الثلاثاء، 17 يناير 2017

ترامب الهائج في مواجهة المؤسسة الحاكمة.. هل يخضع للأمر الواقع أم يتعرض للاغتيال؟







لم يكن مجيء دونالد ترامب إلى البيت الأبيض صدفة. ولا كان الرجل المفضل لدى الناخب الأمريكي. لقد اختاره المجمع الانتخابي المرتبط بالقوى المهيمنة، رغم فارق الـ3 ملايين صوت لصالح هيلاري كلينتون. تعرف المؤسسة الحاكمة في أمريكا كل شيء عن ترامب. تعرف مزاجه المتقلب وغوغائيته المفرطة وفضائحة الجنسية وتهربه الضريبي واضطهاده لموظفيه وعماله. وتعرف أيضا عواطفه تجاه الرئيس الروسي بوتين بسبب مزاعم عن تسريب مخابراته كي جي بي رسائل الكترونية خاصة من الحاسوب الشخصي لهيلاري كلينتون ا الحق أضرارا بها. بل تعرف حتى ما هو أكثر من ذلك.
لن تكون فترة الرئاسة الأولى لترامب، إذا حدثت، هادئة وخالية من العواصف والأعاصير. فالتوتر ظهر منذ اللحظة الأولى مع جهات متعددة حتى داخل الحزب الجمهوري فضلا عن أنصار منافسته كلينتون وحزبها المدعوم بقوة من الملياردير اليهودي جورج سوروس. بل إن ترامب ذهب إلى أبعد من ذلك وتحدى المؤسسة الأمنية واحتقر الاعلام والصحافة التي يعرف الجهات التي توجهها واستعدى القسم الاكبر من أعضاء مجلسي الشيوخ والنواب الديقراطيين والجمهوريين.
كان ذلك ردة فعل غير ناضجة ولا منضبطة من ترامب. وقع في الفخ الذي نصبه له المتحكمون في أوراق اللعبة من وراء حُجُب، فالهدف لم يكن مجرد إيصاله وينتهي الأمر بل إن المخطط يفترض افتعال صراع بينه وبين مؤسسات الدولة المخترقة طولا وعرضا من القوى الخفية. ورغم ولاء ترامب لها إلا أن القصة أبعد من مسألة الولاء، لأن الهدف كبير. هم يريدون السير بخطى أسرع نحو تنفيذ مشروع "النظام العالمي الجديد" واستحقاقاته في تعميم الفوضى داخل الولايات المتحدة نفسها وإشعال نيران الحرب مع الخصم الروسي وحلفاءه.
وفي محاولة لإخضاع ترامب ودفعه إلى إطلاق ردة فعل عكسية ضد موسكو، نشرت الأربعاء 9/1/17 صحيفتنا "الغارديان" البريطانية و"وول ستريت جورنال" الأمريكية، أن عميلا سابقا للمخابرات البريطانية يدعى كريستوفر ستيل، عمل في موسكو لعدة سنوات، هو الذي يقف وراء تسريب تقرير من 35 صفحة يتضمن شريط فيديو، صورته أجهزة المخابرات الروسية عن تورط الرئيس ترامب، في أعمال جنسية فاضحة أثناء إقامته في أحد أجنحة فنادق موسكو، احتوى عروضا شاذة لبنات ليل جرى استئجارهم لهذا الغرض. وقيل أن كريستوفر ودّع قطّته واختفى عن الأنظار خوفا على حياته من الاغتيال، فالمخابرات الروسية لا ترحم، وتملك إرثا عميقا في الاغتيالات.
نفى ترامب في مؤتمره الصحفي الذي عقده فجر يوم الخميس التالي، هذه المزاعم، وقال إنها معلومات كاذبة وملفقة. قال إنه كان يعلم جيدا بأن الفنادق في معظم أنحاء العالم تتضمن كاميرات تجسس، واتخذ لأجل  ذلك كل الاحتياطات اللازمة. لكن هذا بحد ذاته اعتراف ضمني بصحة تلك الأعمال الجنسية الشاذة المنسوبة إليه. فهو رجل مهووس بالجنس ومولع بالتحرش بالنساء الجميلات وتاريخه مليء بالفضائح مثل أي رجل أعمال آخر لم تكن لديه طموحات سياسية واضحة. ومع ذلك اتهم أجهزة الاستخبارات الأمريكية، التي لا تكن له أي ود، بالوقوف خلف هذه التسريبات لتشويه صورته التي ربما يظن أنها ليست مشوهة بما يكفي.
لا تستهوينا التحاليل السطحية التي لا تأخذ في اعتبارها سوى الظاهر من المشهد. بل إننا نعتقد أن التحليل العميق يحتاج إلى البحث عن الجهات الخفية المحركة لخيوط اللعبة.. إن ما يُعرف بالمؤسسة الأمريكية خاضعة بالكامل لإملاءات رأس المال الذي يتجمع بقوة في أيدي يهود أو مسيحيين تابعين للصهيوماسونية الحاكمة بالفعل في أمريكا. وكل ما نراه هو طبخة محكمة لإدخال الولايات المتحدة في دوامة العنف في الداخل ومع الخارج. لقد تحولت الولايات المتحدة الأمريكية إلى مستعمرة ضخمة لليهود وأتباعهم  وكانت طوال القرنين الماضيين  قاعدة لمراكمة ثروتهم والتحكم في العالم. ويبدو أنها قد أنهت مهمتها الآن ويجب التخلص منها وتدميرها تمهيدا لبناء نظام بديل تفرزه الحرب العالمية المنتظرة، تماما كما أفرزت الحروب العالمية السابقة أنظمة جديدة وقوى جديدة.
باراك أوباما، في خطاب الوداع الذي ألقاه في مدينة شيكاغو فجر الأربعاء الماضي، عبّر بشكل ماكر عكس ما تخطط له "المؤسسة" أو "الدولة الأمريكية "العميقة"، عن قلقه على الديمقراطية الأمريكية ومن عودة العنصرية، وتراجع قيم التسامح والتعايش في المجتمع الأمريكي، في إشارة واضحة إلى ترامب دون أن يسميه.
ليس أمام ترامب سوى تنفيذ ما هو مطلوب منه؛ أي الفوضى العنيفة في الداخل والحرب غير التقليدية مع الروس وحلفائهم في الخارج أو التعرض للاغتيال الذي يحقق الأهداف نفسها. فالاغتيال ليس غريبا على المؤسسة الحاكمة وهي التي قتلت كينيدي بسبب تمرده عليها كما قتلت عشيقته الممثلة الشقراء مارلين مونرو، وهي أيضا التي أطاحت بالرئيس ريتشارد نيكسون من خلال فضيحة "ووترغيت".

الخميس، 12 يناير 2017

جدلية السياسة والأخلاق في ممارسة الحكم






قاسم شعيب



تحيل صور العنف والقتل والجوع الصادمة إلى معضلة العلاقة بين السياسة والأخلاق داخل الأنظمة السياسية الحاكمة في هذا العالم، وتعيد إلى دائرة الجدل اتجاهات العلاقة المفترضة بين من يريد الاستمرار في إبعاد الأخلاق عن الممارسة السياسية، ومن يأمل في إخضاع السياسة للأخلاق من أجل تنظيفها من مظاهر الخداع والكذب والخيانة والفساد والقتل المجاني..
لا تستغني السياسة عن الأخلاق. وإذا فعلت ذلك، فإن الدولة تصبح حاضنة للفساد. والدولة، التي لا أخلاق تضبط حركة حكّامها والمسؤولين فيها، لا يمكنها أن تكون دولة الإنسان. ما نراه في الواقع أو ينقله لنا التاريخ يؤكد ذلك، ويدعو إلى قلب العلاقة من أجل أنسنة الممارسة السياسية التي كانت ولا تزال بعيدة عن المعنى الإنساني. والقوانين التي يمكن أن تمنع الفساد في ممارسة السياسة والحكم ثبت عدم نجاعتها وأنه يمكن دائما الالتفاف عليها.
لا تتوفر الأنظمة التي لا أخلاق فيها عادة على الحد الأدنى من الحرية الحقيقية، والكرامة الإنسانية، والقوانين المحترمة، والعدالة الاجتماعية. وإذا وجد شيء اسمه حرية، كما في كثير من البلاد، فإنه لا يمكن أن يكون إلا حرية سلبية غرائزية وليس حرية إيجابية تحترم العقل وقيمه.
توجد علاقة جدلية بين الفساد السياسي وغياب الأخلاق. فكلما كان السياسي بلا أخلاق كان فاسدا. بل إن الفكر المؤسس على رؤية مادية للوجود والحياة لا يمكنه إلا أن ينتج نظاما سياسيا واقتصاديا واجتماعيا بلا أخلاق. وفي ظل نظام فاسد، يعاني الأحرار من الناس سواء كانوا مفكرين أو علماء أو ناشطين أو معارضين من الرقابة المسلطة على حركتهم وفكرهم ويعيشون باستمرار خطر استهداف حياتهم أو حريتهم بسبب موقف أطلقوه أو مقال  كتبوه أو كتاب أصدروه..
إن الاستيلاء على السلطة، على أي نحو كان، والاحتفاظ بها من أجل خدمة فرد أو فئة على حساب الناس، يقتضي استعمال أساليب متنوعة من قهر والخداع والاستبداد لفرض رؤية تؤكد على مصالح ضيقة ولا تحتفي بأية قيم ممكنة. يصبح المعارض عدوا، وصاحب الرأي شرا، والمفكر خطرا.. وبسبب ذلك يتم تعميم أخلاقيات الخنوع وممارسات الدجل وسلوكيات الوشاية..
يحتاج أي نظام سياسي يحترم الانسان ويروم صناعة الواقع بشكل سليم إلى ربط الأخلاق بالسياسة بشكل وثيق، وليس إلى فصلهما عن بعضهما كما نظّر لذلك ماكيافيلي الذي كان يقول إن الغاية تبرر الوسيلة وإن الأخلاق شيء والسياسة شيء آخر، وكما تؤكد ممارسات كل الطغاة عبر التاريخ. هتلر، مثلا، كان يخفي تحت وسادته كتاب "الأمير" لميكافيلي لينام قرير العين بعد أن وجد من يقدم له ما توهم أنه طوق نجاته: "الغاية تبرر الوسيلة". والقصة ذاتها تروى عن ستالين وموسوليني وفرانكو وغيرهم من الذين أباحوا لأنفسهم استخدام أشنع أساليب القمع والقهر من أجل غايات رسموها وأهداف ضيقة أقنعوا بها أنفسهم. والدعوة إلى ممارسة نظيفة وأخلاقية لن تسقطنا في أية مثالية لأن الإنسانية مرت بفترات تاريخية امتلكت فيها أنظمة سياسية قائمة على الأخلاق.
وعندما لا يكون هناك مفر من الحرب، فإن الحرب أيضا لها أخلاقياتها حيث تنص القوانين والتشريعات المتفق بشأنها على تجنب المدنيين ومنع التمثيل بالجثث وحسن معاملة الأسرى ومنع الإبادة الجماعية..
وبناء الدولة الأخلاقية لا يعني الاستغناء عن القوة. فالحق لا يستقيم ولا يحكم دون الاستناد إلى القوة بأبعادها المختلفة السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية.. ولأجل ذلك لابد من اكتسابها. إن القوة هنا هي من أجل الحق والأخلاق، وليست من أجل الظلم والقهر. وفي الحالات التي تكون فيها الحرب ضرورة، يجب أن تكون من أجل تحرير الناس ونشر الحقيقة والعدالة والقيم الإنسانية بينهم. فهي حرب ضد الظلم والاستعباد، وليست حربا ضد الناس أو من أجل النهب والهيمنة.
إننا عندما نستقرئ التاريخ نلاحظ بسهولة تتطور الوعي البشري نحو الأفضل. لكن ذلك الوعي كان دائما محاصرا بقوى لا تحب الخير للآخرين وتعمل دائما من أجل تزييف الحقيقة واستغباء الناس بطرق خفية أحيانا وسافرة أحيانا أخرى. لكن الأنبياء والحكماء والفلاسفة، الذين يمتلكون رؤية تفاؤلية نحو المستقبل، كانوا دائما يعِدون الإنسانية بالنصر أخيرا على قوى الشر لنكون أمام تحقق فعلي لكل الآمال الإنسانية. فالحق والخير والجمال والحرية والسلام هي القيم التي طالما حلمت الانسانية الواعية بتحقيقها وهذا الأمر ليس مستحيلا من الناحية المنطقية بل إن مسار التاريخ يشير إليه.
ومن المهم القول إنه من غير الممكن أن تحقق الإنسانية قيمها الكبرى كاملة دون وجود الدولة العالمية التي ترعى تلك القيم. فالدولة التي تملك القوة وتؤمن بالقيم هي التي تستطيع حمايتها ونشرها. ومن دون ذلك يستمر العالم في الحروب والصراعات والتطاحن وظلم الناس بعضهم بعضا.

إن الغايات المعلنة مهما بدت سامية أو مقدسة، لا يمكنها أن تبرّر فساد الوسيلة. فليس مقبولا قتل الناس من أجل الحفاظ على السلطة. وليس أخلاقيا قمع الحريات من أجل تمرير مشاريع. إن الوسيلة السياسية، وهي تدعي خدمة الناس، لا يمكنها إلا أن تكون قيمة أخلاقية بحد ذاتها. ورغم أن حمَلة القيم الأخلاقية لا ينجحون اليوم بسبب قوة الطرف المقابل الذي استطاع كسب الناس إلى جانبه وبأموالهم التي سلبها منهم، إلا أن التاريخ كفيل بالانتصار للخيار الأسلم والأفضل للإنسانية كلها. 

الأربعاء، 4 يناير 2017

الحرب والسلام.. والحاجة إلى نظام جديد للعالم












قاسم شعيب


تتوسع الحروب في هذا العالم كل يوم. وكلما خمدت حرب اشتعلت أخرى. هذا الواقع دعا كثيرين إلى التساؤل عن سبب معقول لذلك. لكن الأسباب لم تعد مجهولة ولا خفية. لم تعد المسألة مرتبطة فقط بتجارة السلاح والدواء والغذاء وإعادة الاعمار والإقراض، بل إنها باتت ترتبط بمشروع كبير يسميه أصحابه النظام العالمي الجديد الذي يحتاج إلى افتعال الحروب والفوضى من أجل بنائه على أنقاض هذا النظام القائم..
يحاول أصحاب هذا المشروع إقناع شركائهم أن السلام العالمي لم يعد ممكنا دون بناء دولة عالمية واحدة ذات حكومة واحدة. لكنهم لا يتحدثون عن العلاقة بين السياسة والأخلاق داخل هذا النظام المزعوم، بل إن كل شيء يشير إلى التحرك نحو تهيش كامل للأخلاق. فهم يريدون التشجيع على الإباحية والإدمان ويراهنون على تدمير الأسرة والأخلاق والأديان.
ليس ممكنا تحقيق السّلام، الذي يتحدث عنه دعاة النظام العالمي الجديد، قبل أن تصبح الأخلاق هي الحاكمة على الممارسة السياسية. فالسلام الأبدي الشامل بين الناس مشروط بانتشار نور المعرفة والتزام الحق واحترام القيم كلها. وعندما نعرف أن الأخلاق كلية وعامة لا تستثني شيئا، فإن ذلك يعني أن إطارها الأفضل هو الدولة العالمية الصالحة والواحدة. وليس دولة بلا قيم ولا أخلاق كما يطرح جماعة النظام العالمي الجديد.
إنهم يتحدثون اليوم عن الدولة العالمية ويخططون لها لأنها تمكنهم من تعميم الأفكار التي يؤمنون بها بين الناس وتجعلهم سادة على العالم. أما قضية السلام أو أية قيم أخرى فلا تدخل ضمن اهتماماتهم، بل إن هدفهم استعباد البشر كما تقول بروتكولاتهم.
نعيش اليوم زمن الحروب والفتن التي لم تعد وحشيتها وهمجيتها خافية. وهذا ليس شيئا جديدا بل إن التاريخ يحدثنا عن أمثلة كثيرة عنه. وما يقال عن الحرية والحقوق في الغرب لا يبدو حقيقيا أمام ممارساته التي تفتعل الحروب والصراعات من أجل الهيمنة والإخضاع والنهب. فهناك حيث يحكم رأس المال لا توجد سوى ديمقراطية شكلية وحريات سلبية وقيم محدودة وصلت اليوم إلى مرحلة الاهتراء.
بنيت الدولة في الغرب على أساس قيم محدودة اخترعتها تصورات الإنسان الضيقة. وتلك القيم المحدودة تآكلت اليوم. ولأجل ذلك تحتاج الدولة الإنسانية ذات الامتداد العالمي أن تكون دولة الانسان في كليته وهذا لا يمكن ان يحصل إلا بالانطلاق على أساس قيم مطلقة.
وحتى تستمر في الوجود وتحقق أهدافها، تحتاج تلك الدولة إلى مجموعة من العناصر. وتلك العناصر هي وحدة الفكر ووحدة القيادة ووحده القيم ووحدة الهدف. وهي عناصر تستهدف الانسانية كلها باعتبارها نوعا. فالدولة العالمية لابد ان تكون لكل الناس، وليس دولة فئة كما يطرح دعاة النظام العالي الجديد. ولابد أن تكون قيمها نوعية موجهة إلى النوع البشري وليس إلى فرد دون آخر أو فئة دون أخرى. إن الأمن والسلام والعدالة والحرية والعلم.. هي القيم الأساسية التي لا مجال لتحقيقها دون قيادة تتمثّلها وفكر يتبناها وقوانين تحميها.
لن تنتهي الحروب إذا بقي العالم محكوما بدول منفصلة لا تتبنى سوى مصالح المجموعة التي تحكمها. فهذه الدول المتعددة لا يمكنها تجنب الحرب والصدام لأن تناقض المصالح الفئوية والجزئية يقود إلى ذلك، كما أن القيم المحدودة التي تتبناها تلك الدول لا يسمح لها بالاستمرار وحماية القيم الإنسانية العليا. والحرب التي نراها اليوم تتحرك على مستوى العالم، تفتعلها دول تدعي الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، وهو ما يعني فشل كل المنظومات الفكرية والفلسفية التي تنبني عليها تلك الديمقراطية.
وحتى فكرة المنظمة الأممية الراعية للسلام التي دعا إليها كانط وتحولت لاحقا إلى واقع، مثل عصبة الأمم ثم منظمة الامم المتحدة، لم تستطع إيقاف الحروب. بل إن تلك المنظمة كانت مجرد إطفائي حرائق في أحسن الأحوال مهمتها تسكين الآلام التي تسببها الحروب أو الظلم الذي تمارسه الأنظمة الفاسدة من خلال بعض التصريحات أو المساعدات..
لقد التقط دودرو ويلسون (1856 ـ 1924)، وهو الرئيس الثامن والعشرين للولايات المتحدة الاميركية (1913 ـ 1921)، فكرة الفيلسوف الألماني كانط. فقد كان تلميذا له وأصبح أستاذا جامعيا، ورئيسا لجامعة برنستون قبل أن ينتقل إلى السياسة ويصل إلى موقع الحكم. أسّس ويلسون عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى مباشرة من أجل حل النزاعات التي قد تنشب بين الأمم عن طريق الاحتكام إلى القانون الدولي وليس إلى قعقعة السلاح. وكان الجميع يظن أنها فكرة ثورية تستطيع التأسيس لنظام عالمي لا يحكم على أساس القوة. لكن ذلك لم يوقف اندلاع الحرب العالمية الثانية. وبعد قرن من الحروب المتتالية التي تفتعلها عادة أنظمة أوروبية وأمريكية محكومة بواسطة قوى شريرة لا تحب الخير للبشرية، تأكَّد أن المصالحة بين الأخلاق والسياسة، ليست ممكنة في ظل الفكر الليبرالي الخاضع بكليته لسطوة الرأسمالية المنفلتة.
إن المشكلة ليست في هذا الشخص أو ذاك داخل الإدارة الأمريكية مثلا، بل إنها أعمق من ذلك بكثير. إنها مشكلة فلسفة ورؤية. مشكلة دين وفكر ومنهج في الحياة. فما يروّج له الغرب وأمريكا من خلال فكرة النظام العالمي الجديد ليس نظاما بلا دين بل إنه نظام له دينه. لكنه دين مدمّر لأنه يدعو إلى ضرب كل القيم الإنسانية السامية من خلال نشر الإدمان والسدومية والخراب.. إن ما كان يدعو إليه وينستون من سلام وعدالة لا يختلف عن خطاب أي رئيس أمريكي آخر. وهذا يعني أن ذلك الخطاب كان مجرد مصيدة وفخ للإيقاع بالبسطاء في حبائل الرأسمالية الليبرالية القائمة على الغرائزية المفرطة وسرقة جهود الناس البسطاء.
إن الإرهاب والحروب والظلم الذي يمارس اليوم باسم الدين، تديره المخابرات الغربية كما يتكشف ذلك من خلال تسريبات كثيرة يتم فيها إخفاء الأدلة. وعندما يتعلق الأمر بمنظمات إرهابية مثل القاعدة وداعش التي تقتل وتفجر باسم الإسلام، فإنه من المهم معرفة الجهات التي صنّعت وموّلت ودرّبت وسلّحت. وقد اعترف الأمريكيون في مناسبات متعددة أنهم هم من صنعها تماما كما صنع قبلهم البريطانيون المذهب الوهابي ليكون الأساس الايديولوجي للإرهاب باسم الإسلام. فذلك يعني تشويهه وتقديمه على مستوى العالم دينا دمويا وإرهابيا لأن هذا الدين يمثل العقبة الأخيرة ضد المشروع الرأسمالي الذي يريد حكم العالم في إطار دولة واحدة.
إن الذين فجروا في نيويورك وواشنطن وبالي وبغداد ودمشق واسطنبول وتونس وبيروت.. والذين يقتلون في الموصل وحلب.. الآلاف من المدنيين الأبرياء، صنّعتهم المخابرات الأمريكية كما قال الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب. فالارهابيون هم عادة مدمنون ومنحرفون يتم غسل عقولهم في وقت قياسي ليسهل بعد ذلك التحكم فيهم. وتلك الجهات المخابراتية هي التي تحكم عقولهم وحركتهم من خلال غسل أدمغتهم أو استخدام أنظمة تكنولوجية حيوية مثل رقاقات البيو شيب Bio chip.
ما يفعله الغرب هو الاستثمار في تخلّف العرب. فلاشك أن هؤلاء العرب يعانون اليوم أسوأ حالاتهم حيث ينتشر بينه الجهل والفساد والاستبداد والصراعات والتشتت. بلغت نسبة الأمية في مجمل العالم العربي في سنة 2014 حوالي 19% من إجماليّ السكان، وبلغ عدد الأميين نحو 96 مليون نسمة. وعلى مستوى العالم، تقول منظمة اليونسكو إن عدد الذين يعانون من الأمية يبلغ 757 مليون شخص فوق 15 عاما حول العالم، بينهم 115 مليونا في مرحلة الشباب، و59 في المئة من هؤلاء إناث.
وأوردت منظمة الأغذية والزراعة بالأمم المتحدة "الفاو" في تقرير أصدرته، في شهر جوان يونيو 2015، أرقاماً صادمة حول مستويات الفقر المدقع في غالبية البلدان العربية، وحسب ما أكدته المنظمة في تقريرها زادت معدلات الفقر في 15 من أصل 19 دولة عربية عضوا في المنظمة. وبلغ عدد من يرزحون فيها تحت خط الفقر المدقع، وفقاً للتقرير، أكثر من 33 مليون نسمة. وتصل البطالة إلى أكثر من 47 % في بعض الدول العربية. وعلى مستوى العالم، أشارت مدوّنة نشرت على موقع "البنك الدولي" إلى أنّ ثلث شباب العالم عاطلون عن العمل ولا يحصلون على التعليم أو التدريب. ومن بين المليار شاب الذين يُتوقع دخولهم سوق العمل في العقد القادم، فقط 40% يُتوقع أن يحصلوا على وظائف متوفرة حالياً. وسيحتاج الاقتصاد العالمي إلى خلق 600 مليون فرصة عمل في السنوات العشر المقبلة لمواكبة المعدلات المتوقعة لتوظيف الشباب.
وفي موضوع تعاطي المخدرات أظهر "تقرير المخدرات العالمي لعام 2016"، الذي أصدره "البرنامج العالمي لمكافحة المخدرات والجريمة" (UNODC)، التابع للأمم المتحدة، أن نحو 250 مليون شخصاً في العالم، أي نحو 5% تعاطوا المخدرات غير المشروعة، بمختلف أنواعها. ولفت إلى أن 144 مليوناً يتعاطون البانغو، و29 مليوناً يتعاطون منشطات وحبوب "أكتستاسي"، و14 مليوناً يتعاطون الكوكايين، و13.5 مليوناً يتعاطون الأفيون، و9 ملايين يتعاطون الهيرويين. ورغم أن الدول العربية تتكتم على الرقم الحقيقي لمدمني المخدرات إلا أن الأرقام تشير إلى أن نسبة المدمنين تزيد عن الـ 10%.
أمام هذا الواقع من السهل تمرير أجندة إرهابية تعتمد غسل العقول تمهيدا لتحقيق أهداف كبيرة لكنها ليست سوية. إن هذا كله يؤكد فشل الإيديولوجيا الليبرالية الغربية ونظامها الاقتصادي الرأسمالي في حل مشاكل الإنسانية، وليس فقط فشل العرب في النهوض بأنفسهم لتجنب استهدافهم وإخضاعهم. وهو ما يعني ضرورة تبني نظام اقتصادي وسياسي جديد يكون قائما على الأخلاق وقادرا على حل تلك المشاكل. فلم يعد هناك معنى لمحاولات الترقيع التي يدعو إليها البعض داخل هذا النظام الذي يراد تعميمه وقولبة العالم كله في إطاره لأنه لا يملك، من الأساس، توازنا داخليا ولا يقوم على أساس فلسفي وأخلاقي متين.