفكار والمرجعيات المتناقضة في الواقع صراعا في كل الاتجاهات. صراع مع الذات وصراع مع المجتمع وصراع مع الآخر وصراع مع الطبيعة وحتى صراع مع الله كما يؤمن به الناس العاديون أو كما يفهمه المثقفون على تنوعهم. وتلك الصراعات إنما تعبر في النهاية عن تيه العقل العربي وعجزه عن صناعة الفكرة التي تجمع حولها المجموعة الوطنية، لأنه من دون فكرة جامعة لا يمكن تحقيق الانطلاقة التي تريدها شعوبنا.
إن أي عملية بناء حضاري تحتاج أولا إلى الفكرة الجامعة التي قد تكون فلسفة كما حدث مع الإغريق القدامى أو مع الأوروبيين في المرحلة الحديثة. وقد تكون دينا كما حدث مع المسلمين زمن الرسالة. وقد تكون إيديولوجيا كما حدث بالنسبة للأنظمة اليسارية في روسيا والصين وأمريكا الجنوبية ومناطق اخرى من العالم..
تحرير العقل يعني العودة إلى الذات من أجل مراجعة كل مسلماتها. ولا بأس من استعادة مناهج الشك المنهجي أو النقد الكانطي وصولا إلى التحرر من كل ما يعيق حرية العقل في تفاعله مع واقعه ومحاكمة تراثه تماما كما يحاكم أحدنا أي عقل آخر. وهذا العمل لا يمكن أن يقوم به شخص واحد أو فيلسوف واحد أو مفكر واحد بل إنه يحتاج إلى تفاعل كل العقول.
ومن المهم القول إن تلك العملية التحررية تحتاج إلى أساس. وذلك الأساس يجب أن يكون منظومة القيم التي تؤمن بها الإنسانية العاقلة كما هي قيم الحياة والحق والخير والجمال والعلم والمعرفة والفضيلة والعدالة والحرية.. فهذه القيم وغيرها عندما تقبل بها المجموعة، تصبح أية منظومة فكرية عندما تطرح خاضعة لها. وبذلك تتم صناعة رؤية جديدة موجهة هذه المرة لخدمة النوع الإنساني وليس لخدمة الفرد فحسب كما في المنظومة الليبرالية أو خدمة المجموعة وحدها كما في النظم الاشتراكية. فالقيم تأبى التخصص وتروم الكلية والشمولية، لأن العدالة مثلا لا تكون عدالة حتى تكون حقا لكل إنسان.
شرط التحرر العقلي هو إذن داخلي وجواني كامن في ذات الإنسان فردا أو مجموعة وهو ليس خارجيا. إن الإنسان ما لم يقرر بنفسه التحرر من أغلاله الفكرية أو الدينية أو الاجتماعية أو النفسية..، فلا يمكن لأية جهة خارجية أن تفعل ذلك بدلا عنه. ويحتاج التحرر الذاتي إلى الوعي والإرادة. الوعي بالحاجة إلى التحرر وإرادة ذلك، لأن الإنسان الذي لا يعي أنه مستعبد لتراث الأجداد أو لثقافة الآخر لا يمكنه أن يخطو الخطوة التالية. والإنسان الذي لا يملك إرادة التحرر لا يمكنه تحطيم أغلاله بل إنه سيضاعف آلامه في هذه الحالة لأنه يعي أنه مستعبد ولكنه في الوقت نفسه عاجز عن تحطيم قيوده.
2-هل يمكن القول إن طريق فلسفة الدين هو طريق ملكي وآمن لتحقق هذا التحرير دون غيره من الطرق والمسالك المعروفة في تاريخنا، الطريق الصوفي العرفاني، الطريق الكلامي، والطريق الفلسفي...؟
إذا فهمنا أن فلسفة الدين هي قراءة فلسفية للدين من خارجه من أجل فهم معقوليته الداخلية ومعرفة جدواه الإنسانية فإنها بلا شك يمكن أن تكون حاسمة في تحقيق هدف تحرير الوعي العربي والمسلم. غير أن طريق فلسفة الدين بذاته لا يمكن أن يكون طريقا ملكيا آمنا بشكل منعزل. فنحن نعرف أن الطرق الملكية الآمنة ليس آمنة بذاتها وإنما هي آمنة بسبب الوجود المكثف للحراس. والحراس بالنسبة لفلسفة الدين هي القيم الإنسانية العليا التي لا غنى عنها حتى لا يضيع فيلسوف الدين في متاهة الأهواء التي كثيرا ما تكون خفية.

إن فلسفة الدين يمكنها على أساس ذلك أن تلتقط العناصر والمقولات الدينية التي يمكن أن تكون المنصة التي تنطلق منها المجموعة لتحقيق أهدافها. ونحن نعرف أن فلسفة الدين كانت لها أهمية خاصة لدى فلاسفة الحداثة والتنوير لأنها منحتهم القدرة على نقد الفكر الكنسي الذي كان يدعي القداسة. ورغم الشطط في تعميم الموقف من الكنيسة على كل الأديان كما يفعل بعضنا، إلا أنه من الممكن الإفادة من تلك المداخل.
إننا لا نستطيع الدعوة إلى "دين أخلاقي" خال من العبادة في محيط مسلم كما كان يفعل كانط بالنسبة لمحيطه المسيحي مثلا لأن ذلك لم ينه الكنيسة وطقوسها ولأنه أدى من ناحية أخرى إلى تصحر الروح الأوروبية وبروز الوحش الذي في داخلها بشكل غير مسبوق تجلى في الحروب العالمية المتتالية وفي حركة الاستعمار وفي القتل المتنقل وفي إثارة النزعات القبلية والإثنية والطائفية من أجل تدمير الشعوب المستهدفة في أكثر من مكان..
وهنا علينا أن نؤكد أن الاسلام، كما نقرأه، يختلف عن المسيحية المتداولة في كل ما يقدمه، كما أن الاسلام لا يزال هو المقدس بالنسبة لكل المسلمين حتى لو كانوا غير ملتزمين بأحكامه وشعائره. ولا شك أن أي حركة نهوض تحتاج إلى المقدس سواء كان فكرة أو فلسفة أو دينا.
وأي عمل نقدي يمكن أن تقوم به فلسفة الدين في علاقة مع الإسلام لا ينبغي أن يستهدف الإسلام نفسه لأن ذلك سيكون خطأ قاتلا، بل ينبغي أن يستهدف التمثلات اللاقيمية والمنغلقة والمذهبية للإسلام مادامت مناقضة لمسلمات العقل الطبيعي ومعاييره القيمية.
وهنا لابد من التمييز بين ما نسميه "إسلام الوحي" و"الإسلام التاريخي" لأن الأول يجعل من القيم الأساس لكل ما يطلقه من أحكام، ويؤكد على مبادئ العقلانية: "الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنَه أولئك هداهم اللهُ وأولئك هم أولو الألباب"، و"لا دين لمن لا عقل له"،  والعدل والانصاف: "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوى". والحرية: "لا اكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"، و"من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"، والسلام: "فإن جنحوا للسلم فاجنح لها"، "ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين"، إلى غير ذلك.. أما الثاني وهو الإسلام التاريخي الذي هو نتاج لرؤى بشرية كان بعضها متلبسا بالأهواء والنزوات، أو متاثرا بالواقع او منفعلا بما طرحته بعض الثقافات الواردة بكل ما تضمنه من حمولات سلبية كما تيارات الغنوصية والمشائية والتصوف أو كما هي مذاهب الجبر والتكفير والإرجاء..
أما الطريق الصوفي العرفاني فإنه عاجز على أن يوصلنا إلى شيء. فهو لا يؤمن بالقيم الأساسية التي يحتاجها الإنسان كما هي قيم العقلانية والحرية والعدالة لأنه يؤمن بشيء يسميه الكشف أو الشهود وهو طريق ذاتي لا يمكن أبدا التأكد من صحته ولا يمكن أن يكون حجة إلا على صاحبه، إذا اعتبرنا أنه يمكن أن يكون حجة. وهو أيضا يتحدث عن الضرورة والحتمية والجبر كما يبدو واضحا في كلمات وأشعار ابن عربي الذي يقول مثلا:
الحكم حكم الجبر والاضطرار            ما ثم حكم يقتضي الاختيار
إلا الذي يعزى إلينا ففي                  ظاهره بأنه عن خيار
ورغم حديث المتصوفة عن الحب إلا أن ذلك الحب لا يمكن أن يكون واقعيا مادام مقسما بين متناقضات. وإلا كيف يمكن أن يحب الإنسان في وقت واحدا الجميل والقبيح، الخطأ والصواب، الخير والشر.. إن التصوف يريد أن يفهمنا أن الثنائيات التي تحكم هذا العالم مغشوشة ولابد من مساواة كل شيء بكل شيء على أساس فكرة وحدة الوجود، التي تؤمن بأن الله والمادة شيء واحد، والوجود والعدم شيء واحد، والفضيلة والرذيلة شيء واحد، والسلام والحرب شيء واحد، والخير والشر شيء واحد.. هذه المساواة المزعومة هي ضرب لقيمة العدالة في ذاتها لأنها تعني تحليل الإنسان من مسؤولياته. فإذا ارتكب أحدهم عملا شريرا، مثلا، فإنه بحسب المنطق الصوفي لا يعاقب لأن الخير والشر متماثلان.. وحتى في العالم الآخر لا يوجد فرق نوعي بين الجنة والنار بالنسبة لابن عربي، وهو ما يعني أن إنكار قيمة العدالة هو كلي وشامل لدى المتصوفة..
وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم    على لذة فيها نعيم مباين
نعيم جنان الخلد، فالأمر واحد    وبينهما عند التجلي تباين
ولأجل ذلك فإن التصوف لا يمكن أن يكون محررا للعقل العربي وهو الذي لا يؤمن من الأساس بهذا العقل، وعمل ما في وسعه من أجل تهميشه واستبعاده مرة باسم الكشف ومرة باسم قابلية الخطأ ومرة بدعوى عدم الجدوى. وهنا نتصور أن محاولات استعادة الفكر الصوفي، كما يفعل الكثيرون، لا تخدم رغبة النهوض لدى الانسان العربي أو المسلم بقدر ما تكرس واقع التخلف والتبعية والخرافة التي يتقنها رجال الصوفية ويحاولون تقديمها إلى الناس تحت عناوين الكرامة وما أشبه.
كما أن علم الكلام يعيش اليوم مخاض إعادة البناء بسبب ما لحق به من تراكمات حولته الى إلى ايديولوجيا تبريرية في أحيان كثيرة لينتهي أن يكون علما. تحول علم الكلام الى أداة للدفاع عن المذهب وليس الدين. وعندما أصبح كلاما مذهبيا أغرق المسلمين في صراعات وحروب من خلال تذاكر الرحلات الجهنمية التي كان ولا يزال يقطعها زعماء المذاهب لأتباع المذاهب الأخرى. فعندما تصبح المذهبية نزعة مغلقة وتكفيرية فإننا لا ننتظر منها إلا إنتاج ما نراه اليوم وما رأيناه طوال التاريخ من صدامات وحروب.
وهنا لابد من التمييز بين الاسلام في ذاته وكلام المتكلمين، لأن الكلام هو في النهاية قراءة للنص الديني، بل قراءات متعددة له. ولا شك أن القراءة تبقى متلبسة بعناصر نفسية وتاريخية واجتماعية ولا تعكس حقيقة النص إلا بشكل نسبي ومحدود.
3- ما هي شروط التفكير الفلسفي في الدين أو إنشاء فلسفة الدين معتبرة؟
نحتاج اليوم إلى بناء فلسفة دين فعالة ومنتجة بشكل أساسي وليس فقط فلسفة دين معتبرة ومتماسكة نظريا. ومعنى كونها فعالة ومنتجة هو كونها قادرة على مخاطبة كل العقول والتأثير فيها بشكل يدفعها إلى قراءة مقولات الدين بشكل عقلاني وصولا إلى تجاوز كل العناصر التاريخية فيه حتى يكون الدين قادرا على بناء رؤية وجودية ومنظومة فكرية تستطيع تثوير الواقع ودفعه نحو الأمام بدل طبيعته الدائرية الحاصلة اليوم حيث لازلنا ندور حول النقطة نفسها ولا نتمكن من الإقلاع. فلسفة الدين يجب أن تكون أداة لإخراج شعوبنا من واقعها الفاسد، وليس فلسفة لذاتها حتى لا تتحول إلى ترف فكري لا جدوى منه سوى السلوى.
ولأجل تحقيق ذلك لابد من شروط أ همها:
اعتماد المنهج الحواري منطلقا حتى تكون ممارسة فعل التفلسف أو "الاشتغال الفلسفي" أكثر نجاعة وأكثر التزاما لما يمكن أن يحققه ذلك من تناول عميق للإشكاليات المطروحة. فالحوار يتطلب تعدد الأطراف المشاركة، مما يعني قبول الآخر والتعايش معه وحتى التنازل عن بعض الذاتيات عندما يقتضي الأمر ذلك.
وعي السياق التاريخي الذي تتموضع فيه المجموعة لأن تحديد السياق له أهميته في فهم الواقع وتشخيص الأدواء واجتراح الحلول بعيدا عن تلك المعالجات الخاطئة التي كانت تقرأ الواقع بنظارات خشبية وتقدم أدوية لأمراض غير موجودة، فيما يحتاج الواقع الى أدوية أخرى تناسب أمراضه الخاصة. فمثلا من الخطأ اليوم محاولة صناعة فلسفة للدين تحاول إقصاء الاسلام ذاته، كما فعل فلاسفة كانط واسبينوزا مثلا مع المسيحية، بدعوى أنه تحول إلى معيق لمحاولات النهوض. خطوة كهذه لن تكون إلا استمرارا لمحاولات سابقة أثبتت فشلها. فالإسلام لم يكن يوما سببا للتخلف بل إن عمليات التشويه التي تعرض لها هي سبب ذلك التخلف. ودور فلسفة الدين هو تنظيفه من تلك التشويهات، وتحديد الجوانب التاريخية فيه من أجل تجاوزها..
أولوية القيم على الواقع لأننا لا نستطيع أن نصنع فلسفة دين تريد قراءة الدين من خارجه بشكل عقلاني لفهم معقوليته الداخلية وغاياته الخارجية لتكون أداة لتغيير الواقع دون أن تكون تلك الفلسفة متوفرة على إطار عام يخدم الإنسان لتتحرك ضمنه. وهذا الإطار لابد أن يكون سلسلة القيم الإنسانية الرفيعة. فالقيم تدفع وترفع والواقع يُجمِّد.
4-هل هذا ما كنتم تقصدونه بالمفهوم الفلسفي للوجود او بالأحرى النظر الفلسفي في مناحي الوجود ومراتبه؟
"المفهوم الفلسفي للوجود" هو عنوان الكتاب الأخير الذي صدر عن مجمع إفريقية في تونس 2015. وهو محاولة لطرح خطوط أولية لموقف معرفي ورؤية وجودية مختلفة. فالفلسفة تقدم رؤية للوجود في مبدئه وصيرورته وغايته. لكن الرؤى الوجودية في تاريخ الفلسفة متعددة. ومع ذلك نستطيع التمييز بين رؤيتين أساسيتين الأولى هي الرؤية الغائية للوجود والثالية هي الرؤية الآلية.
والرؤية الفلسفية للوجود، شأنها شأن الرؤية الدينية، حاسمة في تحديد مسار أي مجتمع. وعندما نتحدث عن العالم الغربي، فإن الرؤية الآلية والاتجاهات المادية والوضعية هي التي انتصرت على ما سواها من رؤى عقلانية أو مثالية وهي التي حددت الخيارات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمجتمعات الغربية.
ومن الواضح أن تلك الرؤية الوجودية، التي انبثق عنها نظام لحياة الإنسان الغربي الحديث الذي جرى تعميمه على مستوى العالم، مسؤولة عن كل ما نراه اليوم في الواقع الإنساني في جانبه الايجابي كما في جوانبه السلبية. ولأجل ذلك ظهر فكر ما بعد الحداثة باعتباره الفكر الذي يريد نقد ما يراه جوانب مظلمة في فكر الحداثة. ثم انتشرت أحاديث النهايات؛ نهاية الإنسان، نهاية الإيديولوجيا، نهاية التاريخ، نهاية الحداثة.. لكن فكر ما بعد الحداثة سقط بدوره في نزعة غرائزية مفرطة نرى تجلياتها اليوم في الدعوة إلى استباحة كل المحظورات مهما كانت مدمرة كما هي السدومية والإدمان والعنف والانتحار..
ولأجل ذلك يحتاج العرب والعالم كله في هذا المنعطف التاريخي إلى رؤية جديدة للوجود تتجاوز ما قدمه فكر الحداثة وفكر ما بعد الحداثة معا. وهذه الرؤية لابد لها أن ترى بعينين وليس بعين واحدة كما فعلت الحداثة الغربية. وهذا ما دعا إليه هذا الكتاب.
5-لكن ألا تحتاج مقاربات فلسفة الدين لقواعد وشروط هرمنيوطقية ودلالية للخوض في تجربتها؟ ثم ماهي الانعكاسات على العقل الاسلامي والعربي؟
ليس من مهام فيلسوف الدين تفسير نصوص الدين أو تأويلها. فهذه مهمة من يشتغل على النصوص من داخل الدين نفسه. يتركز عمل فيلسوف الدين على الدين من خارجه. فهو يأخذ مسافة من كل الأديان ويعمل على تقديم قراءة موضوعية تحاول معرفة معقولية الطروحات الدينية ومدى تلبيتها لحاجات الإنسان.
لكن هذا الكلام قد يكون نظريا جدا لأن فيلسوف الدين هو أيضا يقرأ نصوص الدين ويفهمها على طريقته. وهنا من المهم تحديد قواعد للتفسير والتأويل. فمثلا كَتَب كانط وهيغل في فلسفة الدين وكلاهما قرأ المسيحية على طريقته ومن خلال منهجمه. فانتهى كانط إلى رفض المسيحية وطقوسها وشعائرها داعيا الى ما سماه بالدين الاخلاقي الحر الخالي من الطقوس والشعائر. بينما رأى هيغل في المسيحية دينا كاملا يمثل نهاية الأديان التي وصلت إليها الصيرورة التاريخية وهو ما جعل بعضهم يصف الفلسفة الهيغلية بالدين المقتع.
غير أنه في المقابل هناك من الفلاسفة من رفض معاداة الدين أو الارتماء الكامل في أحضانه، فحاول اجتراح طريق ثالث واشتغل على تجسير العلاقة بين الفلسفي والديني من خلال البحث عن تقاطعات تصالحية بينهما كما فعل بول ريكور مثلا كتابه "صراع التأويلات" على أساس منهجه الفينومينولوجي. كان همه كشف الطبيعة الخيرة للإنسان واستخراج الأبعاد القيمية للقصص الديني من خلال نزع الطابع الأسطوري عن المقدس وإزالة التشفير عن اللغة الرمزية وصولا إلى بناء علمانية ثالثة تخرج على التجاذب بين مضيق اللاهوت القروسطي ودولته التيوقراطية وتشنج الأطروحات اللائكية المعاصرة المعادية للإيمان. وهو لذلك أراد فصل السياسي عن الديني وإبراز الأبعاد الكونية والإنسانية للعهد القديم، فاتحا الباب أمام مشروعية تعدد الاجتهادات في قراءة النص الديني.
وهذا العمل يمكن أن يفيد في تفكيك العقل العربي الذي صنع التراث المتمحور حول النص والتأثيرات الممكنة للعقل اليوناني عليه، لأنه من المهم اكتشاف الأسباب العميقة للصراع بين الفلاسفة والمتكلمين والمتصوفة. وهو صراع متعدد الجذور والأبعاد، وصولا الى معرفة الاختلافات المحتملة بين المعقول الاسلامي والمعقول اليوناني من جهة، وبين المقولات الدينية في الكتاب المقدس ونظيراتها في القرآن الكريم من أجل فهم طبيعة الصراع والبحث عن إمكانات تجاوزه.
6-كيف ترون علاقة الدين بنظام الحداثة؟
تتعدد الأديان وتختلف. ولذلك تعدد مواقفها من نظام الحداثة. لكن لو أخذنا الاسلام مثالا باعتباره الدين الذي يهمنا أكثر من غيره، فإن علاقته بالحداثة لازالت ملتبسة، وليس المقصود الاسلام نفسه وإنما المتحدثين باسمه. وهذا الالتباس ناتج في أكثر الأحيان عن سوء فهم للإسلام والحداثة؛ أحدهما أو كلاهما. فالمثقف الديني ينقصه الاطلاع الكافي على المنجز الفلسفي والفكري والعلمي الحداثي، والمثقف العلماني ينقصه الاطلاع اللازم على المنجز التراثي. وعندما يوجد مفكرون يحيطون بالمنجزين بالشكل المطلوب، فإن ما يغلب عادة هو الخلفية الايديولوجية أو المذهبية المستترة لهم.
وهذا يحيل إلى مشكلتين أساسيتين أخَّرَتا الوصول الى توافق على فكرة جامعة للكتلة العربية والمسلمة من أجل الانطلاق على أساسها. المشكلة الأولى هي نقص الإحاطة المعرفية بالآخر أو الأنا أو الإثنين معا. والثانية هي تحكم الأهواء الايديولوجية في نتائج البحث العلمي حيث كثيرا ما تكون النتيجة غير منسجمة مع اتجاه البحث.
ومن هنا ذلك التجاذب بين من يدعو إلى "تحديث الإسلام" ومن يطالب بـ"أسلمة الحداثة". فالأول يتصور أن الاسلام نفسه أصبح قديما ويحتاج إلى عملية تحديث. ولا شك أنه يريد تحديث الاسلام على أساس المعطى الحداثي، بمعنى أنه يريد إخضاع المقولات الإسلامية وتبرير المقولات الحداثية من خلالها كما هي محاولات استباحة المثلية السدومية مثلا من خلال القرآن. أما الثاني فإنه يريد إخضاع فكر الحداثة ومفاهيمها للرؤية الدينية وتبرير مقولاتها من خلال الحداثة كما هي قصص الإعجاز العلمي في القرآن مثلا.
بينما المطلوب هو شيء آخر وهو تحيين الذات أولا. فالإنسان العربي مطالب أولا بالتخلي عن سلبياته الفكرية والعملية التي تعيق كل حركته. وهذا الأمر يمكن أن يتحقق من خلال استعادة القيم الرفيعة التي لا اختلاف حولها وإعطاءها مكانتها اللازمة في حياة هذا الانسان. وهذا يحتاج إلى كسر الأغلال الثلاثة التي تكبل الانسان العربي والمسلم بشكل عام. وتلك الاغلال هي:
 أولا: أغلال التاريخ حيث لازال يحكمنا الأموات ويُمْلون علينا كيفية عيشنا على طريقة: "وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْـزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلا يَهْتَدُونَ". المائدة، 104.
وثانيا: أغلال المجتمع فيما هي العادات والتقاليد والأعراف التي انتهت صلاحيتها ولم تعد مجدية لأن من تلك العادات ما لا مشكلة فيه ومنها ما يزال يشكل إعاقة للوعي والحركة كما هي إدانة القرآن لهذا النمط: "وقالوا إِنا أَطعْنا سادتَنا وكبراءَنا فأضلُّونا السبيلَ" الأحزاب، 67.
وثالثا: أغلال النفس حيث الأهواء الجامحة والغرائز المنفلتة. فنحن لازلنا بعيدين عن الموضوعية العلمية والعملية. لازالت مواقفنا محكومة بأهوائنا الطائفية وغرائزنا الإيديولوجية ولازالت ممارساتنا خاضعة للمصالح الذاتية الضيقة بعيدا عن أي تفكير في مصالح المجموعة أو النوع. بل إن الأهواء أصبحت لدى الكثيرين آلهة تعبد: "أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا" الفرقان، 43.
وهذا يعني أنه قبل التفكير في الموضوع، لابد من التفكير في الذات أولا. وعندما يتم تنظيف الذات فإننا حينئذ سننجح في عكس صورة الدين والحداثة في داخلنا بشكل صحيح. فكما أن المرآة لا تعكس حقيقة الصورة إلا بقدر صفائها، فكذلك لا يمكن للإنسان المتخلف أن يفهم دينه أو تراثه أو إنجاز الآخرين إلا بشكل متخلف.
7-ماهو جديدكم في المستقبل؟
هناك عمل على خطين متوازيين الأول هو خط الأنا حيث يحتاج العقل العربي إلى تحرر ذاتي من كل ما يعيق حركته وقدرته على الإبداع والانجاز فيما هو الموروث الفقهي والكلامي والتفسيري والفلسفي.. والثاني هو خط الآخر الذي لا يزال يؤثر فينا بقوة من أجل تبين كل نقاط القوة فيه للإفادة منها ونقاط الضعف فيه لتجاوزها. وفي هذا الإطار هناك أعمال جاهزة للنشر وأخرى في طور الإنجاز.
شكرا لكم دكتور قاسم شعيب على تفاعلكم
أشكركم على اهتمامكم وأتمنى لمنبركم التوفيق.حوار مع المفكر قاسم شعيب: في تحرير العقل الاسلامي

ليست هناك تعليقات: