الثلاثاء، 16 مايو 2017

عودة صلاح الدين.. التاريخ يراجع أوراقه




قاسم شعيب

ولد صلاح الدين يوسف بن أيوب، المعروف بصلاح الدين الأيوبي، في شمال العراق وبالتحديد في تكريت (532 - 589 هـ / 1138 - 1193 م). وكما هو شأن أي حاكم في التاريخ، يمجّد صلاحَ الدين البعضُ ويحتقره آخرون. آخر من تجرّأ على نقد يوسف بن أيوب هو الكاتب المصري يوسف زيدان الذي وصفه فقال إنه: "أحقر شخصية في التاريخ". والأفضل للموضوعية العلمية أن يتم الحكم على أحداث التاريخ وليس شخوصه مادامت الشخصيات التاريخية تثير كل هذا الجدل!.
جاء صلاح الدين في ظرف تاريخي مزدحم بالصراعات الداخلية والخارجية. وكانت هناك ممارسات ضد الانسان بمبررات مذهبية وطائفية وسياسية تشبه ما نراه اليوم. كان الناس يقتلون لمجرد اختلافهم الديني أو المذهبي. ولم يكن العلماء أو الفلاسفة استثناء كما حدث للسهروردي المقتول.. ولعل الظرف التاريخي الذي نمر به اليوم يشبه الماضي. بل هو أسوأ أمام واقع التخلف والتبعية والغرائز الطائفية المنفلتة.
تكلم الكاتب المصري يوسف زيدان فأثار حوله الداعمين والشاتمين ولم يبق ذو صيصة لم يدل بدلوه الفارغ في أكثر الأحيان الا من الهواء.. الخواء المعرفي، وفراغ العقل، وغياب الانصاف وتحكّم التاريخ المكتوب وسلطة السائد هي الأشياء التي تحكم ردات الفعل. إذ لا مكان للدراسة العلمية الموضوعية لشخصية الفاعلين التاريخيين. لا يتعلق الأمر بصلاح الدين وحده بل يشمل سير الكثيرين الذين يتم تقديس أكثرهم لا لشيء إلا لأنهم كانوا حكاما واستطاعوا أن يستأجروا كتّابا يزوّروا لهم التاريخ ويصنعون منهم أبطالا..

يوسف شاهين يتخيل
صوّر المخرج المصري يوسف شاهين في فيلم "الناصر صلاح الدين"، يوسف بن أيوب بطلا قوميا عروبيا حارب الأعداء. كان الفيلم متخما بالأيديولوجيا ودعاية واضحة لفكرة القومية التي انتهت صلاحيتها اليوم. لم يكن الفيلم سوى تمثيلية من قصص الخيال والفنتازيا تم حبكها بأسلوب فني لا يمكن إلا الاعتراف لأصحابه بالقدرات الفنية الكبيرة. جاء الفيلم متضمنا لقليل من التاريخ وكثير من الخيال. من التاريخ كان مشهد المرأة الافرنجية التي جاءت الى معسكر المسلمين واستغاثت بصلاح الدين بعد أن فقدت ابنتها التي خطفها بعض الجنود المسلمين. ولم يقصّر صلاح الدين فأمر بالبحث عن البنت حتى وجدها وردها الى أمها. بعد خروج كل الصليبيين من القدس مقابل فدية رمزية للرجال والنساء والأطفال، لم يقبل الرجل أخذ الأموال من الفقراء ودفعها من خزينته..
كبّر الفيلم صورا لم تكن موجودة وأهمل صورا أخرى كثيرة. قال في مبالغة مكشوفة، أن مسيحيي العرب حاربوا مع صلاح الدين، وأن شخصية كعيسى العوام المسيحي، كان من أبرز قادة صلاح الدين، وهذا شيء لا صحة له، فعيسى العوام كان مسلما، وكان من متطوعا في جيش صلاح الدين.
من الأشياء الأخرى التي لا واقع لها في التاريخ ذهاب صلاح الدين الى ريتشارد في خيمته لتطبيبه، هذا لم يحدث. فالرجلان لم يلتقيا على الإطلاق. وحتى مفاوضات الصلح  تولاها أبو بكر أخو صلاح الدين.
حاول الفيلم أن يقدم صلاح الدين فارسا لا يشق له غبار فصوّر في مشهد درامي بطولة صلاح الدين وفروسيته الخيالية تماما في المبارزة بينه وبين “رينو دي شاتيو”، الأمير الفرنسي المغامر، والذي كان سببا -مع آخرين- في هزيمة حطين. قال المشهد إن صلاح الدين أقسم أن يقتله بيده جراء ما فعله هذا الأمير؛ رينو/ أرناط في المصادر العربية، من الهجوم على المدينة المنورة والتهجم على قبر الرسول ص، وهو ما حدث بعد انتصار حطين. المبارزة لم تحدث أبدا ولم تكن إلا خيالا سينمائيا..
لم يعامل صلاح الدين الأسرى بطريقة حضارية ولا بطريقة إسلامية بل انه كان يذبح الأسرى من الأسباترية والداوية بالمئات لأنهم كانوا الأشرس والأقوى في محاربته. وهو ما لم يصوره الفيلم.
صالح صلاح الدين ريتشارد نتيجة الانقسامات التي كانت تعصف بجيشه ولم تكن المعنويات مرتفعة ولا كان الجيش كتلة واحدة. ولو كان الأمر كذلك لما اضطر الرجل إلى مصالحة الصليبيين وقائدهم. صالحهم بعد أن هاجموا القدس واسترجعوه ولم يستطع صلاح الدين سوى أن يوقع معهم صلحا ثم ما لبث أن مات بعد سنة. وهذا بعكس ما صوره الفيلم. لم يكن صلاح الدين الكردي عروبيا ولا كان ملائكيا في حروبه وفي كثير من مواقفه كما أراد أن يصوره يوسف شاهين.

يوسف زيدان يحفر
تصوّر كتب تراثية كثيرة صلاح الدين على أنه شيطان رجيم. ووصل الأمر بالكاتب المصري يوسف زيدان إلى حد وصفه بأحقر شخصية في التاريخ. الصفة غير مناسبة في البحث العلمي والافضل وصف الأحداث وليس الاشخاص. لا شك أن الصراع السياسي والديني كان على أشده. ومن الطبيعي أن يرى من يوافق صلاح الدين في الدين والمذهب فيه قديسا بينما يراه خصومه شيطانا رجيما. لا يتعلق الأمر بالشيعة الذين كانوا ضحايا لممارساته. بل يشمل أيضا الكثير من المسيحيين والعلمانيين الخارجين عن المذاهب.
كان هناك صراع سني شيعي وكان صلاح الدين، الأشعري الذي يميل إلى التصوف، طرفا فيه. وهذا يعني ضرورة العودة الى التاريخ بعين الباحث العلمي المنصف الذي يتعالى على الانتماءات من أجل الحقيقة. فجزء من مآسي العرب والمسلمين اليوم هو عدم قراءتهم لتاريخهم بإنصاف وموضوعية بهدف تصحيح الاخطاء بسبب الغرائز الطائفية والمذهبية والدينية الراسخة والتي يرفض الكثيرون محاكمتها بالأساليب العلمية المتاحة.
دخل الفاطميون مصر سنة 358هـ حسب الخطوطات التاريخية، وليس قبل ذلك بقرن كما قال يوسف زيدان. أما انتماءهم للسلالة الهاشمية فهو أمر يشكك فيه كثيرون رغم أن هناك أدلة على صحته. ومهما كان نسبهم فهذا ليس مهما. ما يهم هو أنهم كانوا إسماعيليين. أي أنهم لم يكونوا من الطائفة السنية التي حكمت تاريخيا حتى ذلك الوقت. وانتماؤهم المذهبي هو ما سيسبب الكثير من المجازر التي تعرض لها أنصارهم بعد سقوط دولتهم ليس في مصر وحدها بل ايضا في تونس قبل ذلك.
كان صلاح الدين وزيرا للخليفة العاضد الفاطمي آخر الخلفاء الفاطميين، ولم يكن صلاح الدين أول وزير سني لمصر، بل سبقه على سبيل المثال لا الحصر، رضوان بن الولخشي، والذي توسع في بناء المدارس السنية لمحاربة المذهب الاسماعيلي الشيعي الذي كان مذهب الفاطميين الحكام.
كان المد السني قويا عندما أصبح صلاح الدين وزيرا وكانت الدولة الفاطمية قد دخلت طور الاحتضار ولم يتبق إلا إعلان الوفاة الرسمي. كان ذلك الظرف مناسبا لصلاح الدين لإنهاء الدولة الاسماعيلية.
يحاول بعض المؤرخين تبرير ممارسات صلاح الدين ضد الفاطميين بالقول إنهم حاولوا استدعاء المحتل والاستقواء به فقام صلاح الدين بذبحهم. المصادر التي تورد ذلك ليست محايدة. وإذا فرضنا صحتها فإنها لا تستطيع تبرير جرائم القتل التي طالت الآلاف من الناس لا لشيء سوى عواطفهم تجاه الفاطميين. فقد جرى ذبح الكثيرين منهم بينما تم تجميع آخرين في مراكز اعتقال صحراوية وتم عزل الرجال عن النساء وتركهم يموتون جوعا تحت لهيب الشمس.. وهو ما سبب ظهور ثورات عديدة ضده.
وبحسب الكاتبة لميس جابر: كان “صلاح الدين الأيوبي مُحاربا وعنيفا جدا. ذبح الفاطميين دون رحمة، وقلب المساجد الفاطمية لمساجد فيه 4 مذاهب”.

مثقفو مصر يكشفون
وفي ندوة عقدتها لجنة التاريخ بالمجلس الأعلى للثقافة في مصرأكد باحثون ان صلاح الدين أحرق مكتبة دار الحكمة التى كانت تحوى عشرات الوثائق والمخطوطات ذات الأهمية الكبيرة التى تؤرخ بشكل أفضل لتاريخ الفاطميين، ونجح فى أن يمحى هذا التاريخ تماما من أذهان المصريين والعرب.
وقال المشاركون في الندوة ان الدولة الفاطمية عاشت باعتبارها دولة اسماعيلية شيعية، وعندما كتب "علماء السنة" عن العصر الفاطمى، جاءت كتاباتهم محملة بكثير من الحقد، وطعنوا حتى فى أصولهم ونسبهم.
ورغم ان مصر لم تشهد ازدهارا كالذي شهدته في عهد الدولة الفاطمية بحسب الدكتور محمود إسماعيل فى بحثه: "الفكر الإسلامى فى مصر الفاطمية، مقومات الازدهار، وعوامل الإنهيار"، الا أن "أهل السنة كفّروا الفاطميين، وصنعوا الهوجة التى سار عليها الجميع فى مهاجمتهم".
بل إن شيخا أزهريا اسمه أحمد راسم النفيس قال: "إن صلاح الدين الأيوبى دمر مصر كلها ولم يقم بتدمير تاريخ الفاطميين والشيعة فقط، حيث إن تدميره لمكتبة دار الحكمة والتي كانت تحوى أكثر من 2 مليون كتاب وبيعه لكتب الفاطميين بالبخس يعد بمثابة جريمة حضارية في حق المصريين جميعاً. كما قام (...): "بهدم أهرامات الجيزة، والتي كان عددها 18 هرماً بجوار الأهرامات الثلاثة الموجودة حالياً والتي لم يتمكن من هدمها، مضيفاً أن صلاح الدين قام بتسريح الجيش المصري والإبقاء على فرق الحرس الجمهوري الخاص به". وأضاف: "إن الاستيطان اليهودي بدأ في فلسطين على يد صلاح الدين، مشيراً إلى أنه لم يكن هناك أي يهودي على أرض فلسطين قبل الاحتلال الصليبي للقدس". وقال النفيس: "إن صلاح الدين كان مرتزقاً تابعاً للسلاجقة الأتراك الذين حكموا بغداد، وكانت قبائلهم قائمة على السلب والنهب، مضيفاً أن المقريزي قال إن صلاح الدين هو الذي قام بتحويل الفلاح المصري إلى "عبد قرار" أي لا يملك بيع أو شراء نفسه".


من يكتب التاريخ هم المنتصرون. والأيوبيون هم من كتب تاريخ الفاطميين. ومن الطبيعي أن يحاولوا بكل قوة إخفاء حسنات أسلافهم.. وإخفاء ما تعرضوا له من قتل وذبح أيضا!

ليست هناك تعليقات: