الجمعة، 8 ديسمبر 2017

كبرياء القدس في مواجهة البيلدوزر الأميركي





قاسم شعيب

إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة للكيان المُصطنَع "إسرائيل" يؤكّد من جديد أن منطق القوّة وحده القادر على افتكاك الحقوق وإسقاط الاحتلال، وأن السلام لا تأتي به المسرحيات البائِسة التي لا هدف لها سوى تمضية الوقت في انتظار لحظة الانقضاض المناسبة.
تتكامل خطوة نقل السفارة الأميركية إلى القدس مع التسريبات والتصريحات التي خرجت في الأيام الماضية، لتؤكّد العمل على بناء مشروع "غزّة الكُبرى" المزعوم والذي سيضمّ غزّة وجزءاً من شمال سيناء لبناء دولة فلسطينية عليه. فكلاهما يُمثّل جزءاً، من بين أجزاء أخرى، مما يُعرَف بـ"صفقة القرن".

نقل السفارة مُجرّد خطوة

انتظر الرئيس الأميركي تهيئة الرأي العام الدولي وإسكات الغضب الفلسطيني والعربي قبل الإقدام على اتخاذ قرار نقل سفارة بلاده إلى القدس، وإعلان الاعتراف بها عاصمة للدولة اليهودية الجديدة. وإعلام الرئيس الأميركي نظيره الفلسطيني وحكّام عرب آخرين عزمه على فعل ذلك، قبل إعلانه، لم يكن إلا عملية جسّ نبض لردود الفعل العربية والإسلامية قبل إطلاق قراره. 
والخشية اليوم هي أن يمر القرار من دون ضجيج سوى بعض كلمات التحذير هنا وهناك، تماماً كما تم في الماضي تمرير الكثير من القرارات وطواها النسيان وليس أقلّها قرار ضمّ القدس الشرقية، بعد حرب 1967، للإدارة السياسية "الإسرائيلية" باستثناء إدارة المسجد الأقصى والوقف الإسلامي الذي تُرِكَ للأردن.
أدرك البيت الأبيض أنه ليس ممكناً إخراج البرامج والسياسات الجديدة دفعة واحدة، وأن الأمر يحتاج إلى شيء من التدرّج قبل تحويله إلى واقع، خصوصاً وأن الأمر يمثّل انفلاتاً هائلاً من كل المواثيق الدولية التي تظاهرت الحكومات الأميركية السابقة باحترامها رغم شكليّة تلك المواثيق.
ونقْل السفارة ليس خطوة مُنفصلة عن عملية تهويد القدس التي تعني إعطاء هذه المدينة طابعاً يهودياً بحيث تنطبع في ذهن مَن يدخلها صورة المدينة اليهودية. هذه العملية، التي استمرّت طوال العقود الماضية، قامت على ثلاثة إجراءات هي طرد المقدسيين، وإحلال المستوطنين، وتغيير هويّة المكان. لقد عمدَ اليهود منذ احتلال القدس إلى الاستيلاء على بعض العقارات والعبَث بمحتوياتها بحجّة أنها أملاك غائبين أو أن أصحابها يعيشون خارج البلاد، فمثلاً احتل الجيش الإسرائيلي المدرسة التنكيزية المنسوبة للأمير "تنكز" الذي هو من الأمراء المشهورين أيام المماليك، فهذه مدرسة أثريّة وفيها مسجد يُعتبَر تحفة فنية رائعة، لكن الآن تمت إزالة الحجارة والمرمر داخل المسجد الذي تحوّل إلى مكاتب ومرافق تابعة للجيش أو حرس الحدود.
كما عمل اليهود على طمْس الآثار الإسلامية والعقارات الوقفيّة، التي يعود تاريخها إلى قرون خلت وهي تعدّ بالآلاف، بأشكال مختلفة، مثل تغيير حجارتها بسبب الحفريات أو إزالة رموزها الإسلامية.. أما بالنسبة إلى الأزقّة والشوارع، فإن "الإسرائيليين" عمدوا إلى إزالة الأسماء العربية والإسلامية وتعويضها بأسماء عبرية.

خطة "غزّة الكبرى"

ليست مسألة نقل السفارة الأميركية إلى القدس وإعلان المدينة التاريخية عاصمة لـ"إسرائيل" سوى جزء من مشروع مُتكامل أطلق عليه الأميركيون صفقة القرن. والجزء الآخر هو بناء دولة للفلسطينيين على أرض غزّة وجزء من شمال سيناء وتهجيرهم إليها. وقد أكّد ذلك الكثير من التسريبات والتصريحات لعلّ آخرها تصريح لوزيرة المساواة الاجتماعية الإسرائيلية جيلا جملئيل، قالت فيه "إن أفضل مكان للفلسطينيين ليُقيموا فيه دولتهم هو سيناء.. ولا يمكن إقامة دولة فلسطينية إلا في سيناء".
ورغم أن وزارة الخارجية المصرية رفضت تلك التصريحات، إلا أن وسائل إعلام إسرائيلية سرّبت أن الرئيس السيسي عرض على نظيره الفلسطيني، قبل ثلاث سنوات، ضمّ 1600 كيلومتر مربع من شبه جزيرة سيناء المصرية إلى غزّة. ثم توسيع هذه الأراضي المُتبرّع بها إلى خمسة أضعاف.
وعندما سُئِل طيّب عبد الرحيم مستشار الرئيس محمود عباس عن وجود هذه الخطة نفى ذلك، لكنه، في المقابل، قال إن هناك خطة مُشابهة لإعادة توطين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء، كان قد تقدّم بها لفترة وجيزة سلف السيسي، الرئيس السابق محمّد مرسي.
يرجع مخطّط "غزّة الكبرى" إلى خمسينات القرن العشرين. وهذا المُخطّط هو نفسه، الذي انتهى إليه مؤتمر "هرتسيليا الخامس"، برئاسة إيلاند، الذي أعاد صوغه وعرضه أوائل العام 2010 باعتباره مشروعاً مقترحاً لتسوية الصراع مع الفلسطينيين في إطار دراسة أصدرها مركز "بيغن – السادات للدراسات الاستراتيجية"، بعنوان: "البدائل الاقليمية لفكرة دولتين لشعبين". وتنصّ الخطة على تنازُل مصر عن 720 كيلومتراً مربعاً من أراضي سيناء لصالح الدولة الفلسطينية المُقترَحة، ويتم ضمّها إلى قطاع غزّة لتتضاعف مساحته ثلاث مرات. وفي المقابل يتنازل الفلسطينيون عن الضفة الغربية لصالح الكيان "الإسرائيلي". وبحسب هذه الخطّة المُعلنَة، فإن العالم سيشهد قيام دولة فلسطينية مستقلّة منزوعة السلاح، يعترف بها العالم. ومقابل الأراضي التي ستتنازل عنها مصر للفلسطينيين، تحصل القاهرة على أراض من "إسرائيل" جنوب غربي النقب، تبلغ مساحتها نحو 720 كيلومتراً مربعاً.
من الصعب فَهْم الإرهاب المتواصل شمال سيناء، والذي ذهب ضحيّته قبل أيام أكثر من 300 مصلٍ في قرية بئر العبد في العريش، من دون ربطه بهذه الخطّة. وقد كان الرئيس التركي رجب طيّب أردغان واضحاً حين أكّد أنه تم نقل إرهابيين من الرقة إلى سيناء لشنّ هجمات إرهابية هناك. فلعبة إرهاب الدولة ليست جديدة على إسرائيل التي يبدو أنها مؤمنة بعامل الوقت الذي يصبّ في مصلحة خطّتها، ويمكن أن يسمح لها بخلق أمر واقع جديد على الأرض.

الموقف الفلسطيني والعربي

ترفض السلطة الفلسطينية خطوة نقل السفارة الأميركية إلى القدس كما ترفض مشروع غزّة الكبرى. فهذه الخطة ستكون سبباً لتبخّر أحلام السلطة الفلسطينية في دولة على أراضي الـ67، والتفريط في القدس والضفة الغربية مقابل دولة في "غزّة الكبرى" سيكون تنازلاً مرفوضاً من الفلسطينيين والعرب..
لا شكّ أن الموقف الفلسطيني، الرسمي والشعبي، يموج فوق صفيح ساخِن هذه الأيام. غير أن ما يمكن أن يوقِف هذا المشروع القاتِل هو خطة مُضادّة حقيقية، وليس ما نسمعه من حديث عن مشاعر القلق والرفض، والتحديق في قرار البيلدوزر الأميركي، الذي يسير من دون كوابح.
من الصعب تصوّر موقف عربي رسمي مُهاب في مواجهة الانفلات الأميركي القادم، إذ أن عناصر إنبات أيّ موقف قوي لإسناد الحقوق الفلسطينية لم تتوفر في الماضي، ما يعني أن فُرَص التصدّي العربي الرسمي للمواقف والسياسات الأميركية الجديدة تبدو أقرب إلى أحلام اليقظة. ولعلّ الأكثر خطورة من هذا كله، أن ينتقل الرسميون العرب إلى الضفة الأخرى، ليصبح الدعم للمشاريع الإسرائيلية في السرّ والعلن عنوان المرحلة كما تتواتر التسريبات التي تؤكّد ذلك.
وأمام ما تُبديه الأنظمة من وهْنٍ وفشلٍ في تحقيق أيّ شيء للفلسطينيين، تصبح القوى الشعبية والمقاومة الأمل الذي يمكنه الاستمرار في مواجهة المواقف الأميركية المُعادية. وهذا يحتاج إلى توحيد المواقف، والاتفاق على برنامج مقاوِم واحد لمواجهة هذا القرار الأميركي، والعمل على تشكيل فريق قانوني يُعدّ الملفات الخاصة بالجرائم والانتهاكات الإسرائيلية ورفعها أمام المحاكم والمنصّات الدولية من أجل أن يعرف العالم حقيقة الظلم والمُعاناة الفلسطينية.
 المصدر: الميادين

ليست هناك تعليقات: