الأربعاء، 27 ديسمبر 2017

الانتشار الواسع للطاقة السلبية أو الحرب الخفية على الشعوب




قاسم شعيب


قد لا يصدق البعض أن الحرب التي يشنها التحالف الصهيو- أمريكي على شعوب العالم متعددة الأوجه والأشكال. وقد يعاند الكثير ممن يرى في نفسه رجلا مثقفا أو عقلانيا في تقبل الكثير من الحقائق لسبب وحيد هو أنها خفية ولا يتطرق إليها الإعلام الرسمي. وبدل تناول هذه الأمور بجدية ومحاولة التأكد من صدقيتها، فإن هذه الفئة من الناس الواقعة بقوة تحت سطوة الإعلام الغربي وتوابعه عندنا والخاضع بدوره لتلك الجهة، كثيرا ما تتناول تلك الموضوعات بالسخرية والاستهزاء..

لا يخفى اليوم التوتر الكبير الذي يعاني منه الناس والذي تضاعف منذ بداية العام 2011 ويستمر حتى اليوم. وهذا التوتر الكبير والشد العصبي المدمّر ضاعف من تفجّر الحروب والجرائم ودفع بالكثير من الناس إلى إدمان الكحول والمخدرات والشذوذ والأعمال القذرة هروبا من الواقع الضاغط بقوة أو تنفيسا عن حالات نفسية كانت كامنة. وكرّس الماسِكون بزمام اللعبة ذلك كله من خلال ترويج أوسع لتلك الممارسات وتسهيل أكبر للوقوع في شراكها.

يعتمد الغرب والجهات الخفية التي تحرّكه على الإعلام والفنون لزيادة الطاقة السلبية وبثّها بين الناس من خلال البرمجة العقلية التي تعتمد بالأساس التكرار والإيحاء ليتم تشكيل العقل الباطن بطريقة المناسبة لهم بما أن الانسان يفكّر ويتصرّف على أساس ذلك العقل الباطن. ولأجل ذلك يلاحظ الجميع كيف سقطت أعداد ضخمة من الناس في الاستسلام والخمول والأمراض العقلية والنفسية بشكل ملفت وغير عادي. فالأخبار التي يبثها الإعلام أكثرها يتناول الحروب والجرائم والأزمات الاجتماعية والاقتصادية. وهي لا تعكس بالضرورة الواقع بل تعمد إلى تضخيمه إلى الدرجة التي يظن معها الناس أن العالم كله مشتعل وأنه لا يوجد أحد مرتاح من تلك الحروب والأزمات في هذا العالم. أما في الواقع فإن تلك الجهات التي تسيطر على الأسواق تعمد إلى رفع الأسعار وغلاء المعيشة. وهذا كله أنتج ارتفاعا كبيرا في الطاقة السلبية لدى الناس.

ولأن تلك الجهات الخفية، التي تعمل من أجل تنفيذ مشروع شرير يريد إلحاق أكبر قدر من الأذى بالناس، تعرف خطورة ما تفعله وإمكانية أن يرتد عليها، فإنها عملت على تحصين نفسها من كل تداعيات تلك الأعمال. فالذين يمثلون تلك الجهات لا يعانون، بحكم ثرائهم، مشاكل الحروب التي يفتعلونها ولا مضاعفات الأزمات الاقتصادية والاجتماعية. وحتى من الناحية العمرانية فإنهم حسبوا حسابا لهذا الأمر.. ولأجل ذلك نلاحظ أن قصورهم ومقرّاتهم صُمِّمت لاستقطاب الطاقة الإيجابية من خلال القباب كما نرى ذلك في البيت الأبيض أو الكريملين مثلا. فالأشكال الهندسية لها تأثير كبير في جلب الطاقة الإيجابية أو السلبية.

والأشكال الهندسية التي تستقطب الطاقة الموجبة من الكون هي: القباب والشكلان الدائري والخماسي ومنه النجمة الخماسية. وهذه الأشكال يستفيد منها حكام العالم وأثرياءه لأنها تستقطب الطاقة الإيجابية ويستفيد منها من هو تحتها أو حولها من الناس الذين تجتذب أجسامهم تلك الطاقة الإيجابية مثل ما هو الأمر في البنتاغون مثلا المصمم بشكل خماسي أو المساجد والكنائس ومزارات الأنبياء والأولياء التي لا تخلو من القباب والتي تضاعف الأدعيةُ والقراءات مقدارَ الطاقة الإيجابية فيها بشكل عظيم.

ولأجل إبعاد الناس وحرمانهم من الاستفادة من الطاقة الإيجابية الكونية يتم اليوم الترويج لأساليب أخرى يدَّعون أنها تساعد على جلب الطاقة الإيجابية، بينما هي لا تجلب إلا الطاقة السلبية ولا تفعل سوى تدمير الروح الإنسانية، مثل بناء المنازل بأشكال هندسية حادة وضيقة بدل المنازل الواسعة والدائرية، ونشر بعض الطقوس الهندوسية كاليوغا مثلا أو غرس الرؤوس في التراب، بدل الصلاة والسجود على التراب الذي أصبح معلوما اليوم أنه أسلوب فعّال في تفريغ الطاقة السلبية من الجسم.

وفي المقابل تتم مهاجمة الدّين والمساجد والكنائس والمزارات، ونعت مرتاديها بمختلف الأوصاف التحقيرية. وكلُّنا يسمع ويرى كيف جعلوا المساجد مقرّات لتخريج السلفيين والدواعش من أجل برمجة العقل الباطن على أساس هذه الفكرة، أو مهاجمة زوار الأئمة من آل البيت أو زوار بعض المقام لأشخاص يعتبرهم زوارهم من الأولياء الصالحين.. والحقيقة إنهم نجحوا في ذلك إلى حدود بعيدة. ففي أوروبا بات قلّة من الناس يذهبون إلى الكنائس وحسب بعض الإحصاءات فإن أغلبية الناس صاروا ملاحدة أو لا دينيين. وفي العالم الإسلامي يتضاعف النقد الحاد الموجّه ضد الحجّاج والزوّار. بل إن بعض المنخرطين في هذا المشروع عن وعي أو دون وعي بدأ يدعو صراحة إلى مقاطعة الحج أو زيارة مقامات الأنبياء والأوصياء ومنها مقامات النبي ص والأئمة من أهل البيت..

والهدف من ذلك كله تحويل المساجد ذات القباب المولدة للطاقة الإيجابية إلى أماكن خالية من الناس من خلال مهاجمتها وتفجيرها أحيانا كما حدث لكثير من المساجد في أفغانستان والباكستان وسوريا والعراق وكما حدث لمقام الإمامين العسكريين في سامراء بالعراق، أو من خلال نشر الفتن الطائفية التي تجعل استفادة المسلمين من المساجد قليلة بحكم امتناع السني عن الصلاة في مسجد شيعي وامتناع الشيعي عن الصلاة في مسجد سني. أو من خلال مقاطعة زيارة الأنبياء والأولياء في مقاماتهم بسبب الفتاوى الوهابية الشهيرة حول حرمة زيارة القبور.

بل إن الجهات الرسمية في بعض البلاد باتت تبحث عن بناء مساجد بلا قباب، أو ترميم المساجد دون ترميم قبابها بل العمل على تسطيحها بحجة بناء مقصورات للنساء أو بناء مكتبات، أو من خلال جعل المساجد ممرا قسريا للمراحيض ودورات المياه، أو من خلال جعل دورات المياه في المساجد والمنازل في اتجاه القبلة.


أما أكثر الأماكن توفيرا للطاقة الإيجابية فهو الكعبة المشرفة التي يشعر الطائفون حولها باطمئنان وراحة نفسية هائلة لا يشعرون بها في أي مكان آخر. وقد صمّم الوحي من خلال سنَّة النبي صلى الله عليه وآله كيفية الحج بالشكل الذي يعطي الحاج أكبر قدر ممكن من شّحنات الطاقة الإيجابية. والخشية اليوم أصبحت كبيرة من محاولات استهداف الكعبة ذاتها تنفيذا لذلك المشروع!


الجمعة، 8 ديسمبر 2017

كبرياء القدس في مواجهة البيلدوزر الأميركي





قاسم شعيب

إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان المُصطنَع "إسرائيل" يؤكّد من جديد أن منطق القوّة وحده القادر على افتكاك الحقوق وإسقاط الاحتلال، وأن السلام لا تأتي به المسرحيات البائِسة التي لا هدف لها سوى تمضية الوقت في انتظار لحظة الانقضاض المناسبة.
تتكامل خطوة نقل السفارة الأميركية إلى القدس مع التسريبات والتصريحات التي خرجت في الأيام الماضية، لتؤكّد العمل على بناء مشروع "غزّة الكُبرى" المزعوم والذي سيضمّ غزّة وجزءاً من شمال سيناء لبناء دولة فلسطينية عليه. فكلاهما يُمثّل جزءاً، من بين أجزاء أخرى، مما يُعرَف بـ"صفقة القرن".

نقل السفارة مُجرّد خطوة

انتظر الرئيس الأميركي تهيئة الرأي العام الدولي وإسكات الغضب الفلسطيني والعربي قبل الإقدام على اتخاذ قرار نقل سفارة بلاده إلى القدس، وإعلان الاعتراف بها عاصمة للدولة اليهودية الجديدة. وإعلام الرئيس الأميركي نظيره الفلسطيني وحكّام عرب آخرين عزمه على فعل ذلك، قبل إعلانه، لم يكن إلا عملية جسّ نبض لردود الفعل العربية والإسلامية قبل إطلاق قراره. 
والخشية اليوم هي أن يمر القرار من دون ضجيج سوى بعض كلمات التحذير هنا وهناك، تماماً كما تم في الماضي تمرير الكثير من القرارات وطواها النسيان وليس أقلّها قرار ضمّ القدس الشرقية، بعد حرب 1967، للإدارة السياسية "الإسرائيلية" باستثناء إدارة المسجد الأقصى والوقف الإسلامي الذي تُرِكَ للأردن.
أدرك البيت الأبيض أنه ليس ممكناً إخراج البرامج والسياسات الجديدة دفعة واحدة، وأن الأمر يحتاج إلى شيء من التدرّج قبل تحويله إلى واقع، خصوصاً وأن الأمر يمثّل انفلاتاً هائلاً من كل المواثيق الدولية التي تظاهرت الحكومات الأميركية السابقة باحترامها رغم شكليّة تلك المواثيق.
ونقْل السفارة ليس خطوة مُنفصلة عن عملية تهويد القدس التي تعني إعطاء هذه المدينة طابعاً يهودياً بحيث تنطبع في ذهن مَن يدخلها صورة المدينة اليهودية. هذه العملية، التي استمرّت طوال العقود الماضية، قامت على ثلاثة إجراءات هي طرد المقدسيين، وإحلال المستوطنين، وتغيير هويّة المكان. لقد عمدَ اليهود منذ احتلال القدس إلى الاستيلاء على بعض العقارات والعبَث بمحتوياتها بحجّة أنها أملاك غائبين أو أن أصحابها يعيشون خارج البلاد، فمثلاً احتل الجيش الإسرائيلي المدرسة التنكيزية المنسوبة للأمير "تنكز" الذي هو من الأمراء المشهورين أيام المماليك، فهذه مدرسة أثريّة وفيها مسجد يُعتبَر تحفة فنية رائعة، لكن الآن تمت إزالة الحجارة والمرمر داخل المسجد الذي تحوّل إلى مكاتب ومرافق تابعة للجيش أو حرس الحدود.
كما عمل اليهود على طمْس الآثار الإسلامية والعقارات الوقفيّة، التي يعود تاريخها إلى قرون خلت وهي تعدّ بالآلاف، بأشكال مختلفة، مثل تغيير حجارتها بسبب الحفريات أو إزالة رموزها الإسلامية.. أما بالنسبة إلى الأزقّة والشوارع، فإن "الإسرائيليين" عمدوا إلى إزالة الأسماء العربية والإسلامية وتعويضها بأسماء عبرية.

خطة "غزّة الكبرى"

ليست مسألة نقل السفارة الأميركية إلى القدس وإعلان المدينة التاريخية عاصمة لـ"إسرائيل" سوى جزء من مشروع مُتكامل أطلق عليه الأميركيون صفقة القرن. والجزء الآخر هو بناء دولة للفلسطينيين على أرض غزّة وجزء من شمال سيناء وتهجيرهم إليها. وقد أكّد ذلك الكثير من التسريبات والتصريحات لعلّ آخرها تصريح لوزيرة المساواة الاجتماعية الإسرائيلية جيلا جملئيل، قالت فيه "إن أفضل مكان للفلسطينيين ليُقيموا فيه دولتهم هو سيناء.. ولا يمكن إقامة دولة فلسطينية إلا في سيناء".
ورغم أن وزارة الخارجية المصرية رفضت تلك التصريحات، إلا أن وسائل إعلام إسرائيلية سرّبت أن الرئيس السيسي عرض على نظيره الفلسطيني، قبل ثلاث سنوات، ضمّ 1600 كيلومتر مربع من شبه جزيرة سيناء المصرية إلى غزّة. ثم توسيع هذه الأراضي المُتبرّع بها إلى خمسة أضعاف.
وعندما سُئِل طيّب عبد الرحيم مستشار الرئيس محمود عباس عن وجود هذه الخطة نفى ذلك، لكنه، في المقابل، قال إن هناك خطة مُشابهة لإعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء، كان قد تقدّم بها لفترة وجيزة سلف السيسي، الرئيس السابق محمّد مرسي.
يرجع مخطّط "غزّة الكبرى" إلى خمسينات القرن العشرين. وهذا المُخطّط هو نفسه، الذي انتهى إليه مؤتمر "هرتسيليا الخامس"، برئاسة إيلاند، الذي أعاد صوغه وعرضه أوائل العام 2010 باعتباره مشروعاً مقترحاً لتسوية الصراع مع الفلسطينيين في إطار دراسة أصدرها مركز "بيغن – السادات للدراسات الاستراتيجية"، بعنوان: "البدائل الاقليمية لفكرة دولتين لشعبين". وتنصّ الخطة على تنازُل مصر عن 720 كيلومتراً مربعاً من أراضي سيناء لصالح الدولة الفلسطينية المُقترَحة، ويتم ضمّها إلى قطاع غزّة لتتضاعف مساحته ثلاث مرات. وفي المقابل يتنازل الفلسطينيون عن الضفة الغربية لصالح الكيان "الإسرائيلي". وبحسب هذه الخطّة المُعلنَة، فإن العالم سيشهد قيام دولة فلسطينية مستقلّة منزوعة السلاح، يعترف بها العالم. ومقابل الأراضي التي ستتنازل عنها مصر للفلسطينيين، تحصل القاهرة على أراض من "إسرائيل" جنوب غربي النقب، تبلغ مساحتها نحو 720 كيلومتراً مربعاً.
من الصعب فَهْم الإرهاب المتواصل شمال سيناء، والذي ذهب ضحيّته قبل أيام أكثر من 300 مصلٍ في قرية بئر العبد في العريش، من دون ربطه بهذه الخطّة. وقد كان الرئيس التركي رجب طيّب أردغان واضحاً حين أكّد أنه تم نقل إرهابيين من الرقة إلى سيناء لشنّ هجمات إرهابية هناك. فلعبة إرهاب الدولة ليست جديدة على إسرائيل التي يبدو أنها مؤمنة بعامل الوقت الذي يصبّ في مصلحة خطّتها، ويمكن أن يسمح لها بخلق أمر واقع جديد على الأرض.

الموقف الفلسطيني والعربي

ترفض السلطة الفلسطينية خطوة نقل السفارة الأميركية إلى القدس كما ترفض مشروع غزّة الكبرى. فهذه الخطة ستكون سبباً لتبخّر أحلام السلطة الفلسطينية في دولة على أراضي الـ67، والتفريط في القدس والضفة الغربية مقابل دولة في "غزّة الكبرى" سيكون تنازلاً مرفوضاً من الفلسطينيين والعرب..
لا شكّ أن الموقف الفلسطيني، الرسمي والشعبي، يموج فوق صفيح ساخِن هذه الأيام. غير أن ما يمكن أن يوقِف هذا المشروع القاتِل هو خطة مُضادّة حقيقية، وليس ما نسمعه من حديث عن مشاعر القلق والرفض، والتحديق في قرار البيلدوزر الأميركي، الذي يسير من دون كوابح.
من الصعب تصوّر موقف عربي رسمي مُهاب في مواجهة الانفلات الأميركي القادم، إذ أن عناصر إنبات أيّ موقف قوي لإسناد الحقوق الفلسطينية لم تتوفر في الماضي، ما يعني أن فُرَص التصدّي العربي الرسمي للمواقف والسياسات الأميركية الجديدة تبدو أقرب إلى أحلام اليقظة. ولعلّ الأكثر خطورة من هذا كله، أن ينتقل الرسميون العرب إلى الضفة الأخرى، ليصبح الدعم للمشاريع الإسرائيلية في السرّ والعلن عنوان المرحلة كما تتواتر التسريبات التي تؤكّد ذلك.
وأمام ما تُبديه الأنظمة من وهْنٍ وفشلٍ في تحقيق أيّ شيء للفلسطينيين، تصبح القوى الشعبية والمقاومة الأمل الذي يمكنه الاستمرار في مواجهة المواقف الأميركية المُعادية. وهذا يحتاج إلى توحيد المواقف، والاتفاق على برنامج مقاوِم واحد لمواجهة هذا القرار الأميركي، والعمل على تشكيل فريق قانوني يُعدّ الملفات الخاصة بالجرائم والانتهاكات الإسرائيلية ورفعها أمام المحاكم والمنصّات الدولية من أجل أن يعرف العالم حقيقة الظلم والمُعاناة الفلسطينية.
 المصدر: الميادين

الجمعة، 24 نوفمبر 2017

الإعلام الديني.. وفخ التحريض الطائفي





قاسم شعيب

يختلف الإعلام الديني عن الإعلام الطائفي بشكل كبير. يعتمد الأول منهجا متوازنا يريد تعريف متابعيه بالدين الذي يدعو إليه بالطريقة التي لا تستفز أتباع الأديان والمذاهب الأخرى، بينما يسقط الثاني في خطاب تهييجي غرائزي هدفه الهجوم على عقائد الأديان والمذاهب الأخرى بأساليب غير علمية وغير عقلانية ومصحوبة غالبا بسيل من الأوهام والأساطير التي يتم تداولها حول الآخر.
لا جدال في أهمية الإعلام وقدرته الفائقة على تشكيل الوعي العام في زمن التكنولوجيات الرقمية. فالناس عادة يتأثرون بما يتلقونه من أفكار من خلال الفضائيات ومواقع التواصل والمنابر الإلكترونية وبقية الميديا. غير أن من يتابع ما ينشر يوميا يلاحظ بسهولة طغيان الانفعالات السلبية، ويتأكد من غياب أخلاقيات التواصل والتعايش والحوار.
لا يخطئ المتابع ملاحظة حدة الاستقطابات الدينية والمذهبية في منابر متعددة الخلفيات والاتجاهات والتي كثيرا ما تختفي تحت ستار ادعاءات امتلاك الحقيقة والنجاة الأبدية. تلك المعتقدات والأفكار قد تبدو لأول وهلة بريئة، غير أن الحقيقة تنكشف عندما تطرح أفكار أو عقائد مختلفة، أو عندما يتبين أن الكثير مما يطرح إنما يعكس أجندات سياسية أو ثقافية لا تهمها القضية المعرفية بقدر ما يهمها تجييش الناس لخدمة أهدافها.
أتاحت الشبكة العنكبوتية والبث التلفزيوني الفضائي والمنابر الإعلامية المختلفة مساحات واسعة من الحرية مكّنت الاتجاهات الدينية والمذهبية المختلفة من التعبير عن نفسها بأشكال مختلفة، لتنتقل من الانغلاق وسط المحيط الضيق إلى التفاعل مع العالم الأوسع. كثير منها صُدم أمام تنوّع المشهد الديني والثقافي. واكتشف أن اختلافه عنها ليس في فهمه للدين فحسب، وإنما أيضا في أسلوب الحياة ونمط التفكير.
تكاد الاتجاهات المذهبية والدينية المختلفة تتفق في الهدف. فهي جميعا تدعي أنها الدين الصحيح وأنها وحدها الممسكة بذيل الحقيقة وأن الاتجاهات الأخرى كفر أو ضلال أو انحراف. ولو توقف الأمر عند هذا الحد لكان الأمر عاديا. فكل الأديان تدعي الحقيقة لنفسها وهي ترى الآخرين على خطأ. لا يوجد استثناء في هذا الأمر. غير أن الخطورة تبدأ عندما ينتقل الأمر إلى استباحة المختلفين.. لا شك في وجود تيارات دينية متوازنة وهادئة، تمتنع عن تكفير المخالفين لها. غير أن التيارات التي تتبنى العنف في الخطاب والممارسة هي التي تمثل المأساة في المجتمعات الأكثر تخلفا.
يمكننا أن نقدم عدة أمثلة على هذا الإعلام الطائفي الذي يساهم في نشر الكراهية بين الناس في المنطقة العربية، منها قناة الناس وقناة الحياة وقناة فدك.. فالأولى قناة سلفية من بين شكبة واسعة تتحرك في الاتجاه ذاته. تعرّف قناة الناس، المملوكة لرجل الأعمال السعودي منصور بن كدسة، نفسها بأنها "قناة فضائية دينية، تهدف إلى عرض الإسلام النقي، ونشر الفكر الوسطي، والتصدي للأفكار المتطرفة والهدامة، والمحافظة على منظومة القيم والأخلاق". فهي، إذن، نبية الإسلام النقي الذي لطّخه الآخرون، وهي زعيمة الفكر الوسطي في مقابل الفكر المتطرف.
لكننا عندما نذهب إلى المضمون لا نجد في الغالب سوى خطاب تحريضي يكفر كل المختلفين. ففي مقطع على اليوتيوب مداخلة لحسام عقل في برنامج "سهرة خاصة"، أبدى فيها شماتة في وفاة المفكر المصري نصر حامد أبو زيد، معتبرا إياه شخصا كافرا وخارجا عن الدين لأنه يطعن في القرآن والسنة، ولا ينبغي حضور جنازته.
 مثل هذا الخطاب هو في حقيقته اغتيال معنوي يمهد للاغتيال الجسدي الذي شهدت مصر أمثلة عنه. فقد كان هناك عدة كتّاب وأدباء تعرضوا للقتل أو الاعتداء مثل فرج فودة ونجيب محفوظ وحسن شحادة الذي تم سحله حتى الموت في عهد الرئيس المخلوع محمد مرسي.
وفي المقابل نجد قناة تعتبر نفسها شيعية اسمها فدك وتبث من لندن، ويديرها الشيخ الكويتي ياسر الحبيب. ترفع هذه القناة شعارا مغريا يقول: "قناة عصرية تخاطب الملايين بلغة علمية موضوعية وبمضمون عقائدي أصيل وجريء لا يعرف المجاملة على حساب الحق". وتؤكد أن أهدافها هي: "تنقية التراث الإسلامي من العقائد الفاسدة والأفكار المغلوطة للعودة بالأمة إلى منهاج النبي وخلفائه الشرعيين..".
غير أنها في الواقع لا تتردد في استخدام أسلوب الاستفزاز. ورغم أنها لا تهاجم المخالفين لها، إلا أنها لا توفر رموزهم. فهي مثلا لا تتوقف عن مهاجمة بعض الصحابة مثل الخليفة عمر بن الخطاب والسيدة عائشة. بل إنها لم توفر حتى بعض الشخصيات التي لها احترامها بين الشيعة أنفسهم مثل محمد بن الحنفية وعقيل بن أبي طالب. وهي، أحيانا، تظهر فتيات وشباب من مصر والمغرب العربي يعلنون تشيعهم عبر القناة، وهو ما يسهم في إثارة ردود فعل غاضبة. لا شك أن ما تقوم به هذه القناة لا يفعل شيئا سوى تأجيج الغرائز الطائفية ورفع منسوب الشتائم المتبادلة ليس فقط بين أتباع المذاهب المختلفة من عامة الناس، بل حتى داخل المذهب الواحد.
المثال الآخر هو قناة الحياة وهي قناة تبث من واشنطن وتتبع المذهب الإنجيلي وتعمل بالشراكة مع منظمة «جويس ماير التبشيرية» الأمريكية، ويعد القمص زكريا بطرس أبرز وجوهها. ترفع هذه القناة شعارا يقول: "لتنال الحياة الأبدية اتبع يسوع المسيح". لا شك أنه شعار يرسخ ادعاءات امتلاك الحقيقة الدينية. وفي الحقيقة هذا هو شأن الدين. إذ لا معنى لدين لا يثق أنه يمتلك الحقيقة سواء كان ذلك هو الواقع أم لا.
مشكل هذه القناة في تركيزها على مهاجمة الإسلام ونبيه من خلال طرح قضايا تاريخية ودينية بأساليب مغلوطة وغير علمية، واستنادا إلى روايات تاريخية ودينية ضعيفة ومهملة. وهي تحاول ممارسة بعض الإسقاطات لتذهب، مثلا، إلى اعتبار الإسلام سببا لوجود ظاهرة داعش بسبب ما سميَّ فتوحات إسلامية. بينما الحقيقة أن تلك الفتوحات، لو تأكدت صحة الروايات التاريخية حولها، لم تكن بالضرورة ملتزمة بأحكام الإسلام كما يؤكد مؤرخون وفقهاء.
يحتاج الإعلام الديني اليوم إلى التطهّر من فخ الطائفية الذي كان ولا يزال، في أغلب الحالات، نتاجا لأجندات سياسية خفية.


















الجمعة، 3 نوفمبر 2017

قَرْن من الألم الفلسطيني.. وماي تتباهى!





قَرْن من الألم الفلسطيني.. وماي تتباهى!


لم تُبدِ رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي أي ندم، ولم تقدم أي اعتذار وهي تتحدث في برلمان بلادها عن مرور قرن من الزمان على وعد وزير الخارجية البريطاني حينها، آرثر بلفور للورد ليونيل وولتر دي روتشيلد، أبرز قادة الحركة الصهيوينة بإنشاء وطن لليهود على أرض فلسطين. بل على العكس من ذلك، تعهدت بالاحتفال بمئوية ذلك الوعد المشؤوم ودعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو برفقة 150 شخصاً آخراً لحضور الاحتفال وكرّرت افتخارها بذلك وتعهدت بمواصلة العمل مع الإسرائيليين أمام مشهد الاهتراء العربي غير المسبوق.

تيريزا ماي أعلنت أنها ستحتفل بوعد بلفور وتدعو نتنياهو للمشاركة (أ ف ب)

سبق أن اعتذر البريطانيون عن أخطائهم بسبب مشاركتهم في تجارة الرقيق ودورهم في المجاعة الإيرلندية، لكنهم، عندما يتعلق الأمر بوعد بلفور، فإن الفخر يأخذ مكان الاعتذار رغم فداحة الجريمة.
لم يكن الدور البريطاني بتلك القوة، وهو يؤسس لكيان صهيوني في فلسطين، لولا نجاح اليهود، مبكراً، في اختراق بريطانيا وأوروبا عامة وتطويعها، كلها، لخدمة مشروعهم رغم الحقد التاريخي الذي يحمله الأوروبيون ضدهم بسبب موقفهم من المسيح، ثم بسبب ممارساتهم التي أدت إلى طردهم من أوروبا في القرن 13 قبل أن يعودوا إليها في القرن 15.
كان هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية يميل إلى تحميل ألمانيا مهمة المساعدة في احتلال فلسطين وتسليمها لليهود بسبب انتمائه إليها كما قال، غير أن الواقع رجح كفّة بريطانيا.
نجحت الصهيونية في اختراق أوروبا دينياً وسياسياً. ومن دون ذلك ما كان لحلمها أن يتحقق. من الممكن الحديث عن تحالف صهيوني - غربي، ناتج عن التقاء مصالح.
غير أن ذلك التحالف لا يستقيم لو لم يحقق اليهود ما يكفي من القوة التي مكنتهم من صناعة مذاهب فلسفية ودينية والإطاحة بأنظمة وحكومات، من خلال ثورات بَدَت شعبية، لتصعيد أنظمة أخرى متحالفة معهم، والسيطرة على بنوك وشركات ومؤسسات وأسواق.
مثَّلت البروتستانية مفصلاً مركزياً في تغيير نظرة المسيحيين لليهود، بدَت تلك الحركة مذهباً إصلاحياً دينياً قاده مارتن لوثر وجون كالفن من داخل الكنيسة من أجل إلغاء تقاليد كاثوليكية اعتبرت سبباً في واقع التخلف الذي عانت منه أوروبا في القرون الوسطى مثل صكوك الغفران ومعاداة العلم ووساطة رجال الدين وأولوية العهد الجديد على العهد القديم. غير أنه تبيّن، لاحقاً، أنّ ما حدث لم يكن سوى عملية صناعة مذهب من داخل المسيحية يتبنّى المقولات الدينية اليهودية ويقدّمها على نصوص الإنجيل.
تم ربط الإيمان بالمسيحية بالإيمان بعودة اليهود إلى الأرض المقدسة. وبعد إدخال الكالفينية إلى أنجلترا توسعت البروتستانتية وتأسست الكنيسة الانغليكانية التي انتشرت لاحقاً في كل أنحاء العالم بشكل غير متوقع..
استطاع اليهود أن يكونوا مؤثرين بقوة في الثقافة الأوروبية الحديثة. والدور الذي لعبوه في صناعة تلك الثقافة لا ينحصر في ما قام به علماء ومفكرون وفلاسفة يهود، بل يشمل أولئك الأفراد غير اليهود الذين رعوهم وتلك المؤسسات التي موّلوها، ولا يزالون، لنشر أفكارهم وثقافتهم. يملك اليهود اليوم أكبر وكالات الأنباء وأوسع وسائل الإعلام انتشارا وأشهر مؤسسات الإنتاج السنيمائي وأفضل الجامعات والمؤسسات البحثية.. ومن خلالها جميعا ملكوا أغلبية العقول.
لكن القوة المالية اليهودية لم يتوقف تأثيرها عند صناعة الثقافة الأوروبية والغربية الحديثة، بل إنها امتدت إلى عمق السياسة. لم تكن العلاقة الأوروبية اليهودية التي نُسجت خيوطها منذ القرن الخامس عشر فعلاً منعزلاً ولا مجرد نزوة. بل إن ما حدث، منذ وعد بلفور، كان امتداداً لمسار نجح فيه اليهود في دعم الثورة في انجلترا وإيصال كرومويل إلى الحكم، وهو ما مهّد بقوة لوعد بلفور بعد فشل محاولة نابليون الذي أراد أن يكون سبّاقاً في مساعدة اليهود على إنشاء كيان لهم في فلسطين، والذي كان هو الآخر ثمرة للثورة الفرنسية التي مكّنت اليهود من تحقيق مساواة مواطنية افتقدوها قبل ذلك في فرنسا عندما كان اليهودي يعامل معاملة العبيد.
ورغم أن الدور الأوروبي تراجع لمصلحة الدور الأمريكي الذي أصبح الأقوى، بعد الحرب العالمية الثانية، بقيت أوروبا الجار الأقرب اقتصادياً وسياسياً لإسرائيل في محيط معاد.
استمرت تهمة معاداة السامية فيها جاهزة لكل معارض للصهيوينة. وحتى السباقات الرياضية والفنية المختلفة لم تجد إسرائيل مكاناً للمشاركة فيها سوى الإطار الأوروبي.
عزّز القرب الجغرافي التعاون الاقتصادي بين الشريكين الحليفين. فالاقتصاد الإسرائيلي الذي يعتمد على التجارة الخارجية يحتاج إلى أسواق خارجية. والشواطئ الأوروبية هي الأقرب لإسرائيل. وقد ساعد النفوذ المالي والاقتصادي اليهودي الكبير في أوروبا على تقوية تلك العلاقات التي توجت أكثر من مرة باتفاقيات للتعاون والشراكة سنوات 1970 و1975 و1991 و1995.. والتي أعطت للإسرائيليين معاملة تفضيلية في منتجاتها الزراعية والصناعية. وفي 2008 ذهبت 33% من صادرات إسرائيل إلى أوروبا.
بعد الحرب العالمية الثانية وصعود الولايات المتحدة، تراجع موقع الأوروبيين سياسياً وأصبحوا، بدورهم، تابعين للموقف الأميركي باستثناء حالات نادرة. عملت إسرائيل على الاحتفاظ بعلاقات قوية مع واشنطن وبروكسيل في وقت واحد غير أنها كانت تقدم علاقتها مع الأمريكيين. فهناك تعيش اللوبيات الصهيوينة الأقوى وتنتصب الشركات اليهودية الأضخم.
تراجع الدور الأوروبي إلى مجرد مجلى للصّحون. وقد عبّرت عن ذلك أطروحة روبرت كيجان بعمق حين تحدث عن فردوس كانط الأوروبي مقابل أسبرطة واشنطن.
 تدرك تل أبيب طبيعة الصراع الناعم بين الاتحاد الأوروبي وأمريكا لكنها تفهم أن القوة مع واشطن. يبدو ذلك واضحاً من خلال انتهاكات إسرائيل لحقوق الفلسطينيين التي لا يمكن لأوروبا سوى إظهار الرفض والتنديد بها دون الجرأة على اتخاذ أية خطوات عملية، فذلك هو المقدار المسموح به لسياسيين جاء بهم رأس المال. بل إن الأوروبيين لا يترددون في استخدام حق الفيتو كلما تعلق الأمر بإدانة سلوك إسرائيلي.
كانت بوصلة المواقف الأوروبية مرتبطة بالمواقف الكلاسيكية الإسرائيلية، تطور الموقف، تبعاً لتطور الموقف الإسرائيلي نفسه، من اعتبار القضية الفلسطينية مجرد قضية لاجئين إلى قضية شعب له حقوق سياسية في تقرير المصير، فأُقيمت مفاوضات أوسلو التي أنتجت سلطة شكلية في الضفة وغزة. غير أن ذلك لم يكن سوى محاولة بائسة لإسكات أصوات كثيرة لم تقبل، يوماً، ظلما يتعرض له شعب بأكمله.

الميادين

الأربعاء، 1 نوفمبر 2017

الوهابية والعلمنة ويخت سيرين




الوهابية والعلمنة ويخت سيرين

   قاسم شعيب
اسم شعيب

يسابق محمد بن سلمان الزمن لإعلان نفسه ملكاً قبل حدوث أية منغصات. وهو يفعل كل شيء من أجل حرق المراحل وتحقيق أهدافه. ولعل أخطر الخطوات التي يريد إنجازها التخلّص من الكهنوت الوهابي الذي حكم المملكة منذ تأسيسها والانتقال إلى دولة علمانية بالشكل القائم في دول عربية أخرى.

الوهابية والعلمنة ويخت سيرين
يريد أمير البلاط السعودي الانتقال من الدولة الدينية إلى الدولة العلمانية كما هو مطلوب منه، ليس لأن الملك كان خاضعاً لسلطة رجال الدين، فهذا لا واقع له لأن المؤسسة الدينية كانت دائماً تقدم فتاوى تحت الطلب، بل لأن المطلوب، اليوم، الانتقال إلى مرحلة جديدة يتم فيها التخلي عن إيديولوجية دينية متشددة لصالح أخرى ليبرالية مخففّة سماها "إسلاماً منفتحاً" بعد أن أدّت النسخة القديمة دورها التخريبي كما خُطّط لها. وهذا الانتقال يحتاج إلى جانبين. الأول نظري يتعلق بالأيديولوجية الوهابية. والثاني عملي يتعلق بالإجراءات التنفيذية للحكومة.
في الجانب النظري تحتاج عملية الانتقال إلى تصفية الإرث السلفي الوهابي في مستويين. الأول: هو التعليم. وبالفعل فقد تم تأسيس مركز لتنقيح ومراجعة مناهج التعليم. وهو قائم الآن، ويعمل القائمون عليه، تحت إشراف أميركي، على وضع كتب دراسية جديدة تدرّس في المدارس وتحل محل الكتب القديمة التي تروج للفكر الوهابي العنيف والتي تعارض "روح الإسلام".. كان التعليم ومناهجه الحاضنة الأولى لتفريخ الآلاف من المشوهين فكرياً وأخلاقياً والذين يمارسون القتل والذبح. وقد اعترفت وسائل إعلام سعودية أن 60% من منفذي العمليات الانتحارية في العراق هم سعوديون بينما أظهرت احصاءات أخرى أن السعوديين هم ثاني أكبر جنسية تشارك في الحرب السورية ضد الجيش النظامي. والعمل على تغيير المناهج الدراسية اليوم ليس بسبب اتّضاح دورها في تدمير عقول الكثير من الشباب والكوارث التي أنتجها ذلك، بل لأن مرحلة "الدعوشة" انتهت الآن ويريد الأميركيون الدخول في مرحلة جديدة كما قال الرئيس الأميركي ترامب.
والمستوى الثاني هو الثقافة. وقد كشف وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون أن من نتائج القمة التي عقدها ترامب مع القيادة السعودية في ماي الماضي، إنشاء مركز لمكافحة الخطاب الوهابي المتطرف وتغيير المناهج والإشراف على أئمة المساجد وتأهيلهم. وهو يشمل التخلص من الكتب السلفية والوهابية وبالأساس كتب ابن تيمية وابن عبد الوهاب وسائر شيوخ السلفية المؤثرين، مقابل إفساح المجال لكتب من نوع آخر بعيدة التوجهات السلفية. كما يشمل هذا المستوى السماح بافتتاح دور للسينما، وتنظيم حفلات موسيقية مختلطة، وتنظيف وسائل الإعلام من الخطاب السلفي الوهابي.
أما في الجانب الإجرائي، فهناك أولاً المؤسسات الحامية للوهابية. وثانياً الشخصيات المعارضة للتحوّل من أمراء ورجال دين وكتّاب ومثقّفين. وكلاهما تمّ التعامل معه بطرق مختلفة.
بدأ ابن سلمان بقوات المطاوعة أو هيأة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهي "شرطة دينية" كانت تابعة لوزارة الداخلية التي كانت بيد نايف بن عبد العزيز وورّثها لابنه محمد قبل عزله. ورغم ذلك العزل فإن نايف كان قد بنى معهم علاقات قوية، ومن الطبيعي أن يقفوا ضد محمد بن سلمان في أي نزاع قادم. نقل ولي العهد الجديد بعض صلاحيات الهيأة إلى الشرطة وألغى أخرى. وبذلك خلخل أحد الأذرع الأمنية لحكم آل سعود الذي طالما تمتع دوره بشرعية دينية. وهي مغامرة قد ترتد عليه. وفي السياق نفسه، ينوي ولي العهد التخلي عن لقب خادم الحرمين، وحلّ هيئة العلماء والاحتفاظ فقط بمفتي للمملكة كما هو الحال في بقية الدول العربية.
تبدو الدولة، التي طالما وصفت بمملكة الصّمت، على صفيح ساخن. يخشى محمد بن سلمان أية معارضة للمشروع الذي ينفذه، ولا يريد أيّة أصوات مزعجة توقف طموحه الجامح. وهو لذلك يحتاج إلى كسر الكثير من البيض لصناعة عجّته التي لا يمكنها أن تستوي دون ذلك. سلّة البيض السعودي، التي تحتاج كسراً قبل أن تفقّس، تضم الكثير من الأمراء مثل محمد بن ناف وتركي بن بندر وعبد العزيز بن فهد وسعود بن سيف وسلطان بن تركي الذين تم اعتقالهم.. والدعاة المحسوبين على ما سمي "تيار الصحوة" مثل سلمان العودة وعوض القرني، وحتى كتّاباً وإعلاميين ومسؤولين من مستويات مختلفة مثل الشاعر زياد بن حجاب بن نحيت والكاتب مصطفى الحسن ورجل الأعمال عصام الزامل. وكذلك قضاة وأكاديميين مثل القاضي في المحكمة الجزائية في الخبر، خالد الرشودي، وعميد كلية حوطة سدير، يوسف المهوس.
تم اعتقال أمراء ورجال دين بارزين دفعةً واحدة بينما مُنع كتاب ومغرّدون من الكتابة والتغريد.. ورغم احتجاز الكثير من "الأمراء الصغار" في الأسرة الحاكمة، فإن الخوف الأكبر يأتي من "الأمراء الكبار".
يتبنّى محمد بن سلمان حلولاً انشطارية. فكل قرار يتّخذه يتسبّب في انقسام داخل العائلة الحاكمة وفي المجتمع بين مؤيد ومعارض. قد يبدو هذا طبيعياًَ أمام خطواته المتسارعة للتخلص من سلطة الكهنوت الوهابي، غير أن ذلك يعكس خللاً في البنية السياسية للدولة والتركيبة الاجتماعية للشعب الذي طالما عايش الاستبداد والقمع باسم الدّين.
لم تكن الحرّيات شيئاً معترفاً به في المملكة المترامية، وكان هناك قليل من الآراء المختلفة، من داخل العائلة، يسمح لها  بالتعبير عن نفسها. انتفى ذلك اليوم ولم يعد هناك أي صوت مخالف مقبولاً. بل إن الصمت ذاته أصبح جريمة اعتقل بسببها دعاة، فالمطلوب هو التعبير عن مواقف مؤيدة لولي العهد، وليس الاكتفاء بالصمت.
هذه الخطوات، إضافة إلى أسباب أخرى تتعلق بالصراع على السلطة داخل العائلة الحاكمة، جعلت محمد بن سلمان يعيش منعزلاً بين يخته "سيرين" وقصوره. أصبح أكثر رعباً واضطراباً ولم يعد يظهر بكثرة. فهو يشعر أن أكثر آل سعود ضده وأنه مستهدف بقوة.
ولعل أحدث تعبير عن تلك المعارضة تعرّض قصر السّلام في جدّة إلى هجوم قُتِل فيه عنصران من الحرس الملكي والأرجح أن أبناء الملك فهد والملك عبد الله والأمير نايف الذين يشكلون تحالفاً ضد الملك سلمان وابنه هم من يقف وراءه لإيصال رسالة.
تبدو العائلة السعودية اليوم في مفترق طرق. فقد حكمت لعقود طويلة بقبضة حديدية وسط صحراء الفكر الوهابي، لكنها، اليوم، وهي تحاول تغيير المسار، وصلت إلى مستوى من التصدع الداخلي غير المسبوق، ينذر بالانفجار في أي لحظة.
يستعجل ابن سلمان استواء طبخته لكن ذلك قد يؤدي إلى احتراقها!

الميادين

الثلاثاء، 24 أكتوبر 2017

أماني تل أبيب وخيارات طهران.. هل يرتكب ترامب حماقة استراتيجية ضد إيران؟



أماني تل أبيب وخيارات طهران.. هل يرتكب ترامب حماقة استراتيجية ضد إيران؟


قاسم شعيب


رغم أن تصريحات دونالد ترامب كانت محل جدل كبير أثناء حملته الانتخابية، وكانت تثير الكثير من السخرية لدى المتابعين، إلا أنها تعود إلى الواجهة اليوم من أجل فهم الخطوات التي يمكن أن يُقدم عليها الرئيس الأميركي. لا شك أن إطلاق العنان للوعود أثناء الحملات الانتخابية لا يعني أكثر من محاولة جذْب أكثر ما يمكن من الناخبين. غير أنها بعد الوصول إلى البيت الأبيض تصبح مقياساً لمعرفة مدى وفاء الرئيس بها، ويصبح التعامل معها أكثر جديّة.

تداعيات إلغاء الاتفاق

ما يفعله ترامب بخصوص الاتفاق النووي الإيراني ليس إلا جزءاً من الصورة الجديدة التي تحاول الولايات المتحدة أن ترسمها للمنطقة
سيكون حدثاً مفصلياً تترتّب عليه تداعيات كثيرة، إذا قرّر الأميركيون إلغاء الاتفاق النووي مع إيران خلال شهرين من الآن. ستخسر أميركا ما تبقّى لها من مصداقية حتى لدى أصدقائها الأوروبيين الذين عارضوا خطوة ترامب. فأميركا التي ترى نفسها قوة عظمى، ستؤكد مرة أخرى أنها دولة لا تحترم عهودها. وستطرح، من جديد، أسئلة حول ادّعاءات هذه الدولة في حفظ السلام الدولي، وأخرى عن دور المؤسسات في أميركا وحقيقة القرارات الجاهزة التي لا تحترم عهود المسؤولين السابقين.
وعندما يبدي الأوروبيون امتعاضاً كبيراً من موقف ترامب، فإن ذلك يعني أنهم يخشون التداعيات الخطيرة التي سيفرزها إلغاء الاتفاق والتي ستزيد من احتمالات الحرب كما قال وزير الخارجية الألماني زيغمار غابرييل.
يعارض الأوروبيون إلغاء الاتفاق ليس لأنهم كانوا طرفاً فيه فحسب، وإنما أيضاً لأن الإلغاء يعني خسارة اقتصادية كبيرة. فإيران سوق ضخم، والأوروبيون يستفيدون كثيراً من علاقاتهم الاقتصادية معها. كما أنهم يعرفون قدرات إيران العسكرية الكبيرة والتي يمكن أن تهدّدهم لو اندلعت الحرب.
لا شك أن إيران سيلحقها الأذى الاقتصادي إذا أُلغي الاتفاق، غير أن ما سيلحق بالولايات المتحدة أشد بكثير. فهي ستدفع تكاليف التوتّر ملياراتٍ من الدولارات من أموال دافع الضرائب. وسيضطر البيت الأبيض إلى اتخاذ احتياطات أمنية إذا تم تمزيق الاتفاق لمواجهة أية مخاطر أمنيّة محتملة في الداخل وعلى أرض الواقع أو في مواقع الأنترنت والتواصل الاجتماعي. وهذه الاحتياطات لا شك أنها مُكلفة. بل إن تلك الإجراءات ستكون تعدياً على الحريات العامة للناس وستُخَفّض نسبة الانسياب في الحركة الاقتصادية.
وبسبب ذلك، أيضاً، ستضاعف الولايات المتحدة عملياتها التجسسيّة على الأراضي الإيرانية لتحرّك المزيد من الجواسيس والعملاء من أجل رصْد مختلف النشاطات النووية والعسكرية الإيرانية. كما ستضطر لتكثيف دورياتها البحرية في الخليج وبحر العرب والمحيط الهندي..


خيارات طهران

ليس أمام طهران سوى خيارين لا ثالث لهما؛ إما مواصلة الالتزام بالاتفاق النووي أو السير على خطى كوريا الشمالية والمضي في تطوير برنامجها النووي. تبدو حكومة الرئيس روحاني أقرب إلى الموقف الأول من أجل سحب أيّة مبرّرات أمام واشنطن يمكن أن تستخدمها لارتكاب عدوان ضد طهران. غير أن هناك تياراً قوياً في إيران يمكنه الدفع نحو الاتجاه الثاني والسير في طريق التخصيب وتطوير القدرات النووية. ومبرّر هذا الاتجاه هو أن واشنطن لا تفهم إلا لغة القوة ولا يمكن ردعها إلا من خلالها.
لم يكن الاتفاق مرضياً ولا مريحاً للتيار المحافظ في إيران الذي كان يرى في أميركا دولة لا تلتزم بتعهّداتها. وهو يراهن على أن التهديدات الأميركية فارغة ولا يمكن تنفيذها بسبب تعقيدات الظرف الدولي والمشاكل الاقتصادية، والأهم من ذلك يؤمن هذا التيار أن أميركا لا تهاجم عادة، بشكل مباشر، إلا الدولة التي تراها ضعيفة. وهي لا تجرأ على مهاجمة الأقوياء إلا من خلال وكلائها.
ولو تجرّأ ترامب على الدخول في حرب ضد إيران فإن أميركا تعلم جيداً حجم الوجود الإيراني في العراق وسوريا ولبنان وأفغانستان، وهو ما يعطيها القدرة على إشعال المنطقة تحت أقدام الأميركيين بصواريخها وبمساعدة حلفائها. وفي هذه الحال فإن إسرائيل نفسها وكل حلفاء واشنطن في المنطقة مثل السعودية، تصبح جميعاً في مرمى الصواريخ الإيرانية. ولن يقتصر الأمر على الصواريخ البالستية الإيرانية بل إنه سيشمل عشرات الآلاف من الصواريخ القصيرة والمتوسّطة التي تمتلكها المقاومة في لبنان وفلسطين والتي لن تقف متفرّجة.
تتحجّج واشنطن بتجارب إيران الباليستية التي تعتبرها انتهاكاً لروح الاتفاق النووي وتعتبر مضايقة حركة القِطَع البحرية الأميركية في الخليج نوعاً من التحدّي الذي يمكن أن يوقف الوعود الأميركية ، بوقف تنفيذ جميع العقوبات الاقتصادية على إيران والعمل على إلغاء عقوبات الكونغرس ، ووقف الضغوط على المؤسسات المالية المتعاونة مع إيران.
غير أن الإيرانيين يردّون بأنه لم يتم إدراج بند بعنوان "روح الاتفاق النووي" في نص الاتفاق. والسبب هو ادّعاء المفاوض الأميركي أن حكومته لا يمكنها رفع عقوبات فرضها الكونغرس، بل يمكنها فقط تعليق تنفيذ هذه العقوبات. وهذا ما جعل الوفد الإيراني يعطي وعوداً شفهية فقط، فالمفاوضات بالنسبة له جرت لحل الخلاف النووي فحسب، وأيّ بحث في أمور أخرى لا يُنتج سوى عرقلة الوصول إلى اتفاق.


أماني تل أبيب

أكثر ما يُفزِع الإسرائيليين هو عودة إيران إلى نشاطها النووي رغم تأييدهم قرار ترامب. فطهران لا تبدي أيّ استعداد لإعادة التفاوض أو إضافة أي شيء للاتفاق. وهي بذلك لن تتأخّر في استئناف تخصيب اليورانيوم وتكثيف نشاطها النووي. وإذا كان الغرب قد استفاد من الاتفاق في تأجيل النشاطات النووية الإيرانية لسنوات، فإن الإلغاء سيقضي على أهم إنجاز غربي.
تريد إسرائيل دفع الأميركيين إلى تمزيق الاتفاق ومهاجمة إيران حيث كانت منذ البداية ضد الاتفاق. فهي تتمنّى تدمير المنشآت النووية الإيرانية والقضاء على برنامجها النووي بالكامل. لكن تلك الأماني أصبحت الآن من الماضي. وعودة إيران هذه المرة إلى نشاطها النووي ستكون مقبولة لدى جهات كثيرة. ستجد دول عديدة المبرّر لإيران في استعادة حيويتها النووية، وسيكون موقفها أكثر قوة وعمقاً وإقناعاً في المنابر الدولية.
تمزيق الاتفاق يعطي أيضاً لإيران الحجج الكافية لإقناع العالم أنها لم تستهدف أحداً ببرنامجها النووي السلمي. ولن يكون الغرب بالحماس نفسه الذي أبداه تجاه البرنامج النووي الإيراني. وحتى في الداخل لن تواجه الحكومة ضغطاً شعبيا ًللاستجابة للمطالب الغربية بعد أن أصبح واضحاً أن الولايات المتحدة لا تحترم عهودها.
بل إن الولايات المتحدة لن تنجح في حشد دول أخرى في مواجهة إيران إذا ألغت الاتفاق. وسيفتح ذلك الباب أمام طهران لتلقّي المزيد من الدعم الروسي والصيني سياسياً ودبلوماسياً حيث سينتهي مجلس الأمن أن يكون مكاناً لاستصدار قرارات ضد إيران. وهذا يعني في النهاية ترسيخ واقع التحالف الروسي الصيني الإيراني في مواجهة الحلف الأميركي الإسرائيلي.
ما يفعله ترامب بخصوص الاتفاق النووي الإيراني ليس إلا جزءاً من الصورة الجديدة التي تحاول الولايات المتحدة أن ترسمها للمنطقة. ولن يكون إلغاء الاتفاق النووي إذا حدث سوى ورقة إضافية ترمي بها واشنطن ليس لمحاصرة طهران فحسب، وإنما لإحداث ما يشبه تداعي قطع الدومينو. فبعد إعلان الرئيس ترامب استراتيجية شاملة ضد إيران ترك لنفسه مهلة ستين يوماً سيستهدف خلالها أصدقاء طهران، وسيدعم بقوة تحت الطاولة الانفصاليين الأكراد لمحاولة إحداث تغيير سياسي شامل في العراق.






المصدر : الميادين نت