قاسم شعيب
رغم أن عدد الحاضرين، في متحف قرطاج ليلة 19
من الشهر الجاري لمتابعة عرض الكوميدي الفرنسي التونسي من أصل يهودي ميشال بوجناح،
في الدورة 53 لمهرجان قرطاج، لم يتجاوز 700 شخص، إلا أن مجرد إقامته، رغم المعارضة
الشديدة لكثير من القوى المناهضة للتطبيع مثل اتحاد الشغل والجبهة الشعبية وعدة أحزاب وجمعيات مدنية، يشير إلى أن إدارة مهرجان قرطاج ووزارة الثقافة كانتا واقعتين تحت
تأثير لوبي صهيوني قوي في تونس.
يعتبر ميشال بوجناح نفسه نصيرا لإسرائيل
ومدافعا شرسا عنها. وهو لا يوفر مناسبة دون الإعلان عن ذلك. بل إنه لا يخفي ولاءه
للكيان الغاصب الذي سرق أرضا من أهلها ثم قتل من قتل وشرد من شرد في أطراف الأرض..
لا يُخفي ميشال بوجناح ذلك، وهو ما يعني أن الرجل ليس يهوديا وطنيا مسالما لا
مشكلة في إقامته عروضا فنية في بلده الأول الذي ولد فيه وعاش طفولته قبل أن يستقر
مع والديه في فرنسا، بل إنه صهيوني الفكر والهوى. فهو من أولئك اليهود الذين تُدغم
عندهم العقيدة اليهودية بالميولات السياسية الصهيونية. والتعامل معه في مؤسسات
الدولة الرسمية يعني أننا أمام حكومة تستمرئ التطبيع حتى وإن حاولت تبرير ذلك بطرق
وأشكال لا علاقة لها بالمنطق والمعقول.
عَرْض بوجناح عرّى الكثير من الحاضرين، كما
أكد الهوى الصهيوني لآخرين، مثل المخرج ابراهيم لطيف والكوميدي لطفي العبدلي وعميد
كلية منوبة حبيب الكردغلي.. فهؤلاء وغيرهم يحتلون مواقع أكاديمية وثقافية مؤثرة في
المجتمع وداخل مؤسسات الدولة. ولا شك أن التطبيع الثقافي والأكاديمي هو المدخل الأخطر
للتطبيع السياسي والاقتصادي الذي لا يمكن للحكومة التونسية أن تبرئ نفسها منه منذ
أيام حكم الرئيس السابق زين العابدين بن علي الذي فتح مكتبا للعلاقات مع الكيان
الصهيوني سنة 1996 قبل أن يضطر لغلقه سنة 2000 بعد اندلاع الانتفاضة الثانية.
لكن العلاقات مع
إسرائيل لم تبدأ مع الرئيس المخلوع ابن علي، بل إنها بدأت مبكرا منذ جوان 1952 عندما
التقى الباهي الأدغم الذي كان مقرّبا من الرئيس السابق حبيب بورقيبة، بجدعون رافائيل
بزعم الحصول على دعم من أجل الاستقلال التونسي. وفي عام 1956، بعد أن أعلنت تونس الاستقلال،
التقى الأدغم سرّا مع يعقوب تسور، سفير إسرائيل لدى فرنسا. وفي وقت لاحق من ذلك العام،
التقى تسور مع وزير المالية التونسي، الذي سعى إلى مساعدة إسرائيل في بناء المستوطنات
الزراعية التعاونية.
غير أن إغلاق مكتب العلاقات لم يمنع زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي سيلفان شالوم
من زيارة تونس في نوفمبر 2005. وصل شالوم، على متن الخطوط الجوية
الإسرائيلية، بشكل رسمي إلى تونس، التي ولد في إحدى مدنها؛ قابس، قبل أن يغادر مع
والديه إلى فلسطين وهو في سنته الأولى من عمره، بدعوى حضور القمة العالمية لمجتمع المعلومات
WSIS حينها، وهو مؤتمر يعقد تحت رعاية الأمم المتحدة. حينها قال شالوم بوضوح "ستكون هذه فرصة أخرى لدفع أجندتنا حول مسألة
التطبيع مع العالم العربي، والدول الاسلامية".
كان أمل التونسيون كبيرا في قطع العلاقات
مع جميع الوجوه الصهيونية بعد "ثورتهم". غير أن أملهم تبخر. وأصبحت
الكثير من الوجوه الأكاديمية والفنية والثقافية لا تخجل من زيارة تل أبيب ومناطق أخرى
من فلسطين المحتلة 48 في شكل مشاركات مختلفة في ندوات وحفلات فنية كما فعل مثلا
المطرب المعروف صابر الرباعي قبل سنتين. بل إن زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي لم
يتردد في زيارة منظمات صهيونية كثيرة مرات عديدة بعد "الثّورة"، أهمّها: Aipac وLe
WINEP – Washington Institute for Near East Policy و Saban Center for Middle East Policy وCouncil on Foreign Relations – CFR و Chatham House و Foreign Policy. وهو
ما أهَّلَه لتصنيفه واحدا من بين أكثر 100 شخصية مؤثّرة في العالم سنة 2012 في صحيفة TIME.
وكان من الطبيعي،
تبعا لذلك، أن تُسقط حركة النهضة وحلفاءها مطلب إدراج فصل في الدستور لتجريم
التطبيع. وعندما سئل رئيس كتلة حركة النهضة في البرلمان حينها؛ الصحبي عتيق، عن
سبب ذلك فاجأنا بتصريح يقول فيه: إن حركة حماس طلبت منّا عدم سن هذا الفصل! لكن حركة
حماس كذّبت، على لسان الناطق الرسمي باسمها، ادّعاء الصحبي عتيق في اليوم نفسه. وغاب
بعدها عتيق عن الإعلام ولم يطلب الاعتذار من التونسيين ولا من الفلسطينيين على اختلاقه
خبرا لا أساس له.
لم تكتف الحكومات التونسية المتعاقبة
بمحاولات التطبيع السياسي المستمرة، بل إنها بحثت عن إنزال التطبيع الى المستوى
الشعبي. ووجدت في المعبد اليهودي بالغريبة مبررا لاستقبال إسرائيليين. حدث في الماضي تحت غطاء غربي عندما كان هؤلاء الإسرائيليون يدخلون بجوازات أوروبية
وأمريكية.. غير أنه أصبح اليوم، مع حكومة نداء تونس وحركة النهضة، يتم، دون
مواربة، بجوازات إسرائيلية.
كان تجريم التطبيع مطلبا شعبيا ولا يزال.
غير أن ما حدث هو وقوف حركات وأحزاب، ظن كثيرون لوقت طويل أنها كانت مناهضة
للصهيونية والتطبيع، في وجه مطالب الشعب. فهذه الأحزاب، بمجرد وصولها إلى السلطة،
تبيّن أنها لم تكن سوى تجمعات للسمسرة، لم يتجاوز الهدف من رفعها شعارات معاداة
الصهيونية والانتصار لقضية فلسطين، شراء قلوب البسطاء من الناس.
إن هذا كله يحيل إلى وجود مخطط كامل يتم
تطبيقه بشكل تدريجي إلى أن يصبح التطبيع بكافة أشكاله شيئا عاديا، وإلى أن تصبح
معارضة التطبيع شيئا مستهجنا وحتى مثيرا للسخرية!
لا يعني التطبيع مع الصهاينة، فقط، تنازلا
عن حق الشعب الفلسطيني في النضال من أجل استرجاع أرضه وطرد المحتلين الأغراب منها،
بل يعني، أيضا، تهديدا مباشرا لاقتصاد البلد الذي أصبح مشلولا، يعاني إفلاس شركاته
بعد هجوم شركات الأوف شور، وتراكم ديون البنوك الدولية التي يعرف الجميع من
يملكها، وتهشّم ثقافة أهله التي أصبحت فعليا بلا لون ولا طعم!..