السبت، 20 أكتوبر 2018

اعترافات ما بعد منتصف الليل!






قاسم شعيب


أخيرا اعترفت السلطة الرسمية السعودية بمقتل الصحفي جمال خاشقجي في قنصليتها بأسطنبول في بيان صدر بعد منتصف ليل الجمعة/ السبت. لكنها قالت إنه قتل في شجار بينه وبين أشخاص هناك، وقامت بإقالة مستشار ولي العهد سعود القحطاني ونائب رئيس الاستخبارات أحمد العسيري ولاة آخرين وكلّف الملك ولي عهده إعادة هيكلة جهاز المخابرات. لم يصدِّق المتابعون تلك الرواية المليئة بالثقوب والثغرات. وفهم الجميع أن تلك الإقالات والإجراءات لم تكن إلا محاولة للتغطية على الفضيحة التي لا تُغَطّى.
في البداية قال ولي العهد ابن سلمان إن خاشقجي غادر القنصلية. والآن يعترف أن مواطنه قتل في القنصلية ولكنه قال إنه توفي خلال شجار بينما يعلم الجميع الآن أن 15 ضابطا من المخابرات والحرس دخلوا القنصلية قبيل وصول خاشقجي. سنصدق إنه قتل خلال شجار ولكن بمعنى شجار مفتعل هاجمت فيه المجموعة وخنقت الرجل إلى أن أسلم الروح ليتم بعد ذلك تقطيعه.
يعكس الموقف السعودي المرتعش مقدار الاضطراب الذي وقع فيه نتيجة ما يبدو لنا فخّا كبيرا نجحت المخابرات الأمريكية في نصبته بإحكام ليس لولي العهد السعودي فحسب بل للرئيس الأمريكي أيضا.
أثارت رواية الشجار الكثير من السخرية مثلما أثارت رواية المنشار الكثير من الاشمئزاز. فنحن أمام دولة لا يعرف الملك فيها ماذا يجري حوله بينما يكذب ولي عهده ويكذب إعلامه ويكذب ذبابه الالكتروني ثم يتراجعون ليعترفوا بما كانوا ينفونه.
كان لابد بالنسبة لولي العهد من كبش فداء أو أكثر. فهو غير قادر على تحمل مسؤولية ما حدث. ولأجل ذلك تم اعتقال 18 شَخْصًا اتهموا بالتورط في الجريمة بينما أقيل خمسة آخرون أبرزهم اللواء أحمد عسيري، نائِب رئيس المُخابرات، وسعود القحطاني، المُستشار الإعلاميّ المُقرَّب لمحمد بن سلمان.
يعرف الرسميون الدوليون أن جريمة بهذه الطريقة لا يمكن تنفيذها دون علم الرئيس أو الملك. وفي حالة السعودية لا يمكن تنفيذها دون علم ولي العهد الحاكم الفعلي للبلاد في ظل تدهور الصحة العقلية للملك.
تواجه العائلة الحاكمة شبح النهاية. ومن كان مطّلعا على فلسفة التاريخ يعرف أن تسلط المتهورين والمجرمين على الحكم يعني النهاية. فالتهور الذي يبديه ولي العهد السعودي دون أي مقدار من الحكمة والتروي يعني أن مواقف أخرى مشابهة أو أكثر بؤسا يمكن أن تصدر عنه.
تواجه العائلة السعودية الحاكمة خطر النهاية. ولا يبدو أنها قادرة على النجاة من المصير المحتوم هذه المرة ليس فقط بسبب تهور ولي العهد، بل وبالأساس، بسبب تفكك الأسرة الحاكمة وانتشار الفقر وتوسع القمع وارتفاع منسوب الظلم السياسي والاجتماعي وتركز الحكم في يد واحدة بشكل استبدادي كما لم يحدث من قبل.. فمعروف عن الملك سلمان الذي كان أمير للرياض لعقود تجبره وغلظته. وقد انتقل معه ذلك بعد أن أصبح ملكا وورَّثه لنجله ولي العهد.
أراد الرسميون السعوديون إغلاق ملف خاشقجي باعترافهم بقتله في القنصلية بأسطنبول غير أنه لا شيء يشير إلى ذلك. بل إن المطالب الآن تتجه إلى ضرورة الكشف عن مصير جثته، فيما يبدو سيناريو محبوكا جيّدا للضغط على ابن سلمان وجعله يقول كل شيء ويعترف بكل شيء ولكن على مراحل.
قال ابن سلمان إن خاشقجي غادر القنصلية. وربما قصد أن الرجل غادر مقطّعا وملفوفا في أكياس بلاستيكية. ولأجل ذلك لن يصمت صوت الإعلام الذي يصدر أصواتا من واشنطن ونيويورك ومدن أمريكية أخرى ويجد له صدى في الاعلام العربي والأوروبي مادامت هناك حلقات أخرى لم تبث من المسلسل الدرامي.
لم يثر اغتيال أي معارض سعودي أو غير سعودي مثل هذا القدر من الاهتمام الإعلامي والدولي. ومن غير الممكن أن يكون ذلك بسبب أهمية الصحفي خاشقجي. وهذا يعني أن قتله كان عملية مصنوعة تماما لغايات سوف تبدأ بالظهور تباعا خلال الأيام والأشهر القادمة.
يحلو لبعضنا مقارنة ما حدث في 11 سبتمبر 2001، عندما تعرض مبنى مركز التجارة العالمي للانهيار وما يحدث اليوم. من الممكن أن تكون المقارنة وجيهة. فتلك كانت عملية مخابراتية أمريكية مموِّهة بمكر شديد لتبرير الهجوم على أفغانستان والعراق. وهذه قد تكون عملية لتبرير هجوم آخر ولكن بعنوان مختلف.
أمكن للمملكة السعودية في الماضي تجاوز أزمة 11 سبتمبر من خلال المال وصفقات الأسلحة، لكن أزمة خاشقجي قد لا تسمح بالشيء نفسه إذا كان الهدف هذه المرة أبعد من الابتزاز المالي ويصل إلى حد إسقاط النظام القائم من خلال جرّه لحروب مع جيرانه في المنطقة، تمهيدا لإعادة تشكل جغرافيتها السياسية وفق مخططات ما بات يعرف بصفقة القرن التي لم يتم الإفصاح عن تفاصيلها حتى الآن.
وصف ترمب الاعتراف السعودي بقتل خاشقجي بـ"أنّها خُطوة أُولى جيّدة، وما حَدث غير معقول". والخطوة الأولى لا بد أن تتبعها خطوات أخرى. وتلك الخطوات تبقى مبهمة ولكن يمكن أن نخمن ما هي. إنها لا تتعلق بإعادة هيكلة حكم الأسرة السعودية بل بدفعها نحو اللامعقول. فأمريكا لا تبحث عن إنقاذ هذه العائلة بل عن تحقيق أهداف الحركة الصهيونية التي تخدمها والتي تفكر فيما هو أبعد من المال.. أقصد الأرض والمقدسات الإسلامية. نتذكر كلام غولدا مائير في مارس عام 1968 م حين وقفت في خليج نعمة جنوب سيناء، وقالت: إنني أشم رائحة أجدادي في خيبر ويثرب وتيماء وصحراء فآران.. نَتَذكر ونُذكّر... "فإن الذكرى تنفع المؤمنين".


ليست هناك تعليقات: