قاسم شعيب
تتوسع الحروب
في هذا العالم كل يوم. وكلما خمدت حرب اشتعلت أخرى. هذا الواقع دعا كثيرين إلى
التساؤل عن سبب معقول لذلك. لكن الأسباب لم تعد مجهولة ولا خفية. لم تعد المسألة مرتبطة
فقط بتجارة السلاح والدواء والغذاء وإعادة الاعمار والإقراض، بل إنها باتت ترتبط
بمشروع كبير يسميه أصحابه النظام العالمي الجديد الذي يحتاج إلى افتعال الحروب
والفوضى من أجل بنائه على أنقاض هذا النظام القائم..
يحاول أصحاب
هذا المشروع إقناع شركائهم أن السلام العالمي لم يعد ممكنا دون بناء دولة عالمية
واحدة ذات حكومة واحدة. لكنهم لا يتحدثون عن العلاقة بين السياسة والأخلاق داخل
هذا النظام المزعوم، بل إن كل شيء يشير إلى التحرك نحو تهيش كامل للأخلاق. فهم
يريدون التشجيع على الإباحية والإدمان ويراهنون على تدمير الأسرة والأخلاق
والأديان.
ليس ممكنا
تحقيق السّلام، الذي يتحدث عنه دعاة النظام العالمي الجديد، قبل أن تصبح الأخلاق
هي الحاكمة على الممارسة السياسية. فالسلام الأبدي الشامل بين الناس مشروط بانتشار
نور المعرفة والتزام الحق واحترام القيم كلها. وعندما نعرف أن الأخلاق كلية وعامة
لا تستثني شيئا، فإن ذلك يعني أن إطارها الأفضل هو الدولة العالمية الصالحة
والواحدة. وليس دولة بلا قيم ولا أخلاق كما يطرح جماعة النظام العالمي الجديد.
إنهم يتحدثون
اليوم عن الدولة العالمية ويخططون لها لأنها تمكنهم من تعميم الأفكار التي يؤمنون
بها بين الناس وتجعلهم سادة على العالم. أما قضية السلام أو أية قيم أخرى فلا تدخل
ضمن اهتماماتهم، بل إن هدفهم استعباد البشر كما تقول بروتكولاتهم.
نعيش اليوم زمن
الحروب والفتن التي لم تعد وحشيتها وهمجيتها خافية. وهذا ليس شيئا جديدا بل إن
التاريخ يحدثنا عن أمثلة كثيرة عنه. وما يقال عن الحرية والحقوق في الغرب لا يبدو
حقيقيا أمام ممارساته التي تفتعل الحروب والصراعات من أجل الهيمنة والإخضاع
والنهب. فهناك حيث يحكم رأس المال لا توجد سوى ديمقراطية شكلية وحريات سلبية وقيم
محدودة وصلت اليوم إلى مرحلة الاهتراء.
بنيت الدولة في الغرب على أساس قيم محدودة اخترعتها تصورات الإنسان
الضيقة. وتلك القيم المحدودة تآكلت اليوم. ولأجل ذلك تحتاج الدولة الإنسانية ذات
الامتداد العالمي أن تكون دولة الانسان في كليته وهذا لا يمكن ان يحصل إلا
بالانطلاق على أساس قيم مطلقة.
وحتى تستمر في الوجود وتحقق أهدافها، تحتاج تلك الدولة إلى مجموعة من
العناصر. وتلك العناصر هي وحدة الفكر ووحدة القيادة ووحده القيم ووحدة الهدف. وهي
عناصر تستهدف الانسانية كلها باعتبارها نوعا. فالدولة العالمية لابد ان تكون لكل
الناس، وليس دولة فئة كما يطرح دعاة النظام العالي الجديد. ولابد أن تكون قيمها
نوعية موجهة إلى النوع البشري وليس إلى فرد دون آخر أو فئة دون أخرى. إن الأمن
والسلام والعدالة والحرية والعلم.. هي القيم الأساسية التي لا مجال لتحقيقها دون
قيادة تتمثّلها وفكر يتبناها وقوانين تحميها.
لن تنتهي الحروب
إذا بقي العالم محكوما بدول منفصلة لا تتبنى سوى مصالح المجموعة التي تحكمها. فهذه
الدول المتعددة لا يمكنها تجنب الحرب والصدام لأن تناقض المصالح الفئوية والجزئية
يقود إلى ذلك، كما أن القيم المحدودة التي تتبناها تلك الدول لا يسمح لها
بالاستمرار وحماية القيم الإنسانية العليا. والحرب التي نراها اليوم تتحرك على
مستوى العالم، تفتعلها دول تدعي الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وهو ما يعني
فشل كل المنظومات الفكرية والفلسفية التي تنبني عليها تلك الديمقراطية.
وحتى فكرة
المنظمة الأممية الراعية للسلام التي دعا إليها كانط وتحولت لاحقا إلى واقع، مثل
عصبة الأمم ثم منظمة الامم المتحدة، لم تستطع إيقاف الحروب. بل إن تلك المنظمة
كانت مجرد إطفائي حرائق في أحسن الأحوال مهمتها تسكين الآلام التي تسببها الحروب
أو الظلم الذي تمارسه الأنظمة الفاسدة من خلال بعض التصريحات أو المساعدات..
لقد التقط دودرو ويلسون (1856 ـ 1924)، وهو الرئيس الثامن والعشرين للولايات المتحدة
الاميركية (1913 ـ 1921)، فكرة الفيلسوف الألماني كانط. فقد كان تلميذا له وأصبح أستاذا
جامعيا، ورئيسا لجامعة برنستون قبل أن ينتقل إلى السياسة ويصل إلى موقع الحكم. أسّس
ويلسون عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة من أجل حل النزاعات التي قد تنشب
بين الأمم عن طريق الاحتكام إلى القانون الدولي وليس إلى قعقعة السلاح. وكان
الجميع يظن أنها فكرة ثورية تستطيع التأسيس لنظام عالمي لا يحكم على أساس القوة. لكن
ذلك لم يوقف اندلاع الحرب العالمية الثانية. وبعد قرن من الحروب المتتالية التي
تفتعلها عادة أنظمة أوروبية وأمريكية محكومة بواسطة قوى شريرة لا تحب الخير
للبشرية، تأكَّد أن المصالحة بين الأخلاق والسياسة، ليست ممكنة في ظل الفكر
الليبرالي الخاضع بكليته لسطوة الرأسمالية المنفلتة.
إن المشكلة
ليست في هذا الشخص أو ذاك داخل الإدارة الأمريكية مثلا، بل إنها أعمق من ذلك
بكثير. إنها مشكلة فلسفة ورؤية. مشكلة دين وفكر ومنهج في الحياة. فما يروّج له
الغرب وأمريكا من خلال فكرة النظام العالمي الجديد ليس نظاما بلا دين بل إنه نظام
له دينه. لكنه دين مدمّر لأنه يدعو إلى ضرب كل القيم الإنسانية السامية من خلال
نشر الإدمان والسدومية والخراب.. إن ما كان يدعو إليه وينستون من سلام وعدالة لا
يختلف عن خطاب أي رئيس أمريكي آخر. وهذا يعني أن ذلك الخطاب كان مجرد مصيدة وفخ
للإيقاع بالبسطاء في حبائل الرأسمالية الليبرالية القائمة على الغرائزية المفرطة
وسرقة جهود الناس البسطاء.
إن الإرهاب
والحروب والظلم الذي يمارس اليوم باسم الدين، تديره المخابرات الغربية كما يتكشف
ذلك من خلال تسريبات كثيرة يتم فيها إخفاء الأدلة. وعندما يتعلق الأمر بمنظمات
إرهابية مثل القاعدة وداعش التي تقتل وتفجر باسم الإسلام، فإنه من المهم معرفة
الجهات التي صنّعت وموّلت ودرّبت وسلّحت. وقد اعترف الأمريكيون في مناسبات متعددة
أنهم هم من صنعها تماما كما صنع قبلهم البريطانيون المذهب الوهابي ليكون الأساس
الايديولوجي للإرهاب باسم الإسلام. فذلك يعني تشويهه وتقديمه على مستوى العالم
دينا دمويا وإرهابيا لأن هذا الدين يمثل العقبة الأخيرة ضد المشروع الرأسمالي الذي
يريد حكم العالم في إطار دولة واحدة.
إن الذين فجروا
في نيويورك وواشنطن وبالي وبغداد ودمشق واسطنبول وتونس وبيروت.. والذين يقتلون في
الموصل وحلب.. الآلاف من المدنيين الأبرياء، صنّعتهم المخابرات الأمريكية كما قال
الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب. فالارهابيون
هم عادة مدمنون ومنحرفون يتم غسل عقولهم في وقت قياسي ليسهل بعد ذلك التحكم فيهم. وتلك الجهات
المخابراتية هي التي تحكم عقولهم وحركتهم من خلال غسل أدمغتهم أو استخدام أنظمة
تكنولوجية حيوية مثل رقاقات البيو شيب Bio chip.
ما يفعله الغرب هو الاستثمار في تخلّف العرب. فلاشك أن هؤلاء العرب
يعانون اليوم أسوأ حالاتهم حيث ينتشر بينه الجهل والفساد والاستبداد والصراعات
والتشتت. بلغت نسبة الأمية في مجمل العالم العربي في سنة
2014 حوالي 19% من إجماليّ السكان، وبلغ عدد الأميين نحو 96 مليون نسمة. وعلى
مستوى العالم، تقول منظمة اليونسكو إن عدد الذين يعانون من الأمية يبلغ 757 مليون شخص
فوق 15 عاما حول العالم، بينهم 115 مليونا في مرحلة الشباب، و59 في المئة من هؤلاء
إناث.
وأوردت منظمة الأغذية
والزراعة بالأمم المتحدة "الفاو" في تقرير أصدرته، في شهر جوان يونيو
2015، أرقاماً صادمة حول مستويات الفقر المدقع في غالبية البلدان العربية، وحسب ما
أكدته المنظمة في تقريرها زادت معدلات الفقر في 15 من أصل 19 دولة عربية عضوا في المنظمة.
وبلغ عدد من يرزحون فيها تحت خط الفقر المدقع، وفقاً للتقرير، أكثر من 33 مليون نسمة.
وتصل البطالة إلى أكثر من 47 % في بعض الدول العربية. وعلى مستوى العالم، أشارت مدوّنة
نشرت على موقع "البنك الدولي" إلى أنّ ثلث شباب العالم عاطلون عن العمل ولا
يحصلون على التعليم أو التدريب. ومن بين المليار شاب الذين يُتوقع دخولهم سوق العمل
في العقد القادم، فقط 40% يُتوقع أن يحصلوا على وظائف متوفرة حالياً. وسيحتاج الاقتصاد
العالمي إلى خلق 600 مليون فرصة عمل في السنوات العشر المقبلة لمواكبة المعدلات المتوقعة
لتوظيف الشباب.
وفي موضوع
تعاطي المخدرات أظهر "تقرير المخدرات العالمي لعام 2016"، الذي أصدره
"البرنامج العالمي لمكافحة المخدرات والجريمة" (UNODC)، التابع للأمم المتحدة، أن
نحو 250 مليون شخصاً في العالم، أي نحو 5% تعاطوا المخدرات غير المشروعة، بمختلف أنواعها.
ولفت إلى أن 144 مليوناً يتعاطون البانغو، و29 مليوناً يتعاطون منشطات وحبوب
"أكتستاسي"، و14 مليوناً يتعاطون الكوكايين، و13.5 مليوناً يتعاطون الأفيون،
و9 ملايين يتعاطون الهيرويين. ورغم أن الدول العربية تتكتم على الرقم الحقيقي
لمدمني المخدرات إلا أن الأرقام تشير إلى أن نسبة المدمنين تزيد عن الـ 10%.
أمام هذا
الواقع من السهل تمرير أجندة إرهابية تعتمد غسل العقول تمهيدا لتحقيق أهداف كبيرة
لكنها ليست سوية. إن هذا كله يؤكد فشل الإيديولوجيا الليبرالية الغربية ونظامها
الاقتصادي الرأسمالي في حل مشاكل الإنسانية، وليس فقط فشل العرب في النهوض بأنفسهم
لتجنب استهدافهم وإخضاعهم. وهو ما يعني ضرورة تبني نظام اقتصادي وسياسي جديد يكون
قائما على الأخلاق وقادرا على حل تلك المشاكل. فلم يعد هناك معنى لمحاولات الترقيع
التي يدعو إليها البعض داخل هذا النظام الذي يراد تعميمه وقولبة العالم كله في
إطاره لأنه لا يملك، من الأساس، توازنا داخليا ولا يقوم على أساس فلسفي وأخلاقي
متين.