قَرْن من الألم الفلسطيني.. وماي تتباهى!
لم تُبدِ رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي أي ندم، ولم تقدم أي اعتذار وهي تتحدث في برلمان بلادها عن مرور قرن من الزمان على وعد وزير الخارجية البريطاني حينها، آرثر بلفور للورد ليونيل وولتر دي روتشيلد، أبرز قادة الحركة الصهيوينة بإنشاء وطن لليهود على أرض فلسطين. بل على العكس من ذلك، تعهدت بالاحتفال بمئوية ذلك الوعد المشؤوم ودعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو برفقة 150 شخصاً آخراً لحضور الاحتفال وكرّرت افتخارها بذلك وتعهدت بمواصلة العمل مع الإسرائيليين أمام مشهد الاهتراء العربي غير المسبوق.
سبق أن اعتذر البريطانيون عن أخطائهم بسبب مشاركتهم في تجارة الرقيق ودورهم في المجاعة الإيرلندية، لكنهم، عندما يتعلق الأمر بوعد بلفور، فإن الفخر يأخذ مكان الاعتذار رغم فداحة الجريمة.
لم يكن الدور البريطاني بتلك القوة، وهو يؤسس لكيان صهيوني في فلسطين، لولا نجاح اليهود، مبكراً، في اختراق بريطانيا وأوروبا عامة وتطويعها، كلها، لخدمة مشروعهم رغم الحقد التاريخي الذي يحمله الأوروبيون ضدهم بسبب موقفهم من المسيح، ثم بسبب ممارساتهم التي أدت إلى طردهم من أوروبا في القرن 13 قبل أن يعودوا إليها في القرن 15.
كان هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية يميل إلى تحميل ألمانيا مهمة المساعدة في احتلال فلسطين وتسليمها لليهود بسبب انتمائه إليها كما قال، غير أن الواقع رجح كفّة بريطانيا.
نجحت الصهيونية في اختراق أوروبا دينياً وسياسياً. ومن دون ذلك ما كان لحلمها أن يتحقق. من الممكن الحديث عن تحالف صهيوني - غربي، ناتج عن التقاء مصالح.
غير أن ذلك التحالف لا يستقيم لو لم يحقق اليهود ما يكفي من القوة التي مكنتهم من صناعة مذاهب فلسفية ودينية والإطاحة بأنظمة وحكومات، من خلال ثورات بَدَت شعبية، لتصعيد أنظمة أخرى متحالفة معهم، والسيطرة على بنوك وشركات ومؤسسات وأسواق.
مثَّلت البروتستانية مفصلاً مركزياً في تغيير نظرة المسيحيين لليهود، بدَت تلك الحركة مذهباً إصلاحياً دينياً قاده مارتن لوثر وجون كالفن من داخل الكنيسة من أجل إلغاء تقاليد كاثوليكية اعتبرت سبباً في واقع التخلف الذي عانت منه أوروبا في القرون الوسطى مثل صكوك الغفران ومعاداة العلم ووساطة رجال الدين وأولوية العهد الجديد على العهد القديم. غير أنه تبيّن، لاحقاً، أنّ ما حدث لم يكن سوى عملية صناعة مذهب من داخل المسيحية يتبنّى المقولات الدينية اليهودية ويقدّمها على نصوص الإنجيل.
تم ربط الإيمان بالمسيحية بالإيمان بعودة اليهود إلى الأرض المقدسة. وبعد إدخال الكالفينية إلى أنجلترا توسعت البروتستانتية وتأسست الكنيسة الانغليكانية التي انتشرت لاحقاً في كل أنحاء العالم بشكل غير متوقع..
استطاع اليهود أن يكونوا مؤثرين بقوة في الثقافة الأوروبية الحديثة. والدور الذي لعبوه في صناعة تلك الثقافة لا ينحصر في ما قام به علماء ومفكرون وفلاسفة يهود، بل يشمل أولئك الأفراد غير اليهود الذين رعوهم وتلك المؤسسات التي موّلوها، ولا يزالون، لنشر أفكارهم وثقافتهم. يملك اليهود اليوم أكبر وكالات الأنباء وأوسع وسائل الإعلام انتشارا وأشهر مؤسسات الإنتاج السنيمائي وأفضل الجامعات والمؤسسات البحثية.. ومن خلالها جميعا ملكوا أغلبية العقول.
لكن القوة المالية اليهودية لم يتوقف تأثيرها عند صناعة الثقافة الأوروبية والغربية الحديثة، بل إنها امتدت إلى عمق السياسة. لم تكن العلاقة الأوروبية اليهودية التي نُسجت خيوطها منذ القرن الخامس عشر فعلاً منعزلاً ولا مجرد نزوة. بل إن ما حدث، منذ وعد بلفور، كان امتداداً لمسار نجح فيه اليهود في دعم الثورة في انجلترا وإيصال كرومويل إلى الحكم، وهو ما مهّد بقوة لوعد بلفور بعد فشل محاولة نابليون الذي أراد أن يكون سبّاقاً في مساعدة اليهود على إنشاء كيان لهم في فلسطين، والذي كان هو الآخر ثمرة للثورة الفرنسية التي مكّنت اليهود من تحقيق مساواة مواطنية افتقدوها قبل ذلك في فرنسا عندما كان اليهودي يعامل معاملة العبيد.
ورغم أن الدور الأوروبي تراجع لمصلحة الدور الأمريكي الذي أصبح الأقوى، بعد الحرب العالمية الثانية، بقيت أوروبا الجار الأقرب اقتصادياً وسياسياً لإسرائيل في محيط معاد.
استمرت تهمة معاداة السامية فيها جاهزة لكل معارض للصهيوينة. وحتى السباقات الرياضية والفنية المختلفة لم تجد إسرائيل مكاناً للمشاركة فيها سوى الإطار الأوروبي.
عزّز القرب الجغرافي التعاون الاقتصادي بين الشريكين الحليفين. فالاقتصاد الإسرائيلي الذي يعتمد على التجارة الخارجية يحتاج إلى أسواق خارجية. والشواطئ الأوروبية هي الأقرب لإسرائيل. وقد ساعد النفوذ المالي والاقتصادي اليهودي الكبير في أوروبا على تقوية تلك العلاقات التي توجت أكثر من مرة باتفاقيات للتعاون والشراكة سنوات 1970 و1975 و1991 و1995.. والتي أعطت للإسرائيليين معاملة تفضيلية في منتجاتها الزراعية والصناعية. وفي 2008 ذهبت 33% من صادرات إسرائيل إلى أوروبا.
بعد الحرب العالمية الثانية وصعود الولايات المتحدة، تراجع موقع الأوروبيين سياسياً وأصبحوا، بدورهم، تابعين للموقف الأميركي باستثناء حالات نادرة. عملت إسرائيل على الاحتفاظ بعلاقات قوية مع واشنطن وبروكسيل في وقت واحد غير أنها كانت تقدم علاقتها مع الأمريكيين. فهناك تعيش اللوبيات الصهيوينة الأقوى وتنتصب الشركات اليهودية الأضخم.
تراجع الدور الأوروبي إلى مجرد مجلى للصّحون. وقد عبّرت عن ذلك أطروحة روبرت كيجان بعمق حين تحدث عن فردوس كانط الأوروبي مقابل أسبرطة واشنطن.
تدرك تل أبيب طبيعة الصراع الناعم بين الاتحاد الأوروبي وأمريكا لكنها تفهم أن القوة مع واشطن. يبدو ذلك واضحاً من خلال انتهاكات إسرائيل لحقوق الفلسطينيين التي لا يمكن لأوروبا سوى إظهار الرفض والتنديد بها دون الجرأة على اتخاذ أية خطوات عملية، فذلك هو المقدار المسموح به لسياسيين جاء بهم رأس المال. بل إن الأوروبيين لا يترددون في استخدام حق الفيتو كلما تعلق الأمر بإدانة سلوك إسرائيلي.
كانت بوصلة المواقف الأوروبية مرتبطة بالمواقف الكلاسيكية الإسرائيلية، تطور الموقف، تبعاً لتطور الموقف الإسرائيلي نفسه، من اعتبار القضية الفلسطينية مجرد قضية لاجئين إلى قضية شعب له حقوق سياسية في تقرير المصير، فأُقيمت مفاوضات أوسلو التي أنتجت سلطة شكلية في الضفة وغزة. غير أن ذلك لم يكن سوى محاولة بائسة لإسكات أصوات كثيرة لم تقبل، يوماً، ظلما يتعرض له شعب بأكمله.
الميادين
الميادين
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق