قاسم شعيب
يشير الاتجاه العام، الذي يحرك قرارات
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منذ وصوله إلى البيت الأبيض، إلى وجود رؤية استراتيجية
قد لا تكون بعض تفاصيلها واضحة بالنسبة إلينا. يرفع ترامب شعار "أمريكا أولا"،
لكن عمق الأمور يشير إلى شيء آخر مختلف تماما وهو سعي الولايات المتحدة إلى القطع
مع النظام العالمي القائم وافتعال المعارك السياسية مع القوى الكبرى والمنظمات
الدولية من أجل إسقاطه. وتلك الرؤية الاستراتيجية ليس مصدرها الرئيس الأمريكي نفسه
دون شك، بل المؤسسة الحاكمة.
لكن هذا التوجه الجديد لم يمنع من ظهور
تناقضات في المواقف والتصريحات لدى ترامب الذي لا يجد صعوبة في الانقلاب على نفسه بين
الحين والآخر. وآخر تلك المواقف والتصريحات تتعلق بالتدخل الروسي المفترض في الانتخابات
الرئاسية الأمريكية الماضية في قمّة هلسنكي. لم يمر سوى وقت قصير حتى التفّ ترامب
على تصريحاته التي برّأ فيها الروس، ليعود ويتّهم موسكو بالتدخل في تلك الانتخابات.
بل إنه قال إنه يتهم بوتين شخصيا بذلك. شكّل هذا التصريح انقلابا حقيقيا على موقفه
السابق من بوتين الذي استبعد تدخُّله، في ندوته الصحفية معه في هلسنكي. وبرّر ترامب ذلك في حوار تلفزيوني بأنه أخطأ
التعبير، وأن الجملة التي كان يريد أن يقولها هي: "إنه لا يرى سببا يجعل روسيا
لا تتدخل في الانتخابات"..
يريد الرئيس الأمريكي
تأجيل أي صدام مُفترَض مع الروس من أجل الاهتمام بمعاركه الأخرى في أكثر من اتجاه
رغم ضغوط الإعلام. فقد خرج ترامب من عدة اتفاقيات أبرزها اتفاقية المناخ واتفاقية
الهجرة واتفاقية النووي مع إيران.. وهذه هي المعارك التي يريد إعطاءها الأولوية.
خرجت أمريكا من
اتفاقية المناخ، وقال رئيسها إن اتفاق باريس ظالم ومضر ولا يصب في صالح
الولايات المتحدة وأن الاتفاق الراهن ليس حازما بما يكفي مع الصين والهند، ويعطي مزايا
اقتصادية لدول أخري تعد الأكثر إصدارا للتلوث، بل اعتبره عائقا أمام قدرات الولايات
المتحدة الاقتصادية، بما أنه يكلفها مليارات الدولارات ويثقل ميزانية الشعب الأمريكي.
ولم يكن لاحتجاجات رئيس المفوضية الأوروبية ولا المستشارة الألمانية ولا الرئيس
الفرنسي تأثير على قرار ترامب.
وفي أكتوبر من
العام الماضي، أعلنت وزارة الخارجية انسحاب الولايات المتحدة من اليونسكو وقالت المدير
العام للمنظمة ايرين بوكوفا إن انسحاب الولايات المتحدة خسارة للمنظمة وخسارة
للتعددية وخسارة للأمم المتحدة. لكن ترامب حاول تبرير هذا الانسحاب بأن المنظمة
تحتاج إلى إصلاحات جذرية بسبب انحيازها ضد "إسرائيل" كما ادّعى. وهو ما رأى
فيه العالم محاولة لمعاقبة المنظمة على وقوفها إلى جانب الشعب الفلسطيني.
كما أعلنت إدارة
الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى العام الماضي عن الانسحاب من ميثاق "إعلان نيويورك"
الدولى لتحسين التعامل مع أزمات المهاجرين واللاجئين باعتباره "يتناقض" مع
سياساتها، وجاء الانسحاب من ميثاق الهجرة منسجما مع نهج ترامب فى التضييق على المهاجرين
والحد من دخولهم لأراضي الولايات المتحدة.
لم يتوقف ترامب
عند ذلك بل انسحب أيضا من اتفاقية "الشراكة عبر المحيط الهادي" التي تضم
12 دولة، مؤكدا أن قراره أمر عظيم للعامل الأمريكي، وهو انسحاب حدث بعد وعود أمريكية
بإقامة أكبر منطقة للتجارة الحرة من حيث إجمالى الناتج المحلي.
وفي قمة السبعة
التي احتضنتها مدينة كيباك كندا، رفض الرئيس الأمريكي المصادقة على البيان الختامي،
وأجهز بذلك على يومين من المباحثات بين أعضاء مجموعة قمة السبع بسبب نزاع حول
التجارة، ومحاولته فرض رسوم على الصلب والألومينيوم متهما رئيس الوزراء
الكندي غاستن ترودو الذي ترأس القمة بأنه غير نزيه وضعيف. وقال إن التعريفات
التي فرضناها جاءت ردا على فرضه 270% على الألبان.
لا تتوقف شكوى
ترامب من القواعد التي تحكم عمل منظمة التجارة العالمية، رغم استناد هذه القواعد إلى
مبدأ حرية التجارة الذي يشكل عماد النظام الرأسمالي الذي تتبناه بلاده، وهو يتحرك
باستمرار نحو إقامة الحواجز والجدران التي تحول دون التدفق الحر للبضائع والخدمات والأشخاص
ورؤوس الأموال، إلى درجة إقدامه على إشعال فتيل حرب تجارية وصلت إلى أسوار الصين وقد
تنتهي بكارثة للاقتصاد العالمي.
لكن الخطوة
الأكثر خطورة على أمن منطقة "الشرق الأوسط" وربما العالم كله، هي القرار
الذي اتخذه ترامب قبل ذلك بأشهر قليلة عندما ألغى الاتفاق النووي الأمريكي مع
إيران مبررا ذلك بأنه اتفاق ألحق ضررا كبيرا بالولايات المتحدة التي دفعت أموالا
كثيرة لإيران هي في الحقيقة أموال إيرانية كانت مجمّدة في بنوك أمريكا. وعاد
ليشترط شروطا كثيرة أخرى يعلم مسبقا أنها شروط تعجيزية لا يمكن لطهران أن تقبل
بها. وقال إنه سيفرض حصارا نفطيا على إيران إن لم تلتزم بتلك الشروط بداية من 4 نوفمبر القادم. بل إن ساكن البيت الأبيض لم
يكتف بنقض اتفاقه مع طهران ولكنه رفع سقف تصريحاته المناهضة لها عند إعلان انسحابه،
وقال إن العقوبات مرشحة لتشمل الدول المتعاونة مع طهران.
فهمت طهران
اللعبة وهي تحاول منذ ذلك الحين المزج بين الديبلوماسية والتهديد لإفشال الخطوات
الأمريكية من خلال استمالة الأوروبيين والروس وشركائها الاقتصاديين الآخرين مثل
الصينيين والهنود تارة، والتهديد بإغلاق مضيق هرمز أمام الصادرات النفطية تارة
أخرى.
لا يكاد يبقي
الرئيس الأمريكي ترامب على اتفاقية دولية. وهو يرمي بأحجاره الثقيلة مخلِّفًا
وراءه في كل مرة أزمة جديدة. قد يبدو ما يفعله ترامب عملا عشوائيا، لكنه في
الحقيقة يخفي مُخطَّطا مسبقا. ولا يبدو الأمر متعلقا بخدمة الشعب الأمريكي كما يدّعي،
بل إنه يتحرك بشكل واضح من أجل إسقاط تلك الاتفاقات والمنظمات التي انسحب منها
باعتبارها مدخلا أساسيا لإعادة صياغة النظام العالمي على الأسس الجديدة التي أن تفرضها
القوى الرأسمالية المهيمنة في العالم. ولا شك أن عملية مفصلية بهذا الحجم، تريد إسقاط
النظام العالمي القائم واستبداله بآخر، تحتاج إلى عمليات تمهيدية ووقت ومضاعفات قد
تكون الولايات المتحدة نفسها ضحية لها من خلال العزلة التي تنكس فيها مع كل قرار
انسحاب من إحدى الاتفاقيات.
لا نعتقد أن
الرئيس الأمريكي يتصرف بشكل مزاجي كما يقال عادة، بل إنه يطبق بشكل دقيق ما تطلبه
المؤسسة أو الدولة العميقة التي تملك استراتيجية بعيدة المدى يتداول على تنفيذها
الحزبان الديمقراطي والجمهوري حسب متطلبات المرحلة. وقرارات ترامب تعكس رغبة تلك
المؤسسة الحاكمة في التخلص من النظام العالمي القائم الآن من أجل الانتقال إلى
نظام عالمي جديد سبق أن أعلنه الرئيس الامريكي الأسبق جورج بوش الأب في سبتمبر
1990 أمام الكنغرس، ويخدم بالأساس الكيان الصهيوني المحتل لتحويله إلى مركز سياسي
واقتصادي عالمي خاصة بعد نقل السفارة إلى القدس والإصرار على اعتبارها عاصمة لـ"إسرائيل"
رغم معارضة أكثر دول العالم، ومباشرة وضع قانون أساسي يقر بيهودية الدولة العبرية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق