الثلاثاء، 23 يناير 2018

آل سعود والمؤسّسة الدينية: تبدّلات السِّياسة وانقلاب الفتوى






قاسم شعيب


عاش مجتمع الجزيرة العربية ومِن ورائه كل الجغرافيا السلفية، منذ أكثر من قرن من الزمان، داخل سياج ديني مُغلَق. قصص كثيرة تُروَى عن معاناة أشخاص بسبب فتاوى شيوخ وهّابيين متشدّدين. في مرحلة ماضية كانت الفنون والتكنولوجيا الجديدة ونقد السلطة والكثير من النظريات العلمية مُحَرَّمة. وبعض تلك المُحرّمات لا يزال مستمراً حتى الآن.
قائمة المُحرّمات في المملكة السعودية ثلاثة أصناف. الأول اجتماعي والثاني تكنولوجي والثالث سياسي. لكن تلك الفتاوى المُحرِّمة لكل جديد ازدادت حِدّة وتواتراً منذ ثمانينات القرن الماضي. وهي اليوم تنقلب من الحرمة الى إباحة. في بداية الثمانينات، انتشرت الفتاوى المُتشدّدة مع ظهور “تيار الصحوة”. وأصبحت محاضراتهم وكتبهم تُباع بالملايين وهو ما عكس مزاجاً شعبياً عاماً تم توظيفه في هذا الاتجاه.
منذ نشأة الدولة السعودية الأولى عام 1744 بدأ التحالف الذي قام بين شخصيّتين هامتين هما: محمّد بن سعود، مؤسّس العائلة الحاكِمة، ومحمّد بن عبد الوهاب، مؤسّس المذهب الوهّابي، وقد رسمت العلاقة بين الرجلين المسار التاريخي للدولة السعودية.
كانت هناك، منذ البداية، نزعة جامِحة لغلق كل المنافذ أمام المجتمع ليغدو منفصلاً عن الواقع الذي يعيش فيه. جسده في هذا الزمان وروحه معلّقة في التاريخ. لم يستثن تحريمهم شيئاً مهمّاً من الحياة المُعاصرة. حرّموا التلفزيون، والتلفون المزوَّد بالكاميرا، والسفر للسياحة، والخروج للنزهة، والاقتراب من المرأة، وقيادة المرأة للسيارة، واستقبال البثّ الفضائي.. حتى الورد الأحمر بات مُحرّماً، لأن إهداءه تَشبّه بعادات “الكفار”، والقصص والقصائد لأنها خليعة، وشبكة الإنترنت لأنها تقود إلى الفساد.
يتعلّق هذا الجانب بحياة الناس العامة. وهو يمثّل انعكاساً لتصوّرات بسيطة تملك، من ناحية، رؤية جامدة للعالم وللواقع، وتحيل، من ناحية أخرى، إلى بساطة التجربة المُنغلقة والمحدودة بحدود واقعها الخاص. وقد تم تجاوز ذلك في فترة الستينات والسبعينات. لم تعد التكنولوجيا حراماً وسُمِح بظهور الفنون. إلا أن عودة التشدّد الديني بقوّة منذ أربعة عقود أرجعت الأمور إلى المربع الأول.
كان لابد للتشدّد الديني الذي مارسه شيوخ الوهّابية من أن ينتج انفجارات متتالية بدأت سنة 1979 عندما قرّر جهيمان العتيبي قيادة تمرّد ضد سلطة آل سعود. كانت فرصة لتحريم التظاهرات، وفَرْض نسق من التشدّد الصارِم على المجتمع اعتماداً على قاعدة فقهية استخدمت في غير محلها لمحاصرة حياة الناس وتقول “درء المفاسد مقدَّم على جلب المصالح”.
كان مجتمع الجزيرة، يعيش حالة من التوازن الدّيني مقارنة بما حدث في العقود الأربعة الأخيرة. هذا الأسلوب في الحياة استمر في منطقة الجنوب والحجاز والمنطقة الشرقية، والتي تعيش بحكُم موقعها تبادلاً اجتماعياً مع دول أخرى والتي تتبنّى مذاهب مختلفة في أغلبها.
لم يكن ظهور العتيبي نتاج فكر ديني متشدّد فحسب، بل كان انعكاساً للسلوك السياسي السعودي. فقد سبقه، بأربع سنوات، اغتيال الملك فيصل على يد الأمير خالد بن مساعد في سبتمبر 1965 ثأراً لمقتل شقيقه أثناء اقتحامه لمبنى التلفزيون احتجاجاً على ما يُعرض فيه من أفلام وأغانٍ.
كان الحل بالنسبة إلى الحكومة البدء بفرض قيود كما لو كانت تنتظر مبرّراً لفعل ذلك. أصبحت هيئة الأمر بالمعروف أكثر قوّة وبدأت تُغلق المحال وقت الصلاة، وتراقب سلوك الأفراد.
قد تكون عبارة “دين بلا ثقافة” التي استخدمها الباحث الفرنسي أوليفييه روا في كتابه “الجهل المقدّس” أفضل وصف لطبيعة “تيار الصحوة” الذي هيمنت تمثّلاته الأيديولوجية في المملكة السعودية على مدى أربعة عقود ماضية. لكن ذلك لا يفسّر التحوّلات الحاليّة التي تشهدها المملكة بأنها ردود فعل طبيعية تجاه ذلك التيّار، الذي يختلف عن المؤسّسة الدينية الرسمية، بقدر ما يعكس الانتقال من مرحلة منتجة للعنف وحاضنة له إلى مرحلة جديدة مبرّرة للارتماء في الحضن الصهيوني علناً.
ما يحدث الآن في المملكة، ليس، فقط، نتيجة للانسدادات النظرية والتأويلات النسقيّة لمفهوم الصحوة، عبر خليط هائل من الكتابات المُتشابهة، والأفكار النمطية الفقيرة، لدُعاة غلبت عليهم الدعوة على العِلم، والوعظُ على البحث، فلم يتوفروا على فكر موضوعي يأخذ مسافة من تلك التأويلات النسقية للأيديولوجيا الوهّابية، بل هو، بالأساس، جزء من استحقاق خارجي.
وما يؤكّد ذلك انقلابُ المُفتين على أنفسهم بسرعة كبيرة، كما فعل، مثلاً، مفتي المملكة عبد العزيز آل الشيخ الذي انتقل من تحريم مشاركة النساء في الانتخابات البلدية إلى إباحتها في ظرف ثلاثة أسابيع فقط من على منبر الجامع نفسه وهو جامع “الإمام تركي”. أظهر ذلك للكثير من الناس تبعيّة المؤسّسات الدينية الكاملة للقصر الملكي وعملها منبراً لخدمة مصالحه وتوجّهاته السياسية. وهو ما تسبّب في فقدان ثقة الناس والمُثقّفين المستقلّين بشكل خاص في رجال الدّين. فهم لا يرون أن الفتاوى تغيّرت بسبب تغيّر رؤية المفتي ووصوله إلى اجتهاد جديد، بل لأن مزاج الحاكِم وتوجّهاته السياسية تغيّرت وليس للمفتى إلا أن يلاحق التغيّرات الجديدة.
من غير الممكن عدم ربط هذا المسار بمسار آخر أنتج تنظيم القاعدة ثم تنظيم داعش اللذين أظهرا تشدّداً لا نظير له اعتماداً على فتاوى تكفير المختلفين. فقد تزامن ظهور القاعدة مع بداية ظهور العودة إلى التشدّد بعد هدنة الستينات والسبعينات. وهذان التنظيمان تم استخدامهما بفعالية من طرف المخابرات الأميركية والإسرائيلية لتنفيذ أجندة دموية وتخريبية مؤلمة بدأت في أفغانستان وانتهت في العراق وسوريا..
ومع وصول سلمان بن عبد العزيز وابنه محمّد، الأكثر نفوذاً، إلى السلطة، اتُّخذ قرار بتصفية إرث “تيار الصحوة” من الفتاوى المتشدّدة ليس فقط من أجل الانتقال إلى علمَنة الدولة، ولكن، بالأساس، من أجل الاستجابة لمطالب أميركية مستحدثة تخصّ هذه المرة الموقف من القدس والحق الفلسطيني باعتباره جزءاً مما سُمِّي بـ”صفقة القرن”. وكان من الطبيعي أن تنقلب الفتاوى على نفسها لتصبح القدس، فجأة، مدينة غير مهمّة للعرب والمسلمين.. وفلسطين مشكلة الفلسطينيين وحدهم. كانت الفتاوى تؤكّد على حُرمة قتل اليهود الصهاينة كما هي فتوى الداعية الوهّابي علي الحلبي مثلاً، وانتهت إلى التقليل من أهمية القدس وتهميش القضية الفلسطينية من خلال حال الصمت الرسمي الديني والسياسي المُطبَق والتي لم تخرقها سوى أصوات بعض الكُتّاب السعوديين المُستهدِفة للفلسطينيين..

الاثنين، 1 يناير 2018

تونس وسوريا.. هل حان وقت الحساب؟




قاسم شعيب


يتحول الإرهاب اليوم إلى فائض وظيفي استراتيجي يفسر السلوك السياسي الوصولي الذي أسفر عن وجهه منذ تفجّر الأزمة السورية. كان هناك رهان ومصلحة انخرطت فيها حكومات عربية وإقليمية ودولية كثيرة ومنها حكومة الترويكا التي حكمت تونس بعد سقوط نظام ابن علي. لكن الرهان خسر والمصلحة لم تتحقق وأصبح الوقت مناسبا لإشهار الأدلة والبراهين التي تؤكد التورط.
مع بداية نهاية الحرب في سوريا، ترتفع أصوات حقوقية وأمنية في تونس مطالبة بالتحقيق مع الجهات التي تتهمها بتسفير تونسيين إلى سوريا والتسبب في قتل الكثير من المدنيين السوريين وتشريدهم. بات معلوما اليوم أن تونس كانت من أكثر الدول تصديرا للإرهابيين إلى سوريا. ومن المهم طرح الأسئلة المناسبة عن الأسباب الحقيقية لذلك الحضور الكثيف لمقاتلين تونسيين في مناطق النزاع وساحات الحروب في سوريا وغيرها.
لا يتعلق الأمر بثقافة التونسيين، بقدر ما يتحدّد في وجود جهات عملت على غسل عقول الشباب في السجون والمساجد والجمعيات الدينية ثم تسفيرهم. كثير من أولئك الشباب، الذين تحوّلوا إلى إرهابيين يقاتلون في المكان الخطأ، هم خريجو سجون، بسبب جرائم حق عام أدينوا بها. ومجرد وجود تيار يحمل أفكارا سلفية، لا يبرر حضور ذلك العدد الكبير من الشباب في الصراعات المسلحة والحروب المتنقلة من أفغانستان إلى العراق ثم سوريا أخيرا، بل يؤكد دون شك وجود جهات سهلت لهم السفر والتنقل المكلف ماديا والصعب إلى درجة الاستحالة أمنيا.
وهذا الأمر تؤكد عليه الكثير من الوثائق الأمنية التي توجّه التهمة إلى جهات نافذة داخل الحكومة زمن حكم الترويكا. لا تتهم تلك الوثائق جهات معينة داخل الحكومات السابقة بالتورط في إرسال تونسيين إلى بؤر التوتر خارج الحدود فحسب، بل تصر أيضا على تواطئها مع إرهابيين داخل البلاد ممن اختاروا الاختباء في جبل الشعانبي وشن هجماتهم من هناك بين فترة وأخرى.
المعني الأساسي بتلك التهم هم قياديون في حركة النهضة شغل بعضهم وزارات معينة مثل العدل والداخلية والخارجية عندما حكمت بين سنتي 2012 و2014 بالشراكة مع حزبين آخرين هما حزب المؤتمر وحزب التكتل. خلال جلسة استماع داخل لجنة التحقيق في شبكات التسفير إلى بؤر التوتر بمجلس نواب الشعب، الإثنين الماضي، قال رئيس المنظمة التونسية للأمن والمواطن، عصام الدردوري، إن بحوزته وثيقة بإمضاء وزير العدل الأسبق نور الدين البحيري صادرة بتاريخ 3 ديسمبر 2012 وتحمل ختما سريّا، تقضي بالسماح لداعية سلفي بزيارة كل السجون، الأمر الذي ساهم في تحوّل سجناء حق عام إلى متطرفين. وقال الدردوري إن هذه الزيارة ساهمت في استقطاب سجناء الحق العام لفائدة التنظيمات المتطرفة.
كما أكد أن إرهابيا اعترف بدخول 117 إرهابيا آخر إلى تونس قادمين من بؤر التوتر عبر طائرة خاصة بهدف إسناد مجموعات إرهابية  بالشعانبي في ولاية القصرين. ولم يتردد عصام الدردوري في تقديم تقرير للجنة المعنية، قال إنه تضمن وثائقا «تؤكد تورط جهات رسمية تركية في تزوير جوازات سفر لإرهابيين كانوا في جبهات القتال بسوريا، للعودة إلى تونس». وأبرز أيضا وجود أمنيين متورطين في استخراج جوازات سفر لإرهابيين دون الوثائق اللازمة لذلك ودون تثبت، مشيرا إلى أن سنتي 2012 و2013 شهدتا قيام رحلات منظمة عبر شركة طيران تونسية خاصة وشركات طيران أخرى تونسية وتركية، حاملة إرهابيين إلى بؤر التوتر.
هذه الوثائق والأدلة التي طرحها الدردوري دفعت النواب الحاضرين إلى الدعوة لضرورة دراسة الملف الذي قدمته المنظمة التونسية للأمن والمواطن، والمطالبة بدعوة وزير الداخلية ووزير الخارجية لتوضيح الملفات التي تهم كلا وزارتيهما.
لكن نواب حركة النهضة رفضوا الاتهامات وشككوا في مصداقية الوثاق المقدَّمة.. ثم فوجئ الحاضرون بانسحابهم من جلسة الاستماع. ولم يتوقف الأمر على الانسحاب بل إنه وصل إلى حد الصراخ والتهديد بفتح تحقيقات من النيابة العمومية ضد الدردوري كما قال هو نفسه. لا شك أن ردة الفعل هذه تعكس انزعاج هؤلاء النواب من التقرير المقدّم، وخوفهم من تداعيات هذه القضية.
لا تتعلق قضية تسفير متطرفين للقتال في سوريا بالجرائم المرتكبة في حق شعب عربي آخر، بل إنها تمس بشكل جوهري الأمن الوطني التونسي. استشعرت الحكومة الخطر، وبعد بدء عودة مئات من الإرهابيين أعلنت عن برنامج لإعادة تأهيل المقاتلين العائدين من بؤر الإرهاب. لكن هذا الإجراء لا يكفي لأنه يغض الطرف عن ضرورة التحقيق القضائي النزيه مع العائدين ومقاضاة كل المتورطين في عمليات التسفير.

يرتبط الأمن الوطني بمفهوم "الزمن الاستراتيجي" القادر على استشراف المخاطر قبل وقوعها. والمعقول هو أن يصب العمل المخابراتي والتفكير السياسي الاستشرافي في مجرى واحد وتجنب انزلاقات ردات الفعل السياسية. غير أن ذلك لا يبدو شيئا قائما في الحالة التونسية منذ سقوط حكم ابن علي. من الواضح أن الاستراتيجيات الدولية هي التي تحكم التوازنات المحلية والإقليمية، وهي التي تحرك القرار السياسي في هذا الاتجاه أو ذاك. ويبدو أن المتهمين بتجنيد شباب وتسفيرهم إلى سوريا يراهنون على تلك التوازنات الدولية لتجنب أية إدانة قضائية داخل البلاد أو خارجها.