الجمعة، 20 يوليو 2018

انقلابات ترامب.. ماذا تطبخ أمريكا للعالم؟



قاسم شعيب


يشير الاتجاه العام، الذي يحرك قرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منذ وصوله إلى البيت الأبيض، إلى وجود رؤية استراتيجية قد لا تكون بعض تفاصيلها واضحة بالنسبة إلينا. يرفع ترامب شعار "أمريكا أولا"، لكن عمق الأمور يشير إلى شيء آخر مختلف تماما وهو سعي الولايات المتحدة إلى القطع مع النظام العالمي القائم وافتعال المعارك السياسية مع القوى الكبرى والمنظمات الدولية من أجل إسقاطه. وتلك الرؤية الاستراتيجية ليس مصدرها الرئيس الأمريكي نفسه دون شك، بل المؤسسة الحاكمة.
لكن هذا التوجه الجديد لم يمنع من ظهور تناقضات في المواقف والتصريحات لدى ترامب الذي لا يجد صعوبة في الانقلاب على نفسه بين الحين والآخر. وآخر تلك المواقف والتصريحات تتعلق بالتدخل الروسي المفترض في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الماضية في قمّة هلسنكي. لم يمر سوى وقت قصير حتى التفّ ترامب على تصريحاته التي برّأ فيها الروس، ليعود ويتّهم موسكو بالتدخل في تلك الانتخابات. بل إنه قال إنه يتهم بوتين شخصيا بذلك. شكّل هذا التصريح انقلابا حقيقيا على موقفه السابق من بوتين الذي استبعد تدخُّله، في ندوته الصحفية معه في هلسنكي. وبرّر ترامب ذلك في حوار تلفزيوني بأنه أخطأ التعبير، وأن الجملة التي كان يريد أن يقولها هي: "إنه لا يرى سببا يجعل روسيا لا تتدخل في الانتخابات"..
يريد الرئيس الأمريكي تأجيل أي صدام مُفترَض مع الروس من أجل الاهتمام بمعاركه الأخرى في أكثر من اتجاه رغم ضغوط الإعلام. فقد خرج ترامب من عدة اتفاقيات أبرزها اتفاقية المناخ واتفاقية الهجرة واتفاقية النووي مع إيران.. وهذه هي المعارك التي يريد إعطاءها الأولوية.
خرجت أمريكا من اتفاقية المناخ، وقال رئيسها إن اتفاق باريس ظالم ومضر ولا يصب في صالح الولايات المتحدة وأن الاتفاق الراهن ليس حازما بما يكفي مع الصين والهند، ويعطي مزايا اقتصادية لدول أخري تعد الأكثر إصدارا للتلوث، بل اعتبره عائقا أمام قدرات الولايات المتحدة الاقتصادية، بما أنه يكلفها مليارات الدولارات ويثقل ميزانية الشعب الأمريكي. ولم يكن لاحتجاجات رئيس المفوضية الأوروبية ولا المستشارة الألمانية ولا الرئيس الفرنسي تأثير على قرار ترامب.
وفي أكتوبر من العام الماضي، أعلنت وزارة الخارجية انسحاب الولايات المتحدة من اليونسكو وقالت المدير العام للمنظمة ايرين بوكوفا إن انسحاب الولايات المتحدة خسارة للمنظمة وخسارة للتعددية وخسارة للأمم المتحدة. لكن ترامب حاول تبرير هذا الانسحاب بأن المنظمة تحتاج إلى إصلاحات جذرية بسبب انحيازها ضد "إسرائيل" كما ادّعى. وهو ما رأى فيه العالم محاولة لمعاقبة المنظمة على وقوفها إلى جانب الشعب الفلسطيني.
كما أعلنت إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى العام الماضي عن الانسحاب من ميثاق "إعلان نيويورك" الدولى لتحسين التعامل مع أزمات المهاجرين واللاجئين باعتباره "يتناقض" مع سياساتها، وجاء الانسحاب من ميثاق الهجرة منسجما مع نهج ترامب فى التضييق على المهاجرين والحد من دخولهم لأراضي الولايات المتحدة.
لم يتوقف ترامب عند ذلك بل انسحب أيضا من اتفاقية "الشراكة عبر المحيط الهادي" التي تضم 12 دولة، مؤكدا أن قراره أمر عظيم للعامل الأمريكي، وهو انسحاب حدث بعد وعود أمريكية بإقامة أكبر منطقة للتجارة الحرة من حيث إجمالى الناتج المحلي.
وفي قمة السبعة التي احتضنتها مدينة كيباك كندا، رفض الرئيس الأمريكي المصادقة على البيان الختامي، وأجهز بذلك على يومين من المباحثات بين أعضاء مجموعة قمة السبع بسبب نزاع حول التجارة، ومحاولته فرض رسوم على الصلب والألومينيوم متهما رئيس الوزراء الكندي غاستن ترودو الذي ترأس القمة بأنه غير نزيه وضعيف. وقال إن التعريفات التي فرضناها جاءت ردا على فرضه 270% على الألبان.
لا تتوقف شكوى ترامب من القواعد التي تحكم عمل منظمة التجارة العالمية، رغم استناد هذه القواعد إلى مبدأ حرية التجارة الذي يشكل عماد النظام الرأسمالي الذي تتبناه بلاده، وهو يتحرك باستمرار نحو إقامة الحواجز والجدران التي تحول دون التدفق الحر للبضائع والخدمات والأشخاص ورؤوس الأموال، إلى درجة إقدامه على إشعال فتيل حرب تجارية وصلت إلى أسوار الصين وقد تنتهي بكارثة للاقتصاد العالمي.
لكن الخطوة الأكثر خطورة على أمن منطقة "الشرق الأوسط" وربما العالم كله، هي القرار الذي اتخذه ترامب قبل ذلك بأشهر قليلة عندما ألغى الاتفاق النووي الأمريكي مع إيران مبررا ذلك بأنه اتفاق ألحق ضررا كبيرا بالولايات المتحدة التي دفعت أموالا كثيرة لإيران هي في الحقيقة أموال إيرانية كانت مجمّدة في بنوك أمريكا. وعاد ليشترط شروطا كثيرة أخرى يعلم مسبقا أنها شروط تعجيزية لا يمكن لطهران أن تقبل بها. وقال إنه سيفرض حصارا نفطيا على إيران إن لم تلتزم بتلك الشروط بداية من  4 نوفمبر القادم. بل إن ساكن البيت الأبيض لم يكتف بنقض اتفاقه مع طهران ولكنه رفع سقف تصريحاته المناهضة لها عند إعلان انسحابه، وقال إن العقوبات مرشحة لتشمل الدول المتعاونة مع طهران.
فهمت طهران اللعبة وهي تحاول منذ ذلك الحين المزج بين الديبلوماسية والتهديد لإفشال الخطوات الأمريكية من خلال استمالة الأوروبيين والروس وشركائها الاقتصاديين الآخرين مثل الصينيين والهنود تارة، والتهديد بإغلاق مضيق هرمز أمام الصادرات النفطية تارة أخرى.
لا يكاد يبقي الرئيس الأمريكي ترامب على اتفاقية دولية. وهو يرمي بأحجاره الثقيلة مخلِّفًا وراءه في كل مرة أزمة جديدة. قد يبدو ما يفعله ترامب عملا عشوائيا، لكنه في الحقيقة يخفي مُخطَّطا مسبقا. ولا يبدو الأمر متعلقا بخدمة الشعب الأمريكي كما يدّعي، بل إنه يتحرك بشكل واضح من أجل إسقاط تلك الاتفاقات والمنظمات التي انسحب منها باعتبارها مدخلا أساسيا لإعادة صياغة النظام العالمي على الأسس الجديدة التي أن تفرضها القوى الرأسمالية المهيمنة في العالم. ولا شك أن عملية مفصلية بهذا الحجم، تريد إسقاط النظام العالمي القائم واستبداله بآخر، تحتاج إلى عمليات تمهيدية ووقت ومضاعفات قد تكون الولايات المتحدة نفسها ضحية لها من خلال العزلة التي تنكس فيها مع كل قرار انسحاب من إحدى الاتفاقيات.
لا نعتقد أن الرئيس الأمريكي يتصرف بشكل مزاجي كما يقال عادة، بل إنه يطبق بشكل دقيق ما تطلبه المؤسسة أو الدولة العميقة التي تملك استراتيجية بعيدة المدى يتداول على تنفيذها الحزبان الديمقراطي والجمهوري حسب متطلبات المرحلة. وقرارات ترامب تعكس رغبة تلك المؤسسة الحاكمة في التخلص من النظام العالمي القائم الآن من أجل الانتقال إلى نظام عالمي جديد سبق أن أعلنه الرئيس الامريكي الأسبق جورج بوش الأب في سبتمبر 1990 أمام الكنغرس، ويخدم بالأساس الكيان الصهيوني المحتل لتحويله إلى مركز سياسي واقتصادي عالمي خاصة بعد نقل السفارة إلى القدس والإصرار على اعتبارها عاصمة لـ"إسرائيل" رغم معارضة أكثر دول العالم، ومباشرة وضع قانون أساسي يقر بيهودية الدولة العبرية.



الاثنين، 2 يوليو 2018

أردغان والمرحلة الجديدة: أزمات الداخل وأحلام التمدد





قاسم شعيب

مع إعلان فوز رجب طيب أردغان بالانتخاب الرئاسية، تدخل تركيا مرحلة جديدة تكرّس ابتعاد الكماليين من السلطة دون التخلي عن النزعة القومية الطورانية التي ستبقى جزءاً من تكوين السلطة. حظي أردغان بدعم أنصاره في الداخل والخارج بسبب خلفيته التي يلتقي فيها مع تيار واسع من "الإسلام السياسي" الذي يرى في أي نجاح يحققه "السلطان الجديد" وحزبه نجاحا لمنهجه ورؤيته. لم يحقق أردغان حلم أنصاره فقط بل حقق أيضا حلمه الشخصي في أن يصبح رئيسا لتركيا بصلاحيات واسعة في نظام رئاسي مطلق بعد أن صوّت له 52,59% من الناخبين حسب النتائج الأولية، مقابل 30,76% لمحرم اينجه مرشح حزب الشعب الجمهوري الذي اعترف بخسارته.
لم يكن توقّع فوز أردوغان بالرئاسة صعبا، فالرجل يحكم البلاد بموجب قانون طوارئ منذ حوالي سنتين بعد محاولة الانقلاب التي اتهم الداعية فتح الله غولن بالوقوف ورائها. أسفرت تلك المحاولة، التي يشكك كثيرون في حقيقتها، عن مقتل 250 تركياً وجرح أكثر من 2200، وأدت إلى طرد أكثر من مئة ألف مواطن من عملهم في القطاع العام، بينما أوقف عشرات الألوف عن العمل، قبل أن يعود عدد منهم لعدم ثبوت التهم ضدهم. وهناك إحصاءات تقول إن ربع القضاة والمُدّعين العامين في تركيا طُرِدوا من العمل كما طرد ألفا أستاذ جامعي و33 ألف مدرس من عملهم. والرقم الأسوأ هو أن أكثر من 50 ألف تركي سُجِنوا منذ محاولة الانقلاب.
ولم يكن نصيب الإعلاميين أقل قسوة حيث أغلقت حكومة أردوغان 189 مؤسسة إعلامية، وهو ما أدى إلى فقدان أكثر من 30% من العاملين في مجال الصحافة والإعلام وظائفهم. وتحولت تركيا إلى "أكبر سجن للصحفيين"، حسب تقارير منظمات دولية.
يحاول أردغان استثمار الطفرة الاقتصادية التي حدثت بعد وصوله إلى الحكم لتوسيع نفوذه والتمدد على حساب جيرانه. لكن تلك الطفرة كانت نتيجة لقروض قدمتها البنوك الدولية تضخّمت اليوم ليصل الدين الخارجي إلى 600 مليار دولار، ولم تكن نتيجة قوة ذاتية للاقتصاد التركي.
اعتمد أردغان على البنوك الدوليّة في أحداث نقلة اقتصادية كبيرة، لكن ذلك لم يمنعه من إعلان موقف سلبي من الحضارة الغربية ومن النهج الأتاتوركي بشكل عام. ورغم أنه يقول إنه رجل علماني إلا أنه يقول أيضا إن الإسلام رسالة عالمية، وهو مؤهل لقيادة العالم، وتوجد حاجة حقيقية لإحياء هذا الدور الإسلامي العالمي أمام الهجمة الغربية على العالم الإسلامي. وهذا ما كان يعلنه أربكان الذي أجبر على التنحي عن السلطة بعد أن فهم أن الجيش لن يتركه يستمر في الحكم. كان يريد إقامة محور سياسي – اقتصادي مشرقي يضم الرباعي: أنقرة وطهران وبغداد ودمشق، لكن هذا الأمر كان ممنوعا بالنسبة إلى الإدارة الأمريكية.
ورغم الصعوبات التي يواجهها الاقتصاد التركي بسبب تراجع الليرة وخسارتها 20% في ظرف وجيز وارتفاع نسبة التضخّم وتراكم الديون الخارجية، يعد أردغان شعبه بالصعود بتركيا إلى القوة الاقتصادي العاشرة في العالم. غير أن ذلك لا يمكن تحقيقه إذا ما أصرت واشنطن وتل أبيب والعواصم الاوروبية على دفعه بعيدا عنها. وحينها لا مفر لتركيا من مواجهة أيام صعبة بسبب الارتباط العضوي لاقتصادها بمصادر التمويل الغربية.
لم تكن براغماتية أردغان خفية منذ استلامه الحكم عقب فوز حزبه بانتخابات برلمان 2002. فقد قدم نفسه لواشنطن حينها "بديلا إسلاميا حليفا للأميركيين"، ومنذ 2005 شجّعهم على الحوار مع التنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين، وعندما اندلع "الربيع العربي" أصبح عرّابا له أملا في أن تكون للإخوان المسلمين في تونس ومصر خاصة الحظوة. غير أن ذلك لم يستمر طويلا بعد تخلي واشنطن عنهم في مصر عام 2013. لا تبدو البراغماتية عند أردغان مقيدة، بل إنها لا تخلو من الإجراءات القمعية التي تتم صناعة مبررات لها في كل مرة. وهذا ما مكّنه من مواجهة معارضة الداخل من خلال تكتيكات سياسوية مثل فصل المعارضين وسجنهم وملاحقة الصحفيين وخنق نفوذ العسكر الذي استمر الحاكم الفعلي للبلاد منذ أتاتورك وراء ستار الحكومات المدنية.
يستمر أردغان في الحكم ولكن هذه المرة بصلاحيات سلطان عثماني. ويمكن بسهولة ملاحظة وجود نزعة مدروسة لمَرْكزة كل شيء في شخص أردغان وتحوليه إلى أب جديد لتركيا بدل أتاتورك الذي لا بد أن تبدأ صورته في التواري منذ الآن. وبسبب ذلك تخشى القوى السياسية في الداخل والجيران في الخارج من عودة تركية إلى السلوك العثماني.
استغل أردغان هواجس بلاده من الأكراد في المثلث السوري العراقي التركي وجعل منه مبررا للاندفاع نحو شريط جرابلس ــ الباب ــ أعزاز، عام 2016، ثم إلى عفرين عام 2018 ووصل هذا الشريط بإدلب، لتكوِّن أنقرة بذلك منطقة نفوذ تمتد من بداما حتى جرابلس على طول الحدود السورية ــ التركية يسيطر عليها سوريون يأتمرون بأوامر الأتراك. وفي كلمته بعد اعلان فوزه قال أردغان أنه سيواصل التمدد في سوريا. لا شك أن ذلك شيء لا تقبله الحكومة السورية التي ربما تؤجل إثارة الموضوع بشكل جدي لاعتبارات الميدان.
وفي المقابل بات التقارب التركي الروسي الإيراني حقيقة ومن الممكن أن يتوسع في المرحلة القادمة بعد أن وجد أردغان ترحيبا ضمن هذا المحور. فهناك تقاطعات سياسية كثيرة بين أعضائه بعد التوترات الكبيرة بين تركيا والغرب. لكن ذلك لا يمنع من توقع تقلبات جديدة يحسنها أردغان، فالخلفيّة الإيديولوجية لا تجعل من هذا المحور مكانا طبيعيا للرئيس التركي وحزبه.
لا يبدو أردوغان مستعدا لمراجعة سياساته التي فاقمت الاستقطابات الداخلية والتوترات الخارجية. وما لم يعترف بأن مواطنيه يواجهون أزمة اقتصادية واجتماعية متفاقمة فلا أمل بأن يبدل في نهجه. ومحاولة الهرب من مواجهة تلك الأزمة وارتفاع معدلات البطالة والتضخم بإلقاء اللوم على الخارج، أو على خصومه في الداخل، لن تنفعه.
استعجل أردغان تقديم الانتخابات من أجل التسلح بصلاحيات واسعة واستباق تفاقم الأزمة الداخلية بعد تحويل النظام إلى رئاسي، والمضي في تمدده خارج الحدود، لكن ذلك لا يؤثر على موقف أكثر من نصف الشعب التركي المعارض له إذا ما اعتبرنا نسبة المقاطعين. ولن يغير في نظرة الاتحاد الأوروبي الذي يتهمه بممارسة القمع ومطاردة خصومه السياسيين والهيمنة على الإعلام وضرب سلطة القانون واستقلال القضاء. ولن يغير أيضا من طريقة تعامل الأمريكيين والإسرائيليين له رغم ما يبديه من مرونة معهم. أما الجيران الذين يريد التوسّع على حسابهم فلن يقفوا مكتوفي الأيدي.