قاسم شعيب
مع إعلان فوز
رجب طيب أردغان بالانتخاب الرئاسية، تدخل تركيا مرحلة جديدة تكرّس ابتعاد الكماليين
من السلطة دون التخلي عن النزعة القومية الطورانية التي ستبقى جزءاً من تكوين السلطة.
حظي أردغان بدعم أنصاره في الداخل والخارج بسبب خلفيته التي يلتقي فيها مع تيار
واسع من "الإسلام السياسي" الذي يرى في أي نجاح يحققه "السلطان
الجديد" وحزبه نجاحا لمنهجه ورؤيته. لم يحقق أردغان حلم أنصاره فقط بل حقق أيضا
حلمه الشخصي في أن يصبح رئيسا لتركيا بصلاحيات واسعة في نظام رئاسي مطلق بعد أن صوّت
له 52,59% من الناخبين حسب النتائج الأولية، مقابل 30,76% لمحرم اينجه مرشح حزب
الشعب الجمهوري الذي اعترف بخسارته.
لم يكن توقّع
فوز أردوغان بالرئاسة صعبا، فالرجل يحكم البلاد بموجب قانون طوارئ منذ حوالي سنتين
بعد محاولة الانقلاب التي اتهم الداعية فتح الله غولن بالوقوف ورائها. أسفرت تلك
المحاولة، التي يشكك كثيرون في حقيقتها، عن مقتل 250 تركياً وجرح أكثر من 2200، وأدت
إلى طرد أكثر من مئة ألف مواطن من عملهم في القطاع العام، بينما أوقف عشرات الألوف
عن العمل، قبل أن يعود عدد منهم لعدم ثبوت التهم ضدهم. وهناك إحصاءات تقول إن ربع القضاة
والمُدّعين العامين في تركيا طُرِدوا من العمل كما طرد ألفا أستاذ جامعي و33 ألف مدرس
من عملهم. والرقم الأسوأ هو أن أكثر من 50 ألف تركي سُجِنوا منذ محاولة الانقلاب.
ولم يكن نصيب
الإعلاميين أقل قسوة حيث أغلقت حكومة أردوغان 189 مؤسسة إعلامية، وهو ما أدى إلى فقدان
أكثر من 30% من العاملين في مجال الصحافة والإعلام وظائفهم. وتحولت تركيا إلى
"أكبر سجن للصحفيين"، حسب تقارير منظمات دولية.
يحاول أردغان استثمار
الطفرة الاقتصادية التي حدثت بعد وصوله إلى الحكم لتوسيع نفوذه والتمدد على حساب
جيرانه. لكن تلك الطفرة كانت نتيجة لقروض قدمتها البنوك الدولية تضخّمت اليوم ليصل
الدين الخارجي إلى 600 مليار دولار، ولم تكن نتيجة قوة ذاتية للاقتصاد التركي.
اعتمد أردغان
على البنوك الدوليّة في أحداث نقلة اقتصادية كبيرة، لكن ذلك لم يمنعه من إعلان
موقف سلبي من الحضارة الغربية ومن النهج الأتاتوركي بشكل عام. ورغم أنه يقول إنه
رجل علماني إلا أنه يقول أيضا إن الإسلام رسالة عالمية، وهو مؤهل لقيادة العالم، وتوجد
حاجة حقيقية لإحياء هذا الدور الإسلامي العالمي أمام الهجمة الغربية على العالم الإسلامي.
وهذا ما كان يعلنه أربكان الذي أجبر على التنحي عن السلطة بعد أن فهم أن الجيش لن
يتركه يستمر في الحكم. كان يريد إقامة محور سياسي – اقتصادي مشرقي يضم الرباعي: أنقرة
وطهران وبغداد ودمشق، لكن هذا الأمر كان ممنوعا بالنسبة إلى الإدارة الأمريكية.
ورغم الصعوبات
التي يواجهها الاقتصاد التركي بسبب تراجع الليرة وخسارتها 20% في ظرف وجيز وارتفاع
نسبة التضخّم وتراكم الديون الخارجية، يعد أردغان شعبه بالصعود بتركيا إلى القوة
الاقتصادي العاشرة في العالم. غير أن ذلك لا يمكن تحقيقه إذا ما أصرت واشنطن وتل
أبيب والعواصم الاوروبية على دفعه بعيدا عنها. وحينها لا مفر لتركيا من مواجهة أيام
صعبة بسبب الارتباط العضوي لاقتصادها بمصادر التمويل الغربية.
لم تكن براغماتية
أردغان خفية منذ استلامه الحكم عقب فوز حزبه بانتخابات
برلمان 2002. فقد قدم نفسه لواشنطن حينها "بديلا إسلاميا حليفا للأميركيين"،
ومنذ 2005 شجّعهم على الحوار مع التنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين، وعندما
اندلع "الربيع العربي" أصبح عرّابا له أملا في أن تكون للإخوان المسلمين
في تونس ومصر خاصة الحظوة. غير أن ذلك لم يستمر طويلا بعد تخلي واشنطن عنهم في مصر
عام 2013. لا تبدو البراغماتية عند أردغان مقيدة، بل إنها لا تخلو من الإجراءات
القمعية التي تتم صناعة مبررات لها في كل مرة. وهذا ما مكّنه من مواجهة معارضة
الداخل من خلال تكتيكات سياسوية مثل فصل المعارضين وسجنهم وملاحقة الصحفيين وخنق نفوذ
العسكر الذي استمر الحاكم الفعلي للبلاد منذ أتاتورك وراء ستار الحكومات المدنية.
يستمر أردغان في
الحكم ولكن هذه المرة بصلاحيات سلطان عثماني. ويمكن بسهولة ملاحظة وجود نزعة
مدروسة لمَرْكزة كل شيء في شخص أردغان وتحوليه إلى أب جديد لتركيا بدل أتاتورك
الذي لا بد أن تبدأ صورته في التواري منذ الآن. وبسبب ذلك تخشى القوى السياسية في
الداخل والجيران في الخارج من عودة تركية إلى السلوك العثماني.
استغل أردغان هواجس
بلاده من الأكراد في المثلث السوري العراقي التركي وجعل منه مبررا للاندفاع نحو شريط
جرابلس ــ الباب ــ أعزاز، عام 2016، ثم إلى عفرين عام 2018 ووصل هذا الشريط بإدلب،
لتكوِّن أنقرة بذلك منطقة نفوذ تمتد من بداما حتى جرابلس على طول الحدود السورية ــ
التركية يسيطر عليها سوريون يأتمرون بأوامر الأتراك. وفي كلمته بعد اعلان فوزه قال
أردغان أنه سيواصل التمدد في سوريا. لا شك أن ذلك شيء لا تقبله الحكومة السورية
التي ربما تؤجل إثارة الموضوع بشكل جدي لاعتبارات الميدان.
وفي المقابل بات
التقارب التركي الروسي الإيراني حقيقة ومن الممكن أن يتوسع في المرحلة القادمة بعد
أن وجد أردغان ترحيبا ضمن هذا المحور. فهناك تقاطعات سياسية كثيرة بين أعضائه بعد
التوترات الكبيرة بين تركيا والغرب. لكن ذلك لا يمنع من توقع تقلبات جديدة يحسنها
أردغان، فالخلفيّة الإيديولوجية لا تجعل من هذا المحور مكانا طبيعيا للرئيس التركي
وحزبه.
لا يبدو أردوغان
مستعدا لمراجعة سياساته التي فاقمت الاستقطابات الداخلية والتوترات الخارجية. وما لم
يعترف بأن مواطنيه يواجهون أزمة اقتصادية واجتماعية متفاقمة فلا أمل بأن يبدل في نهجه.
ومحاولة الهرب من مواجهة تلك الأزمة وارتفاع معدلات البطالة والتضخم بإلقاء اللوم على
الخارج، أو على خصومه في الداخل، لن تنفعه.
استعجل أردغان تقديم
الانتخابات من أجل التسلح بصلاحيات واسعة واستباق تفاقم الأزمة الداخلية بعد تحويل
النظام إلى رئاسي، والمضي في تمدده خارج الحدود، لكن ذلك لا يؤثر على موقف أكثر من
نصف الشعب التركي المعارض له إذا ما اعتبرنا نسبة المقاطعين. ولن يغير في نظرة الاتحاد
الأوروبي الذي يتهمه بممارسة القمع ومطاردة خصومه السياسيين والهيمنة على الإعلام وضرب
سلطة القانون واستقلال القضاء. ولن يغير أيضا من طريقة تعامل الأمريكيين
والإسرائيليين له رغم ما يبديه من مرونة معهم. أما الجيران الذين يريد التوسّع على
حسابهم فلن يقفوا مكتوفي الأيدي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق