لم يخترع (جوزيف ناي) (1937-؟) مصطلح القوة الناعمة، بل يعترف أنه سمعه في مؤتمر دافوس، بسويسرا سنة 2003، من (جورج كاري) رئيس أساقفة كونتربري الأسبق عندما ضمنه سؤالا لوزير الدفاع الامريكي حينها كولن باول عن سبب عدم استخدام أمريكا قوتها الناعمة وتركيزها على القوة الصلبة[ جوزيف ناي: القوة الناعمة (وسيلة النجاح في السياسة الدولية)، ص9.]. ونستطيع القول إن مضمون القوة الناعمة قديم، ونجده لدى كل الأمم التي امتلكت القوة بكل أشكالها وفي كل الحضارات تقريبا. وربما الجديد فقط هو المصطلح. وقد يمكن أن نسميها القوة الخفية، بسبب خفائها، أو القوة الماكرة بسبب استخدامها أساليب غير أخلاقية تستهدف وعي الإنسان وسلوكه مثل نشر الدجل والأكاذيب والإباحية والمثلية والمخدرات والإرهاب..
يرتبط مفهوم القوة بأبعاد كثيرة. فالقوة قد تكون صلبة من خلال استخدام الأدوات المادية من جوارح وأدوات وأسلحة وصواريخ وطائرات وقنابل.. وقد تكون ناعمة عندما ترتبط بالعقل والذكاء والثقافة أو بالمكر والدهاء. ورغم أن الحضارات والدول القديمة لم تخل من استخدام للقوة الناعمة في حروبها، إلا أن هذا المفهوم أخذ زخما أكبر بكثير مما هو مثبت في كتب التاريخ، وبات يشير إلى ما وصلت إليه الحضارة الغربية من تقدم تكنولوجي وتنوع في الوسائل وسهولة في الوصول من أجل تحقيق أهدافها. لم تستغن الدول الحديثة عن القوة العسكرية الصلبة، غير أنها أضافت إليها القوة الناعمة وبات الاعتماد عليها واسعا لاختراق الدول والشعوب الأخرى وجعلها تفعل ما تريد.
أولا: مفهوم القوة الناعمة
يقصد (جوزيف ناي) بالقوة الناعمة القدرة على استقطاب الآخرين وتوجيه سلوكهم من خلال الجاذبية الثقافية والسياسية ووسائل الإغراء وإدخالهم ضمن الدائرة الثقافية والسياسية الأمريكية، بدلاً من الإكراه أو المال. وهو يعرفها بأنها “القدرة على الحصول على ما تريد عن طريق الجاذبية بدلا من الإرغام أو دفع الأموال، وهي تنشأ من جاذبية ثقافة ما ومُثله السياسيّة وسياساته” [القوة الناعمة، م. ن، ص10.]. وهي تقوم على ثلاثة مصادر هي: ثقافتها في الأماكن التي تجذب فيها الآخرين. وقيمها السياسية عندما ترقى إليهم في الداخل والخارج. وسياستها الخارجية عندما يراها الأخرون شرعية وأخلاقية.
فهي تعتمد على الإبهار الثقافي والقيم السياسية والسياسة الخارجية. وهي، على هذا النحو، تتجنب تحمل الخسائر البشرية والمادية للحرب الصلبة التي تعتمد شن الحروب العسكرية المباشرة والحصار الاقتصادي، وتسمح بالسيطرة والنفوذ من خلال اختراق الوعي الجمعي للشعوب المستهدفة.
والقوة الناعمة، حسب ناي، هي، على هذا الأساس، جعل الآخرين يريدون ما تريده أنت.. وبهذه الطريقة تكسب الناس بدلا من أن تجبرهم. أي إنها القدرة على التأثير على الآخرين للحصول على النتائج المتوخاة[ القوة الناعمة، م. ن، ص20.]. ولذلك تستند القوة الناعمة إلى القدرة على وضع برنامج سياسي يرتب الأولويات بالنسبة للآخرين على المستويين الشخصي والعام من خلال التربية والتعليم والإعلام وبدلا من الضغط والتوبيخ والحصار، ومن خلال وضع جداول للعمل وتحديد أطر للنقاشات المختلفة. فالقدرة على تحديد الأولويات ترتبط بمصادر القوة المعنوية كالجاذبية الثقافية والمؤسسات المنظمة والخطاب الإيديولوجي. والنجاح في جعل الآخرين يفعلون ما نريد برغبتهم هو نجاح في استخدام القوة الناعمة.
ثانيا: خصائص القوة الناعمة
لا تعتمد القوة الناعمة على الإكراه من خلال التهديد والعقاب، وإنما على قوة الإغراء والجذب اللذان يقودان الطرف المستهدف إلى التقليد، وقد تستخدم التلقين والإقناع من خلال قوة الخطاب وجمال الصورة. والسؤال هو عن المضمون الذي تريد الولايات المتحدة والقوى الغربية تصديره إلى العالم من خلال الإغراء الذي يتخذ أشكالا متعددة فنية وسياسية واقتصادية. لا شك أن التنظير السياسي الغربي قام منذ البداية على تغليب الرغبة على العقل وباتت الثقافة الغربية بمجملها قائمة على إشباع الرغبات، وتحويل العقل والعلم والتكنولوحيا إلى أدوات لتلبية الرغبة، وليس لرفع درحة الوعي وتحقيق السمو الأخلاقي ونشر فسم العدالة والحرية والكرامة الحقيقية.
تستخدم الحرب الناعمة طرقا خفية وماكرة وأساليب غير صدامية لاستدراج الخصوم دون أن يظهروا أية مقاومة، وربما صارت المقاومة لها مستهجنة لدى الجمهور الذي لا يعي عادة مكر العدو وينساق وراء غرائزيته الراسخة.
بات الغرب، وأمريكا بشكل خاص، يلجأون إلى هذا النوع من الحروب رغم أنهم لم يتخلوا عن الحرب الصلبة حيث إن أساليب الحرب الناعمة قد لا تكون فعالة ولا تحقق الأهداف الاستراتيجية دون إظهار القوة العسكرية. بل إن الحرب الناعمة كثيرا ما تكون مقدمة للحرب الصلبة لأن الحرب الناعمة تستهدف ثقافة الناس ووعيهم وأخلاقهم من أجل إضعافها، وتحويلهم إلى كتلة معادية لانتمائها الديني واللغوي والثقافي وخلق هوة بينهما. وهذا ما نراه في حروب أمريكا وإسرائيل في المنطقة. وقد نجحت الولايات الأمريكية في الإطاحة ببعض الحكومات من خلال أساليب الحرب الناعمة وما سمي بالثورات الملونة في أوروبا الشرقية، والربيع العربي في بعض دول المنطقة العربية.
واستثمار القوة الناعمة للسيطرة على الشعوب ليس دائما فعالا. فالمستهدف بهذه الحرب له أيضا قوته الناعمة كما هي معتقداته وثقافته ولغته واعتزازه بكل ذلك، وهذه القوة قد تكون حائط صد في المجتمعات الأكثر وعيا بما يخطط لها. ولذلك تفشل الحروب الناعمة التي تستهدف بعض المجتمعات بفضل هذه القوة وبفضل أساليب المقاومة.
لا تنفصل القوة الناعمة عن القوة الصلبة رغم اختلافها في الأسلوب الذي يعتمد الجذب والإغراء، فالقوة الصلبة تجعل الآخر أكثر انبهارا وخضوعا وتقبلا للسير في الطريق الذي يرسم له. وعادة ما يقلد الضعيف القوي والمغلوب الغالب. وهو شيء ينطبق على الأغلبية الساحقة من الناس والشعوب حيث إن الذين يملكون الوعي والإرادة والرسوخ الثقافي ولا ينخرطون في الاستجابة لإغراءات العدو هم عادة قلة.
إن الدولة التي تفتقد القوة الصلبة العسكرية والاقتصادية لا يمكنها أن تكون لها سياسات فعالة وقوة ناعمة مؤثرة. وقد تتخلى عن وضع أية أجندات من الأساس. فالضعيف اقتصاديا وعسكريا لا يمكنه الترويج لثقافته مهما بلغت من العقلانية والقوة والتماسك ولا يستطيع جعل الآخرين يفعلون ما يريد. وبكلمة أخرى تحتاج الثقافة القوة كي تنتشر.
وإذا كانت الدولة قوية، فإن رغبة الآخرين في المقاومة ستضعف. وهذا يعني أن بناء القوة الذاتية الصلبة اقتصاديا وعسكريا يعطي الدولة القدرة على استخدام قوتها الناعمة. والقوة الناعمة تحتاج إلى تقديم ثقافتها بشكل جذاب من خلال استخدام ما يمكن من جماليات الصورة والكلمة كما هي فنون الإعلام والثقافة والكتابة والخطاب والإخراج.. ويمكن للدولة القوية على أساس ذلك تأسيس قواعد دولية تتماشى مع مجتمعها ويرغب الآخرون في اتباعها. ويمكنها أن تشجع دولا أخرى على التحول إلى ثقافتها من خلال الوسائل المفضلة لديها.
إن قدرة الدولة القوية اقتصاديا وعسكريا تمكنها من وضع قواعد مفضلة ومؤسسات تحكم مناطق النشاط الدولي وهي مصادر حاسمة للقوة مثل قيم الديمقراطية والحرية الشخصية والانفتاح الثقافي والتطور السريع [جوزيف ناي: القوة الناعمة، ص28.].
وعندما يتعلق الأمر بالقوة الناعمة الأمريكية، فإنها ليست مجرد ثقافة القوة كما يرى جوزيف ناي، فالقيم الأمريكية، كالديمقراطية داخل المؤسسات الدولية، يمكنها أن تجذب الآخرين ولكنها يمكن أن تنفرهم منها أيضا [القوة الناعمة، م. ن، 36- 47.].
والقوة الناعمة لا ترتبط بالحكومة مباشرة كما ترتبط بها القوة الصلبة، رغم إنها تساهم في تحقيق أهدافها، حيث توجد مؤسسات غير حكومية كشبكات التلفيزيون الخاصة ومنظمات المجتمع المدني مثل منظمات المجتمع المفتوح التي يديرها ويمولها جورج سوروس ومواقع التواصل الاجتماعي وهوليوود ومراكز البحوث المتعددة الاختصاصات.
ثالثا: أسس الحرب الناعمة
باتت القوة الناعمة تستخدم على نطاق واسع في الحروب المعاصرة. وعندما تستخدم القوة الناعمة في مهاجمة الشعوب الأخرى، فإن هذه هي الحرب الناعمة التي قد لا يعي حقيقتها أكثر الناس. لا تتحرك الحرب الناعمة في بعدها السياسي في الفراغ، بل إنها تنطلق على أسس فلسفية وحضارية ودينية متجذرة في تاريخ الفكر الغربي، كما هي مفاهيم مثل الفردانية، والعلمانية، والمادية. وهي تستند إلى رؤية حضارية تُقدم الغرب نموذجا عالميا يجب على الآخرين اتباعه ضمن ما يعرف بالمركزية الغربية التي ترى في نفسها نقطة جذب محورية ينبغي على بقية الشعوب أن تدور حولها. كما تتفاعل هذه الاستراتيجية بشكل معقد مع الإرث الديني المسيحي الذي يُبرر أحيانًا الهيمنة تحت شعارات "الرسالة الحضارية".
أ- الأساس الديني: “المسيحية” والرسالة الحضارية
يلعب الإرث الديني “المسيحي” دورًا معقدًا في الحرب الناعمة. ويظهر الفيلسوف البريطاني (جون ستيوارت ميل) (1806-1873)، في كتابه “عن الحرية”، التأثير غير المباشر لهذا الإرث عندما يدعو إلى نشر "الحرية" بما هي قيمة عالمية، وهي فكرة تتشابك مع "التبشير المسيحي" الذي يرى الغرب حاملاً لرسالة إنسانية. وهذا الإطار ارتبط تاريخيًا بالحملات التبشيرية إبان الحروب الاستعمارية، وفي العصر الحديث يتجلى في الحرب الناعمة عبر الترويج للعلمانية بديلا للأديان المحلية، مما يفصل المجتمعات عن جذورها الروحية.
وقد ركز المفكر الأمريكي (صموئيل هنتنغتون) (1927-2008)، في كتابه صراع الحضارات، على البعد الديني عندما رأى أن الصراع بين الغرب والعالم الإسلامي هو صراع حضاري يتطلب أدوات ناعمة لتغيير الهوية الإسلامية. وهو يشير إلى أن الغرب يستخدم ثقافته لفرض قيمه، مما يحيل إلى الكيفية التي تُستخدم بها العلمانية سلاحا لإضعاف الدين الذي يبقى عامل تماسك روحي واجتماعي لا غنى عنه.
ب- الأساس الفلسفي: الفردانية والعقلانية
تُشكّل الفلسفة الغربية الحديثة، التي بدأت مع عصر التنوير الأوروبي، الأساس الفكري للقوة الناعمة. فقد أسس (جون لوك) (1632-1704)، للنزعة الفردانية بما هي قيمة مركزية، مُعتبرًا الحرية الفردية جوهر التقدم البشري. فـ ”الحرية الطبيعية للإنسان هي أن يكون حراً من أي قوة عليا على الأرض، وألا يكون تحت إرادة الإنسان أو سلطته التشريعية، بل أن يخضع فقط لقانون الطبيعة في حكمه” [جون لوك: في الحكم المدني، الفقرة 4.] كما يقول. وهذه الرؤية تتجلى اليوم من خلال الحرب الناعمة التي تروج لمقولة الحريات الشخصية مثل التحرر الجنسي والإلحاد لتكون وسائل لفصل الأفراد عن تقاليدهم المحافظة وتسهيل اختراق المجتمعات.
لا شك أن الحرية هي جوهر التقدم الإنساني، لكن ليس بالمعنى الذي يريده (جون لوك) للحرية، بل بالمعنى القيمي العميق الذي يعني سلطة الانسان على نفسه من خلال سيطرة العقل على فكره وقراراته وسلوكه. إن ماهية الحرية هي الالتزام القيمي بتطبيق مبادئ الحق والعدالة والخير في أحكامه ومواقفه. فالحرية يجب ربطها بالعقل وليس بالرغبة، وبالفضائل وليس بالرذائل. والخضوع للميول والأهواء والشهوات ليست حرية، بل عبودية مقنعة أراد الغرب إقناع نفسه أنها حرية.
ويحاول (إيمانويل كانط) (1724-1804)، في كتابه “نقد العقل المحض”، إضفاء بعد عقلاني على هذه النزعة الفردانية، لكن الأمر لا يتسق. حيث إن الفردانية لا ترتبط بالعقلانية بقدر ما ترتبط بالنزعة الغرائزية بعد انفكاكها عن الرقابة الاجتماعية وانفصالها عن الرادع الديني الداخلي. فهو يُمجد العقل الذي يعتبره أساسا للحضارة، ليُبرر نشر العلمانية بدلا عن الدين في المجتمعات الغربية في ذلك الحين بعد فشل حكم البابوات.
ورغم أن النزعة العقلانية التي بشر بها كانط لم تكن أكثر من محاولة لتوظيف العقل من أجل إنتاج أساس نظري لتبرير الاتجاه نحو الفردانية الطاغية، إلا أن هذا الإطار اعتبر نموذجا عقلانيا متفوقا، يُستخدم في الحرب الناعمة لتشكيك المجتمعات المختلفة في معتقداتها، من أجل تفكيك الهويات الثقافية، وأخذها إلى المكان الذي يريده الغرب.
ت- الأساس الحضاري: نزعة التفوق والاستعمار الثقافي
لا تكتفي مقولة الحرب الناعمة بالانطلاق على أساس الموقف الفلسفي للغرب الحديث، بل تستند أيضا إلى إرث حضاري يرى في الغرب مركزا للعالم. وقد قدم الفيلسوف الألماني (جورج فيلهلم هيغل) (1770-1831)، في كتابه “فلسفة التاريخ”، رؤية تاريخية تُصور الغرب ذروةً للتقدم الحضاري. يرى هيغل أن الدول غير الغربية متخلفة وتحتاج إلى الارتقاء نحو النموذج الأوروبي. وهذه الرؤية المحشوة بنزعة شوفينية مكشوفة، تتم ترجمتها اليوم من خلال الحروب الناعمة التي تريد فرض الثقافة الغربية معيارا عالميا، مما يهمش التقاليد المحلية ويعمق الهيمنة الثقافية.
وقد ذهب (فرنسيس فوكوياما) (1952-؟)، إلى أن "الديمقراطية الليبرالية الغربية هي النهاية الطبيعية للتاريخ" [فوكو ياما: نهاية التاريخ والإنسان الأخير، ص11-13.]، داعيا إلى نشرها. وهذا يحيل إلى الكيفية التي تستخدم بها الثقافة والإعلام لاختراق وعي الشعوب والتحكم بها وإقناعها بتفوق النموذج الغربي وتبنيه بدلا من الثقافة المحلية.
يتبع
(قاسم شعيب، استرتيجيات الهيمنة، مركز براثا، من الفصل الاول)
https://barathacenter.com/arabic/colonialdomination/133#gsc.tab=0

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق