قاسم شعيب
تحيل صور العنف
والقتل والجوع الصادمة إلى معضلة العلاقة بين السياسة والأخلاق داخل الأنظمة
السياسية الحاكمة في هذا العالم، وتعيد إلى دائرة الجدل اتجاهات العلاقة المفترضة
بين من يريد الاستمرار في إبعاد الأخلاق عن الممارسة السياسية، ومن يأمل في إخضاع
السياسة للأخلاق من أجل تنظيفها من مظاهر الخداع والكذب والخيانة والفساد والقتل
المجاني..
لا تستغني
السياسة عن الأخلاق. وإذا فعلت ذلك، فإن الدولة تصبح حاضنة للفساد. والدولة، التي
لا أخلاق تضبط حركة حكّامها والمسؤولين فيها، لا يمكنها أن تكون دولة الإنسان. ما
نراه في الواقع أو ينقله لنا التاريخ يؤكد ذلك، ويدعو إلى قلب العلاقة من أجل
أنسنة الممارسة السياسية التي كانت ولا تزال بعيدة عن المعنى الإنساني. والقوانين التي يمكن أن تمنع الفساد في ممارسة السياسة والحكم ثبت عدم نجاعتها وأنه يمكن دائما الالتفاف عليها.
لا تتوفر الأنظمة
التي لا أخلاق فيها عادة على الحد الأدنى من الحرية الحقيقية، والكرامة الإنسانية،
والقوانين المحترمة، والعدالة الاجتماعية. وإذا وجد شيء اسمه حرية، كما في كثير من
البلاد، فإنه لا يمكن أن يكون إلا حرية سلبية غرائزية وليس حرية إيجابية تحترم
العقل وقيمه.
توجد علاقة
جدلية بين الفساد السياسي وغياب الأخلاق. فكلما كان السياسي بلا أخلاق كان فاسدا. بل
إن الفكر المؤسس على رؤية مادية للوجود والحياة لا يمكنه إلا أن ينتج نظاما سياسيا
واقتصاديا واجتماعيا بلا أخلاق. وفي ظل نظام فاسد، يعاني الأحرار من الناس سواء
كانوا مفكرين أو علماء أو ناشطين أو معارضين من الرقابة المسلطة على حركتهم وفكرهم
ويعيشون باستمرار خطر استهداف حياتهم أو حريتهم بسبب موقف أطلقوه أو مقال كتبوه أو كتاب أصدروه..
إن الاستيلاء على
السلطة، على أي نحو كان، والاحتفاظ بها من أجل خدمة فرد أو فئة على حساب الناس، يقتضي
استعمال أساليب متنوعة من قهر والخداع والاستبداد لفرض رؤية تؤكد على مصالح ضيقة
ولا تحتفي بأية قيم ممكنة. يصبح المعارض عدوا، وصاحب الرأي شرا، والمفكر خطرا..
وبسبب ذلك يتم تعميم أخلاقيات الخنوع وممارسات الدجل وسلوكيات الوشاية..
يحتاج أي نظام سياسي يحترم الانسان ويروم صناعة الواقع بشكل سليم إلى
ربط الأخلاق بالسياسة بشكل وثيق، وليس إلى فصلهما عن بعضهما
كما نظّر لذلك ماكيافيلي الذي كان يقول إن الغاية تبرر الوسيلة وإن الأخلاق شيء والسياسة
شيء آخر، وكما تؤكد ممارسات كل الطغاة عبر التاريخ. هتلر، مثلا، كان يخفي تحت وسادته
كتاب "الأمير" لميكافيلي لينام قرير العين بعد أن وجد من يقدم له ما
توهم أنه طوق نجاته: "الغاية تبرر الوسيلة". والقصة ذاتها تروى عن ستالين
وموسوليني وفرانكو وغيرهم من الذين أباحوا لأنفسهم استخدام أشنع أساليب القمع والقهر
من أجل غايات رسموها وأهداف ضيقة أقنعوا بها أنفسهم. والدعوة إلى ممارسة نظيفة
وأخلاقية لن تسقطنا في أية مثالية لأن الإنسانية مرت بفترات تاريخية امتلكت فيها
أنظمة سياسية قائمة على الأخلاق.
وعندما لا يكون
هناك مفر من الحرب، فإن الحرب أيضا لها أخلاقياتها حيث تنص القوانين والتشريعات
المتفق بشأنها على تجنب المدنيين ومنع التمثيل بالجثث وحسن معاملة الأسرى ومنع
الإبادة الجماعية..
وبناء الدولة
الأخلاقية لا يعني الاستغناء عن القوة. فالحق لا يستقيم ولا يحكم دون الاستناد إلى
القوة بأبعادها المختلفة السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية.. ولأجل ذلك
لابد من اكتسابها. إن القوة هنا هي من أجل الحق والأخلاق، وليست من أجل الظلم والقهر.
وفي الحالات التي تكون فيها الحرب ضرورة، يجب أن تكون من أجل تحرير الناس ونشر
الحقيقة والعدالة والقيم الإنسانية بينهم. فهي حرب ضد الظلم والاستعباد، وليست
حربا ضد الناس أو من أجل النهب والهيمنة.
إننا عندما نستقرئ التاريخ نلاحظ بسهولة تتطور الوعي البشري نحو الأفضل.
لكن ذلك الوعي كان دائما محاصرا بقوى لا تحب الخير للآخرين وتعمل دائما من أجل
تزييف الحقيقة واستغباء الناس بطرق خفية أحيانا وسافرة أحيانا أخرى. لكن الأنبياء
والحكماء والفلاسفة، الذين يمتلكون رؤية تفاؤلية نحو المستقبل، كانوا دائما يعِدون
الإنسانية بالنصر أخيرا على قوى الشر لنكون أمام تحقق فعلي لكل الآمال الإنسانية.
فالحق والخير والجمال والحرية والسلام هي القيم التي طالما حلمت الانسانية الواعية
بتحقيقها وهذا الأمر ليس مستحيلا من الناحية المنطقية بل إن مسار التاريخ يشير
إليه.
ومن المهم القول إنه من غير الممكن أن تحقق الإنسانية قيمها الكبرى كاملة
دون وجود الدولة العالمية التي ترعى تلك القيم. فالدولة التي تملك القوة وتؤمن
بالقيم هي التي تستطيع حمايتها ونشرها. ومن دون ذلك يستمر العالم في الحروب
والصراعات والتطاحن وظلم الناس بعضهم بعضا.
إن الغايات
المعلنة مهما بدت سامية أو مقدسة، لا يمكنها أن تبرّر فساد الوسيلة. فليس مقبولا
قتل الناس من أجل الحفاظ على السلطة. وليس أخلاقيا قمع الحريات من أجل تمرير
مشاريع. إن الوسيلة السياسية، وهي تدعي خدمة الناس، لا يمكنها إلا أن تكون قيمة أخلاقية
بحد ذاتها. ورغم أن حمَلة القيم الأخلاقية لا ينجحون اليوم بسبب قوة الطرف المقابل
الذي استطاع كسب الناس إلى جانبه وبأموالهم التي سلبها منهم، إلا أن التاريخ كفيل
بالانتصار للخيار الأسلم والأفضل للإنسانية كلها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق