قاسم محمد
قبل أكثر من قرن من الزمان كانت بريطانيا
طرفا في تقسيم المشرق العربي من خلال اتفاقية سايكس بيكو. لكن الذي يحصل اليوم،
ليس فقط اهتزاز الكيانات التي صنعها ذلك الاتفاق، بل أيضا اهتزاز كيانات صانع ذلك
الاتفاق. فبريطانيا تواجه اليوم خطر التقسيم بعد الزلزال الذي سببته نتيجة
الاستفتاء على الخروج من الاتحاد الأوروبي.
لم يكن أكثر المتشائمين يتوقع تلك النتيجة
التي أدت إلى إعلان رئيس الوزراء كاميرون الاستقالة. لكن الصدمة ضربت أسواق المال
التي انهارت، والجنيه الاسترليني الذي فقد جزء كبيرا من قيمه أمام الدولار. كثير من
المحللين أرجع خيار البريطانيين إلى صعود التيار اليميني بسبب مشاكل الهجرة
والبطالة والإرهاب والهبوط الحاد في نسبة نمو السكان. التيار اليميني الذي لم يخف
فرحه بالنتيجة التي اعتبرها يوم عظيما للاستقلال عن الاتحاد الاوروبي.
فبسبب هبوط نسبة النمو السكاني والحاجة الى ملأ
الفراغ من خلال الهجرة، ازدادت النزعات العنصرية الرافضة لها ليس في بريطانيا
وحدها بل في كل أوروبا. والهجرة غير المنظمة لابد ان تسبب اهتزازا للاستقرار الاجتماعي
وتزيد من نسبة الجريمة وترفع نسبة البطالة.
فاجأت بريطانيا العالم بقرار إعلان الطلاق،
وهو ما فتح شهية اليمين الأوروبي للمطالبة باستفتاءات مماثلة كما فعل في فرنسا
وهولاندا والدانمارك.. بينما أصبحت بريطانيا نفسها تواجه خطر التفكك بعد إعلان
سكوتلندا رغبتها في الانفصال.
وتجميع ثلاثة ملايين صوت للطالبة بإعادة الاستفتاء
يمثل رفضا لجزء كبير من البريطانيين نتيجة الاستفاء. فتداعيات الخروج المباشرة على
الاقتصاد ربما دفعت نحو ذلك رغم انها تداعيات مرحلية. من الممكن أن تخسر بريطانيا
اقتصاديا بخروجها من الاتحاد الاوروبي فلندن تعتبر مركزا ماليا للقارة الأوروبية
والانفصال قد يؤثر على موقعها لصالح مراكز أخرى مثل باريس ولكسمبورغ وفرنكفورت، والمصارف
الكبيرة بدأت تبحث عن عناوين جديدة لها. كما أن الشركات البريطانية يمكن أن تتأثر
قدرتها على المنافسة.
وفي المقابل، فإن هبوط الجنيه مفيد لتزايد أعداد
السياح وتراجع أسعار العقارات. وهو ما يعطي قوة للاقتصاد البريطاني. لكن ذلك كله
يبقى مؤقتا في انتظار استعادة الاقتصاد توازنه. فالمسألة ليست إلا ردة فعل مؤقتة
للسوق بسبب الذعر الذي تصيب عادة رؤوس الأموال، أو بسبب وجود صيادين لا يفلتون
عادة مثل هذه الأوضاع لربح أكثر ما يمكن.
وفي كل الأحوال لا تنبغي المبالغة في ما حدث،
خاصة على المستوى الداخلي. فبريطانيا لم تتخل عن عملتها الجنيه لصالح اليورو، ولم
تدخل في اتفاقية الشينغن، وهو ما يعني أن بريطانيا كانت عضوا غير كامل في الاتحاد
الأوروبي. وأن ما حدث هو إعلان طلاق تطور عن حالة انفصال واقعية.
ربما كان شارل
ديغول على حق عندما قال إن بريطانيا عبء على مسار البناء الأوروبي. وإذا لم تكر السبحة،
فإن خروج بريطانيا قد يشكل فرصة لإعادة بناء أوروبا السياسية. غير احتمال أن يكون
هذا الطلاق نقطة البداية لنهاية التكتل الأوروبي يبقى قائما.
كان ديغول يرفض
انضمام بريطانيا إلى المجموعة الأوروبية لأنه رأى فيها جسرا للولايات المتحدة أيام
الحرب الباردة، بينما كان الجنرال الفرنسي يريد الحفاظ على مسافة معينة مع واشنطن من
خلال تكريس الثنائية الفرنسية- الألمانية محركا للبناء الأوروبي. ولا يبدو اليوم أن
الولايات المتحدة تريد التخلص من ذلك الجسر بقدر ما تبحث عن إبعاد بريطانيا عن أية
احتمالات سيئة أمام تصاعد التوتر الأوروبي الروسي. فهناك احتمال وجود اتفاقات غير
معلنة بين الولايات المتحدة وبريطانيا من أجل النأي عن أوروبا يبقى قائما.
فمن جهة، يشكل
وجود الاتحاد الأوروبي منافسا اقتصاديا للولايات المتحدة الامريكية من مصلحتها
تفكيكه وإضعافه. ومن جهة أخرى، تواجه روسيا استفزازات عسكرية مستمرة يمارسها
الناتو في دول أوروبا الشرقية خاصة ويصر الأمريكيون على تكرار تلك الاستفزازات
وتوسيعها. ومن الممكن أن ينفذ صبر الروس أمام ذلك الحصار الاقتصادي الأوروبي
وتلك الاستفزازات الاطلسية المتكررة لتتطور الأمور نحو الأسوأ. والأفضل بالنسبة
إلى بريطانيا، في هذه الحالة، الابتعاد عن تلك التوترات رغم أنها تبقى عضوا في
الحلف الأطلسي..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق