قاسم محمد
لا يرتبط نجاح أية قوة حضارية واستمرارها في الهيمنة بقوتها الصلبة بقدر ما يرتبط بقوتها الثقافية. والقوة الثقافية المقصودة ليس مضمونها الفكري والقيمي والديني، وإنما أساليب نشرها وتعميمها. أنطونيو غرامشي، الذي كان من كبار المنظرين لمفهوم الهيمنة الثقافية عندما كان يبحث في سبل إنجاح الثورة الاشتراكية، انتبه مبكرا إلى أهمية الثقافة البديلة. كان يرى أن هيمنة الرأسمالية لا تنبني على الاقتدار المالي والامتداد السياسي والقوة العسكرية فحسب، بل هناك عامل أهم هو قوة التحكم في العقول من خلال الثقافة التي تصنعها الطبقة الحاكمة وتُدخلها في أذهان الناس.
لا يبتعد غرامشي هنا عن المقاربة القرآنية في التغيير والبناء والتي تعتمد على أهمية العوامل النفسية والذهنية في تغيير الواقع كما في الآية 11 من سورة الرعد: "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ"، فيما سماه الرسول ص بالجهاد الأكبر. يحاجج غرامشي معتبرا أن حدوث التغير الاجتماعي، إنما يعتمد على ضرورة إنتاج ثقافة بديلة لدى الفئات الاجتماعية المسحوقة، تحمل قيم الثورة ومفاهيمها وتقاليدها، من أجل مقاومة الثقافة الرأسمالية المهيمنة.
ومفهوم الهيمنة الثقافية هو الذي سيعيد جوزيف ناي إنتاجه من خلال اختراع مفهوم مرادف هو مفهوم القوة الناعمة التي تستخدم باعتبارها كاسحة ألغام أمام القوة الصلبة لخوض حربها. نجحت الرأسمالية في هزيمة الشيوعية. ولم يكن ذلك بسبب نظامها الاقتصادي والسياسي المرن فحسب، وإنما، أيضا، بسبب قوتها الناعمة وقدرتها على إسقاط الأفكار والثقافات المنافسة.
استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية إمكاناتها الثقافية والإعلامية كلها للترويج للنظام العالمي الجديد، وإنهاء المنظومة الاشتراكية، ليفقد اليسار العالمي مواقعه المتقدمة. وتبين أن الهدف الإستراتيجي للولايات المتحدة، هو إقامة إمبراطورية عالمية ذات مركز قيادي واحد تحت عناوين جديدة، كالعولمة والحكومة العالمية، كما اتضح أن الصراع المستقبلي، الذي لابد منه لإدراك تلك الأهداف، ليس إلا صراعاً حضارياً.
الصدام والنهاية
رسم فرانسيس فوكوياما وصموئيل هنتنغتون البعد النظري للمزاوجة بين مفهومي القوة الصلبة والقوة الناعمة، وأسسا بصورة علنية لخارطة طريق الهيمنة الثقافية. تسيدت مقولة نهاية التاريخ، التي أطلقها هيغل منذ القرن التاسع عشر وأعاد "فرانسيس فوكوياما" تدويرها، محافل الفكر السياسي الأمريكي لفترة ناهزت الخمس سنوات. وفي كتابه: نهاية التاريخ والإنسان الأخير الذي صدر في العام 1989، توقع فوكو ياما انهيار الأنظمة الشمولية، وسائر الأنظمة الشيوعية والاشتراكية، ، وبشر بانتصار النظام الليبرالي في المستقبل. وقال إن نهاية الاضطهاد لا يمكن أن تصنعه شيوعية ماركس، بل إن ذلك قدر نظام اقتصاد السوق كما تقدمه الديمقراطيات الغربية.
كان فوكوياما يدعو إلى ضرورة بقاء الولايات المتحدة جاهزة بشكل مستمر لاستخدام القوة الصلبة في سبيل حماية مصالحها تحت غطاء ما سماه "نشر الديمقراطية". لكنه اعتبر أن ذلك يجب أن يكون آخر الخيارات التي يتم اللجوء إليها، إذ لا بد من إعطاء إصلاح التعليم ودعم مشروعات التنمية، أولية لأنهما يمنحان سياسة الولايات المتحدة مشروعية أقوى.
وفي مقال نشرته المجلة التابعة لصحيفة نيويورك تايمز New York Times، في العام 2006، نفى فوكوياما أن تكون الحرب العسكرية هي الإجابة الصحيحة على الحرب على الإرهاب. وقال إن معركة كسب عقول المسلمين وقلوبهم هي المعركة الحقيقية. كان يشير بذلك إلى ما خلفته الحروب التي شنتها الولايات المتحدة على بلدان عربية ومسلمة من ويلات. فالوعي السياسي المتنامي للعرب والمسلمين جعلهم يميلون إلى رفض السياسات الأمريكية في بلادهم، ولم تعد القوة العسكرية قادرة على سحق الشعوب أو الاستمرار في إخضاعها. فَهِم فوكوياما أن القوة الصّلبة التي استخدمت ضد أفغانستان والعراق والصومال ومناطق أخرى فشلت في إخضاع تلك الشعوب كما توهم المحافظون الجدد ونادى بضرورة الانطلاق الى مرحلة جديدة تقوم على فكرة المزاوجة ما بين القوتين: الصلبة والناعمة، فيما سمي بالقوة الذكية.
ولم يكن فوكو ياما بصدد التنظير لحوار الثقافات أو احترام إرادة الشعوب، ولكنه كان يبحث في استراتيجية أمريكية للهيمنة. ولعل هنتنغتون كان المعبِّر عن واقع الصدام الحضاري بين الغرب والإسلام أو بين الغربيين والمسلمين. كان هذا الرجل في كتابه صدام الحضارات The Clash of Civilizations، الذي صدر في نهاية التسعينات، يبحث في ضرورة التحيين الدائم لأدوات القهر الأمريكية على المستويين: المباشر والرمزي. ولم تكن شهرة هنتنغتون تتعلق بالقيمة العلمية لكتابه، بل بصلته الوثيقة برؤية المؤسسات الحاكمة في أمريكا والتي يهيمن عليها تيار متطرف.
نفذ هنتنغتون إلى حقيقة أن طرفا الصراع القادم، بعد انهيار الشيوعية، هما العالم الغربي والعالم الإسلامي. ولن يكون ذلك الصراع صراعا إيديولوجيا كما كان بين الليبرالية والشيوعية، بل سيكون هذه المرة صراعا حضاريا. غير أن كتاب "صدام الحضارات" يتحرك من منطلقات أيديولوجية تبرر مبدأ صراع الحضارات بدلاً من مبدأ الحوار. فهو يتبنى الإيديولوجيا الليبرالية، بأنظمتها الاقتصادية والسياسية، ويعتبر أنها تمثل الحقيقة التي لابد أن تحكم العالم. ولأجل ذلك فإنه من المنطقي أن يدعو إلى بناء القوة العسكرية من زاوية إستراتيجية، إذ لا معنى، عنده، لفكرة السلام العالمي أو حوار الحضارات.
مفهوم القوة الناعمة
مع ظهور معالم الاستراتيجية الجديدة، بدأ استخدام مصطلح القوة الناعمة بشكل مكثف. وقد تزايد ذلك في العالم العربي بعد الحراك السياسي والتغيرات التي حدثت منذ 2011. فمن الناحية الاصطلاحية، مفهوم القوة الناعمة مصطلح سياسي حديث، لكنه في المضمون لا يختلف عن مفاهيم قديمة طرحها فلاسفة وسياسيون قدامى مثل الإقناع والثقافة والنموذج..
والقوة الناعمة تتضمن إجباراً وإلزاماً غير مباشرين. فهي من جهة لا تستغني عن القوة الصلبة من أجل أن تنتشر. ومن جهة أخرى تقوم بأعمال تعجز القوة الصلدة عن القيام بها. تلجأ القوة الناعمة إلى استخدام وسائل التأثير والإبهار من خلال الصورة والصوت. وهي ليست دعاية سياسية، بل إنها عمليات منظمة تأخذ أشكالا بيانية من أجل اقتحام العقول والتأثير على الرأي العام من خلال وسائل الإعلام والسينما والموسيقى والرياضة وسائر الفنون. لكنها تستخدم أيضا الأشكال المنطقية المغشوشة والبيانات العلمية المراوغة لإقناع الطبقات المثقفة والأكاديمية التي تمثل رصيدا مهما للقوى الرأسمالية من أجل الهيمنة على عقول الشباب الجامعي والمدرسي.
وبالنسبة إلى جوزيف ناي صاحب المصطلح والمفكر الاستراتيجي وعميد كلية كيندي للدراسات الحكومية في جامعة هارفارد، ورئيس مجلس المخابرات الوطني ومساعد وزير الدفاع الأميركي السابق، تعني القوة الناعمة، كما شرحها في مقاله الذي يحمل الاسم ذاته Soft Power، القدرة على تحقيق الأهداف المتوخاة من خلال الجذب بدلاً من القسر أو الدفع.. فهي تعتمد الإغراء والجذب بدل الإكراه والقهر. ويقابل مفهوم القوة الناعمة مفهوم القوة الصلبة الذي يعني القوة المشتركة السياسية والاقتصادية والعسكرية، أي القوة في صورتها الخشنة التي تعني الحرب، والتي تستخدم فيها الجيوش. لكن القوة الصلبة قد تقود إلى الوقوع في منزلقات خطرة كما حدث مثلاً في الحرب العالمية الثانية، بين اليابان وألمانيا النازية. ومفهوم القوة الناعمة هو أيضا مصطلح يستخدم في نظريات العلاقات الدولية. ويشير إلى توظيف ما أمكن من الطاقة السياسية، بهدف السيطرة على اهتمامات القوى السياسية المستهدفة بوسائل ثقافية وأيديولوجية.
يريد الأمريكي إخضاع الآخر والهيمنة عليه. والقوة الناعمة المتعاضدة مع القوة الصلة هي الوسيلة لتحقيق ذلك. وهذه القوة الناعمة ليست، في الحقيقة، إلا تعبيرا مختلفا عن الغزو الثقافي أو العولمة الثقافية.
وقد اعترف روبرت غايتس وزير الدفاع الأمريكي السابق أنه جاء إلى الوزارة من أجل تعزيز استخدام القوة الناعمة، ولتصبح قوة فاعلة رديفة للقوة الصلبة، فلم تعد الحرب تعتمد القوة الصلبة فحسب بل إنها أدخلت القوة الناعمة ضمن وسائلها. لقد طرح جوزيف ناي في مؤلفاته استراتيجيات بارزة من أجل إنجاح سياسة الولايات المتحدة في السياسة الدولية. ودرس تكلفة حروب الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، فوجد أنها خسرت الكثير من وزنها وسمعتها وأن مستوى القبول الشعبي في البلدان الإسلامية اصبح متدنيا. ووصل الى قناعة تقول أن استخدام الوجه الثاني للقوة، أي القوة الناعمة، سيجذب الآخرين ويرفع مستوى القبول بالسياسة الأمريكية.
فالقوة الناعمة تجعل من الآخر يريد ما نريد دون إكراه. وهي العنصر الثابت في العمل السياسي. ومن الناحية الإجرائية تجيز نظرية الحرب الناعمة خطط الحرب غير المباشرة، كاللعب بقواعد العدو وخلق حالة من التشكيك في الثوابت والمعتقدات التي يتبناها والاشتباك معه على أرضه يصطبغ باللون المحلي تماما.
الاستراتيجية الجديدة.. القوة الذكية
إن المزاوجة بين القوة الناعمة والقوة الصلبة هي ما انتهى إليه الفكر الاستراتيجي الأمريكي كما عبر عنه ليزلي جلب في كتابه قواعد القوة، عندما أكد أن الحس السليم بإمكانه أن ينقذ السياسة الخارجية الأمريكية من مأزقها من خلال الجمع بين القوتين الناعمة والصلبة.
والمزاوجة بين القوة الناعمة والقوة الصلبة في الفكر الاستراتيجي الأمريكي هو ما أعطى مفهوم القوة الذكية. فالقوة الذكية مزيج من القوة الصلبة والقوة الناعمة.
وهذا التزاوج المفاهيمي لم يحصل بشكل اعتباطي، بل إنه جاء نتيجة لتفاعلات فكرية مختلفة داخل الولايات المتحدة من خلال العديد مراكز البحوث والدراسات والمعاهد والجامعات التي ترفد صانع القرار بكل ما تنجزه من دراسات ومشاريع استراتيجية جديدة، حيث تمثل الجامعات ومراكز البحث والتفكير Think Tanks في الولايات المتحدة الأمريكية الأذرع الفكرية والعلمية لصياغة السياسات الامريكية.
انتقل الفكر الإستراتيجي الأمريكي من مفهوم القوة الذكية إلى مفهوم القوة الذكية، نتيجة الفشل العسكري الأمريكي في العراق وفشل القوة الإكراهية الصلبة المستخدمة بصورة مباشرة. وبذلك أصبح ضروريا إشراك الإعلام والثقافة والفنون والدبلوماسية والمنظمات الدولية من أجل الترويج للثقافة الأمريكية والادعاء بأن ما تفعله أمريكا عسكريا واقتصاديا هدفه نشر الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان والحريات العامة.
المجال التطبيقي للقوة الذكية
أما المجالات التطبيقية للقوة الذكية في الإستراتيجية الأمريكية، فبإمكان كل متابع ملاحظة ذلك بشكل واسع في المنطقة العربية على نحو خاص بسبب الأهمية الاستراتيجية والدينية والجغرافية لها.
وقد مكنت الطفرة التكنولوجية والعلمية أمريكا من اختصار الجهد والزمن من أجل إيصال المعلومة أو الفكرة ونشرها وترويجها. وكانت الإنترنت ثم شبكات التواصل الاجتماعي الأداة الأكثر فاعلية في إحداث التغيير في بلدان عربية عدة مثل تونس ومصر.. وإدخال بعضها الآخر في حروب داخلية لا تخدم إلا الأهداف الأمريكية والكيان الصهيوني الغاصب في فلسطين كما هو الحال في العراق وسوريا وليبيا واليمن.. تمثل المنطقة العربية العمق الاستراتيجي للأمن القومي الأمريكي الذي عملت دوما الولايات المتحدة على ربطه بالأمن العالمي. والأهم هو أن المنطقة تمثل المركز الذي تريد أن تنطلق منه أمريكا لتنفيذ مشروعها في النظام العالمي الجديد المزعوم. فلا شك أن أمريكا لا تحركها السياسة أو الاقتصاد وحدهما، بل إن هناك ما هو أهم بالنسبة إليها وهو الجوانب الدينية والإيديولوجية الخفية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق