قاسم محمد
يحمل الاتفاق الأمريكي الروسي بنودا ماكرة،
ولولا ذلك لتم الكشف عنها جميعا. اتفق الروس والأمريكان على الإبقاء على جزء من
بنود الاتفاق طي الكتمان. ومن الواضح أن الأمريكان هم من أصر على ذلك، بعد أن طالب
الروس بالكشف عنها وتلقوا رفضا أمريكيا في ذلك. وافق الروس على البنود الخفية، ولا
شك أنهم لم يروا فيها تهديدا لمصالحهم.
لم يظهر الأمريكي جدية في إنهاء الصراع السوري
حتى الآن. والهدف هو استنزاف الجميع وإنهاكهم حتى تأتي اللحظة المناسبة التي ربما تكون
قد حانت الآن مع نهاية ولاية أوباما. لا تحارب أمريكا في سوريا بشكل مباشر. وإذا ما
استثنينا بعض القوات الخاصة، فإن من يحارب نيابة عنها هي المعارضة المسلحة
والجماعات السلفية إضافة إلى داعش والنصرة وقوات سوريا الكردية. وجد الأمريكيون،
حتى الآن، متعة في إطالة أمد الصراع فذلك ما يحقق لهم الهدف الاستراتيجي في تدمير
سوريا أولا، ثم الانقضاض على السلطة تاليا.
لا يفكر الروسي بأكثر من مصالحه الاستراتيجية
وقواعده العسكرية ومنافعه الاقتصادية في سوريا. وكما أعلن بوتين ووزير خارجيته أكثر
من مرة، فإن الأسد لا يعنيهم كثيرا وهو ليس حليفا لهم! وهم ليسوا متمسكين به مادام هناك بديل مماثل أو أفضل لمصالحهم.
بعد ست سنوات بلغت الخسائر السورية حدا مرعبا
وغير مسبوق. وقال المركز السوري لأبحاث السياسات أن عدد الخسائر البشرية
التي لحقت بالسوريين خلال السنوات الخمسة الماضية وصل إلى نحو 470 ألف في كسر جديد
للأرقام التي أعلنتها وتصر عليه الأمم المتحدة. وقال التقرير الذي نشرته الغارديان
يوم 11 فيفري/ شباط 2016، أن "نحو 11.5% من سكان البلاد قُتلوا من جراء الصراع
منذ مارس 2011، في حين يقدر عدد الجرحى بنحو 1.9 مليون إنسان، فضلاً عن انخفاض متوسط
العمر المتوقع عند الولادة من 70 في 2010 إلى 55 في عام 2015"، لافتاً إلى أن
"التقارير تقدر الخسائر الاقتصادية في البلاد بنحو 255 مليار دولار".. بينما يقدرها مركز فرونتيير
إيكونوميكس الأسترالي للاستشارات ومؤسسة ورلد فيجن الخيرية بـ275 مليار دولار حسب دراسة
أجراها. وتحتاج سوريا إلى 20 سنة لإعادة البلد إلى وضعه السابق.
هذا يكفي لتأكيد أن أمريكا وإسرائيل حققتا
جزء كبيرا من هدفهما في تدمير سوريا. وهو أمر ما كان ليحدث لولا وجود أدوات داخلية
وإقليمية نفذت العملية بشكل أفضل بكثير مما لو تولته أمريكا بنفسها كما فعلت في
العراق مثلا.
لم يربح أي طرف من أطراف الحرب في سوريا.
والرابح الوحيد هو شركات السلاح وإسرائيل التي لا تقصّر في كل مرة، عندما تنزلق
بعض القذائف الى داخل الأراضي المحتلة، في تسيير بعض طائرتها لقصف مصادر النيران،
ثم العودة الى قواعدها بسلام.
الاتفاقية كان من المفترض أن يكون أطراف
الصراع على الأرض جزء منها. فوجودهم هو ما يعطيها ضمانات التنفيذ. لكن ما رأيناه
هو وجود طرفين فحسب. والطرفان هما القوتين الأكثر تأثيرا في ما يجري. حتى الآن لا
ندري هل تم إعلام الحكومات السورية والإيرانية والتركية والسعودية باعتبارها
أطرافا للصراع أم أن الاتفاق، كما هو مرجح، ثنائي وسري بين القوتين العظميين.
يخفي الاتفاق بنودا ملغومة لا تريد أمريكا
إعلانها. أما الروس فيبدو أنهم يرونها مناسبة لهم. والاحتمال الأرجح هو أن الإدارة
الأمريكية باعت المعارضة السورية المسلحة. إن من يتابع ردات فعل المعارضين
ومحلليهم يلاحظ بسهولة شتائمهم الموجهة لأمريكا بعد أن أصبحت، في نظرهم، متواطئة
ضدهم، ومتآمرة على ما يسمونه "ثورة الشعب السوري".
يبدو لنا أن الطُّعم الذي قدمته أمريكا للروس
هو سحب الدعم المالي والعسكري من المعارضة المسلحة والمشاركة في ضربها بكل أطيافها
"المعتدلة" و"المتطرفة". فما تخفيه هذه الاتفاقية هو توقفها
عن التمييز بين متطرف ومعتدل، ليصبح الجميع متطرفين وإرهابيين، يجب ضربهم والتخلص
منهم. لن يكون الجيش الحر والفصائل المشابهة استثناء. ويبدو أن ذلك لا تمليه
فقط صعوبات التمييز على الأرض بين مختلف الفصائل، بسبب التداخل كبير بينها.
ولا يعني ذلك أن أمريكا ليس جادة في الذهاب
بعيدا في تنفيذ هذا البند المفترض، بل يعني أمريكا لابد أن تتلقى مقابلا لذلك. ما
يمكن أن يخشاه الأسد من هذا الاتفاق السري هو وجود بند ينص على عملية انتقالية
تستبعده هو ومحيطه القريب. في هذه الحالة سيتم عمل انتخابات جديدة وكتابة دستور
جديد تمهيدا للمرحلة الانتقالية التي يجد فيها الأسد نفسه خارج اللعبة. إذا وجد
هذا البند، فلا توجد قوة يمكن أن تمنع من ذلك رغم أن مصالح بعض الأطراف ستتضرر.
سيكون التركي أكبر
الخاسرين، إذا تم الاتفاق على وقف الأعمال القتالية والتركيز على محاربة داعش والنصرة
دون استثناء بقية الفصائل. فهو مع قطر من داعمي الجبهة الأساسيين. كما أن أنقرة لا
يمكنها القبول باستمرار سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، التي يشكل الأكراد عمودها الفقري،
على مساحات واسعة من الشريط الحدودي، يمتد من الحسكة إلى الفرات، ويقطعه جزئيا وجود
الفصائل المدعومة منها في مناطق غرب الفرات شمال حلب.
أما السعودية،
فقد التزمت الصمت حتى الآن ولم ترحب بالاتفاق، وهو ما يثير أسئلة حول موقفها من الهدنة
والعملية السياسية، خاصة أنها ما برحت تشدد على أنْ لا دور للرئيس بشار الأسد في المرحلة
الانتقالية ومستقبل سوريا. ولو كانت تعلم بوجود بند ينص على التخلي عن الأسد
لسارعت إلى الترحيب، وهو ما يؤكد أن الاتفاق ثنائي ولا أحد يعرف شيئا عن بنوده
السرية.
وتبقى إيران، في
الجانب الآخر، مرتاحة للاتفاق، في حدود معينة. فهو، في نظرها، لا يختلف كثيرا عن طرحها
في مبادرة لوقف إطلاق النار ومحاربة الإرهاب والبدء بحوار سوري– سوري، للتوصل إلى حل
سياسي. ولكنها، بلا شك، لا يمكن أن تكون راضية عن اتفاق، لا يعطيها دورا أساسيا، ولا
تعلم بكل تفاصيله. فهناك مخاوف إيرانية باتت واضحة تجاه مواقف الروس في سوريا،
كما توجد خشية من أن يكون الاتفاق الروسي- الأمريكي حول مصير الأسد على حساب إيران
ومصالحها في سوريا كما أكد ذلك موقع تابناك المقرب من الحرس الثوري
الإيراني حين قال: "نرى أنه بعد تصريحات كيري ولافروف وتأكيد واشنطن وموسكو على
الانتقال إلى المرحلة السياسية في سوريا، وتأكيد الأمريكيين على أن هذه المرحلة لا
تتضمن وجود بشار الأسد، نستطيع القول الآن بأن هناك اتفاقا تم بين موسكو وواشنطن وراء
الستار لرحيل بشار الأسد".
لن تبقى
الاتفاقية سرية. فالتطبيق على الأرض سيكشفها. غير أن ما يمكن للروس أن يخشوه هو
وجود فخ أمريكي في الاتفاقية. إن التخلص من المعارضة المسلحة لا يمكن أن يكون هدية
أمريكية للروس بلا مقابل. وإذا كان الاتفاق ينص على إيصال شخصية توافقية بدل الأسد،
فإن ما سيحدث، من الممكن أن يكون شيئا آخر مختلفا تماما. وليس مستبعدا أن تدبر
أمريكا انقلابا أو تفرض عميلا لها، إذ لا يوجد شخص توافقي يرضي الطرفين. وإذا حدث
ذلك، سيجد الروسي نفسه مضطرا للاختيار بين شيئين؛ إما الانسحاب أو مقاتلة النظام
الجديد وداعمه الأمريكي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق