الأربعاء، 26 أكتوبر 2016

الديني والسياسي في أمريكا.. الاختراق اليهودي وسطوة الصهيونية







قاسم محمد   
 

تحتاج الممارسة السياسية إلى بوصلة. ومن دون ذلك، تصبح ممارسة عمياء بلا اتجاه ولا هدف. وتلك البوصلة ليست شيئا آخر غير النظرية التي تمثل الأساس الذي يحرك السياسات الخارجية والداخلية لأية دولة، والتي قد تكون دينا كما قد تكون أيديولوجيا. غير أن ذلك لا يعني دائما الالتزام بما يمليه الدين أو ما تقوله الأيديولوجيا. بل إنه في كثير من الحالات يصبح الأساس النظري مجرد مبرر لسياسات النظام الحاكم.
وعندما يتعلق الأمر بالولايات المتحدة الأمريكية لا يتردد المطلعون في الجزم بحقيقة التأثيرات المباشرة للدِّين على السياسات الأمريكية. فالدّين في أمريكا يمثل مكوّنا رئيسيا للثقافة وجزء أساسيا موجّها للممارسة السياسية فيها سواء كانت داخلية أو خارجية.

هيمنة البروتستانتية

يعتنق أكثر الشعب الأمريكي البروتستانتية. ويشكل أتباع هذا المذهب ما يقرب من نصف سكان البلاد، أي 48% عام 2012، مما يجعلها الدولة التي تضم أكبر عدد من البروتستانت. والبروتستنت ينقسمون إلى تقليديين وانجيليين. وهناك أقليات أخرى كاثوليكية ومسلمة ويهودية ولا دينية..
تهيمن البروتستانتية على بقية الأديان. فهي المكوّن الرئيسي للبانوراما الدينية الأمريكية. وهي التي تتبعها الشعوب المهاجرة إلى العالم الجديد منذ قرون وأصبحت تمثل المادة البشرية الأساسية للعالم الجديد. ولم يكن غريبا أن تكون البروتستانتية المذهب الرئيسي والأقوى الأمريكيين. فقد انحدر أكثرهم من بلدان أوروبية انتشر فيها هذا المذهب الذي تأسس منذ انشقاق الألماني مارتن لوثر عن الكنيسة الكاثوليكية في القرن السادس عشر.
ويُعرف عن المجتمع الأمريكي ارتياده لأماكن العبادة بوتيرة أرفع بكثير مما هو موجود في أوروبا، مثلا، التي أصبح فيها التديّن شيئا هامشيا. تجد الكتب الدينية التي تصدر بشكل متواتر رواجا كبيرا بين الناس. كما تجتذب البرامج التلفزيونية الدينية الملايين من المشاهدين. والأمر ذاته ينطبق على مواقع الانترنت المزدحمة بالزوار.
وعندما هاجرت جماعات البيوريتانيين البروتستانت إلى أميركا سمَّت هجرتها حجّاً، واعتبر أفرادها أنفسهم حجاجاً. وبعد أن نزل هؤلاء البروتستنت في ولاية ماساشوستس سنة 1620، أخذوا يغتصبون أراضي الهنود الحمر ويقتلونهم، مستندين إلى نصوص في الإنجيل.
لكن المعلن هو أن الدولة الأمريكية دولة علمانية حيث لا توجد كنيسة رسمية مرتبطة بنظام الحكم والناس، بجميع انتماءاتهم الدينية، يستطيعون، دستوريا، الوصول إلى أي منصب سياسي أو عام.  ويمكن للناس أن يتعلموا الدِّين غير أنه لا يُدَرَّس في المدارس العامة. ويعيش أتباع كل الديانات تحت سقف قانون واحد. فالمساواة أمام القانون حق للجميع على اختلاف أديانهم وألوانهم من الناحية الدستورية.
سيطرت البروتستاتية التقليدية على المجتمع الأميركي الأبيض في البداية وتميز هذا المذهب بالتركيز على الانضباط والعمل، كما انتشرت فكرة الخلاص الشخصي للفرد من خلال جهوده.
ولم تخل الشعارات المتداولة من إحالات دينية واضحة. فالأمة الأمريكية قدَّمها البروتستنت التقليديون باعتبارها أمة تقف في مواجهة باقي العالم، حيث يرونها "مدينة مُشعَّة فوق التلة"، أو "الإمبراطورية الصالحة"، و"الأمل الأفضل الأخير" للبشرية، و"أمة المخلِّص". وقدَّم هذا المذهب أتباعه باعتبارهم امتداداً للبيوريتانيين الذي يسعون إلى استعادة صفاء الكنيسة الأولى، وبناء أميركا باعتبارها أمة مسيحية.
لعب أتباع البروتستانتية التقليدية أدوارًا قيادية في مجالات الحياة الأميركية المختلفة؛ الاقتصاد والسياسة والثقافة.. وهم الذين أسسوا معظم المعاهد الرائدة في البلاد للتعليم العالي. وإليهم تنتمي العديد من العائلات الأمريكية الثرية والغنية الشهيرة مثل عائلات روكفلر، ومورغان، وفورد، وروزفلت، وفاندربيلت، وكارنجي..
أما المسيحيون الإنجيليون الذين بلغ عددهم 100 مليونا عام 2010، فهم لا يملكون، بخلاف الكاثوليكية، بنية تراتبية مركزية، ولكن لديهم مجموعة منظمات يجتمعون تحت مظلتها، مثل المجلس الأميركي للكنائس المسيحية، والجمعية الوطنية للإنجيليين، والمجلس العالمي للكنائس المسيحية.
وتملك الكنائس الإنجيلية شبكة واسعة من وسائل الإعلام المرئية والسمعية كما تمتلك عددا كبيرا من المدراس والجامعات والمتاحف ومراكز الأسرة. تزايد نفوذ الإنجيليين سياسيًا في الولايات المتحدة، واستطاعوا منذ سبعينات القرن الماضي السيطرة على الحزب الجمهوري وكان هذا التيار مسؤولاً عن تحديد رئيس الجمهورية منذ جيمي كارتر عام 1976 الذي أعلن أنه ولد من جديد، حتى جورج بوش الابن سنة 2000.
يقول الإنجيليون إنهم يهتمون كثيرا بالذات، ويؤمنون بالتحوّل أو الهداية وهو فعل ينتقل به الإنسان من الخطيئة إلى حالة الخلاص الدائم، ويطلق على ذلك "الولادة من جديد". والإحساسُ بالذنب والتوبة هو ما يجمع هؤلاء "المولودين"، الذين يشتركون في "المعركة ضد الخطيئة" في المجتمع وحول العالم. ووفقًا لاستطلاع أجراه مركز البحوث الأمريكية "بيو" عام 2013، فإن الكثير من الإنجيليين يؤمنون أن الرب قد وهب فلسطين لليهود أكثر من إيمان اليهود الأمريكيين أنفسهم.
لقد التقى استراتيجيو الحزب الجمهوري مع الإنجيليين، وبشكل خاص مع جيري فالويل الذي أسس سنة 1979 منظمة "الأغلبية الأخلاقية" التي سعت إلى التحالف مع الجمهوريين، وفرض أجندتها الدينية على الحياة السياسية الأميركية، ومن ذلك مواضيع الإجهاض والمثلية الجنسية والقيم الأسرية.
ولإقناع جمهوره من الأنجيليين بتأييد مرشح الحزب الجمهوري، استخدم فالويل مصطلح "شراكة الحرب" التي تعني الالتقاء مع الآخرين في نقاط محددة دون الاتفاق، بالضرورة، على قضايا كثيرة أخرى.
وكانت فترة رئاسة ريغن وبوش الأب 1980 – 1992 فترة تعلُّم بالنسبة للإنجيليين، إذ أدركوا أن الاقتصار على إيصال الرئيس إلى البيت الأبيض ليس كافياً، وأنه يجب إيلاء الأهمية نفسها لمرشحي مجلس النواب والشيوخ. وبالفعل تمكن الجمهوريون سنة 1994 من تحقيق فوز كاسح في مجلسي النواب والشيوخ الأميركي للمرة الأولى منذ 1952.

التقارب اليهودي البروتستانتي

لا يخطئ المتابع ملاحظة التقارب الكبير بين البروتستنت واليهود. وهو تقارب حدث منذ تأسيس هذا المذهب البروتستانتي لأنه حينها قلب المعادلة وأصبح العهد الجديد يفهم على أساس العهد القديم على عكس ما تفعله الكنيسة الكاثوليكية. وأصبحت الأولوية بذلك لما ورد في التوراة والأسفار. أصبحت العقيدة المسيحية أقرب إلى العقيدة اليهودية والأخلاق المسيحية أقرب إلى الأخلاق اليهودية. وهذا التقارب الديني انعكس تقاربا سياسيا.
أسس اليهود الحركة الصهيونية في الولايات المتحدة، والحركة الصهيونية لم تكن مقتصرة على اليهود بل إنها ضمت أيضا مسيحيين كُثر. وشكّل التراث اليهودي المسيحي المزيج الذي سيطبع الثقافة الأميركية منذ الاستقلال بالطريقة التي أرادها الفكر الطهراني البروتستانتي الذي جاء من بريطانيا وألمانيا التي تنحدر منها أيضا أغنى عائلة أمريكية في العالم وهي عائلة روتشيلد التي كان لها الدور الحاسم في إنشاء الكيان الصهيوني في فلسطين والتي تمتلك نصف ثروة العالم حسب مهتمين ومعظم بنوكه كما تمتلك أهم القنوات التلفيزيونية وفي مقدمتها السي آن آن، وتملك أيضا هوليوود من خلال ملكيتها للأقمار الصناعية وحقوق شراء البث، دون أن ننسى امتلاكها لورقة الدولار وشركات الأدوية والسلاح.. فهي العائلة التي كونت ثروتها من الصيرفة وتجارة الحروب حيث كانت تدعم في وقت واحد الأطراف المتحاربة في أوروبا في القرن التاسع عشر وما تلاه..
اهتم الفكر اليهودي المسيحي بالعهد القديم وقصص بني إسرائيل والإيمان بعصمة الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد. ورأوا أن خطة الله تقتضي اتخاذ فلسطين أرضا للميعاد ومسرحاً لأهم أحداثها ومنها مملكة الله الألفية، أو الذي أصبح يسمى بالنظام العالمي الجديد. وهي المملكة التي سيكون مركزها القدس حيث سيتم بناء الهيكل المزعوم.
وحسب الكاتبة الأميركية غريس هاليسل في كتابها "يد الإله"، فإن هرتسل مؤسس الحركة الصهيونية لم يكن صاحب فكرة تأسيس إسرائيل في فلسطين، وإنما كان دعاتها هم المسيحيون البروتستانت في بريطانيا وأميركا قبل ثلاثة قرون، عندما جعل مارتن لوثر زعيم حركة الإصلاح الكنسي في القرن السادس عشر توراة اليهود والأسفار التي تسمى العهد القديم الجزء الأهم من الكتاب المقدس. واستشهدت بحديث ينسب إلى السير أوليفر كرومويل راعي الكومنولث البريطاني قال فيه: "إن الوجود اليهودي في فلسطين هو الذي سيمهد للمجيء الثاني للمسيح". ولا شك أن اليهود يتحدثون عن مسيحهم هم، وليس عن مسيح النصارى ورسولهم عيسى بن مريم.
ورغم النسبة القليلة لليهود في أمريكا فإنهم استطاعوا التغلغل في مؤسسات الدولة. وأصبحت لهم سطوتهم المالية وقدرتهم على إقامة تحالفات مع كبار رجال المال والسياسة والثقافة..
شعر بنيامين فرانكلين، أحد مؤسسي الاستقلال الأميركي، بالخطر اليهودي على أميركا، وألقى كلمة في المجلس التأسيسي الأميركي عام 1789 حذَّر فيها من خطر تكاثر اليهود وقال: "لا تظنوا أن أميركا نجتْ من الأخطار بمجرد أنها نالت استقلالها، فهي ما زالت مهددة بخطر جسيم لا يقل خطورة عن الاستعمار... وهذا الخطر سوف يأتينا من جراء تكاثر عدد اليهود في بلادنا... لأنهم أبالسة الجحيم وخفافيش الليل ومصاصو دماء الشعوب".
لكن تحذيرات فرنكلين لم يكن لها أي صدى وسرعان ما تبلور التحالف اليهودي المسيحي لتظهر الصهيونية المسيحية في المجتمع والإدارة من داخل البروتستانتية الإنجيلية ولتتكون اللوبيات اليهودية التي أصبحت تحكم العالم وليس فقط أوروبا وأمريكا.
أصبحت المسيحية الصهيونية من خلال المؤسسات الرديفة لها والتابعة، مثل الآيباك، تملك القدرة على الضغط والتأثير بشكل واسع في السياسات الأمريكية. وكان صعود هذا التيار قويا في الولايات المتحدة مع مجيء رونالد ريغان إلى البيت الأبيض حيث تم التزاوج بين اليمين السياسي الأميركي ممثلاً بالحزب الجمهوري واليمين المسيحي من أجل إحياء الحرب الباردة والتسابق بصناعة أسلحة حرب النجوم. وأصبح الاتحاد السوفيتي في خطاب ريغان والمسيحية الصهيونية يسمى "إمبراطورية الشر".
وعندما جاء بيل كلينتون إلى موقع الرئاسة احتل اليهود أعلى أول خمسين منصباً في الإدارة الأميركية. ووصل التحالف بين اليمين السياسي الأميركي واليمين الديني ممثلاً بالمسيحية الصهيونية وبالمحافظين الجدد، الذين كانوا في معظهم من اليهود، ذروته في كانون الثاني 2001 بتولي بوش الابن منصب الرئيس، فقد كان لمنطقة "حزام الكتاب المقدس" دور في التصويت له، فقد صوت له أكثر من سبعين مليون أميركي في سنة 2000 يصفون أنفسهم بأنهم "مسيحيون ولدوا من جديد".
سعى بوش للالتزام بأجندة الأصولية المسيحية، التي كانت تتضمن على مستوى السياسية الداخلية قضايا حظر الإجهاض، وقراءة الإنجيل في المدارس العامة، تنطلق على مستوى السياسة الخارجية، على أساس إيمان هؤلاء الإنجيليين بأن نهاية العالم ستكون قريبة، وأن الشرق الأوسط سيدخل سلسلة حروب تمهيداً لمعركة هرمجدون بين العرب واليهود والتي يجب أن تفوز إسرائيل فيها، ليسهلوا على المسيح بناء مملكة الله في فلسطين “إسرائيل” عند مجيئه الثاني.
كان هناك توافق في معتقدات هؤلاء الإنجيليين مع غزو العراق، أو بابل كما في التوراة، باعتباره ممهداً لهرمجدون حسب سفر الرؤيا، حيث شُنّت الحرب على العراق في 20 مارس 2003 بدعوى امتلاكه أسلحة دمار شامل، وتم بذلك إشعال الفتنة الطائفية ليس في العراق وحده وإنما في المنطقة كلها خدمةً لإسرائيل والصهيونية العالمية وقصة "هيرمجدون التوراتية".
وعلى هذا النحو استطاع اليهود اختراق المسيحية في البداية بتأسيس مذهب جديد هو المذهب البروتستاني ثم بعد ذلك بإنشاء تيار انجيلي يتبنى كل الأطروحات اليهودية حول الدولة اليهودية وبناء الهيكل ومعركة هرمجيدون وظهور "المسيح اليهودي" الذي يعتبره الكاثوليك والأرثودوكس والمسلمون عدو المسيح. وهذا يعني، في النهاية، أن السياسات الامريكية مرتهنة بشكل كامل لمقولات دينية توراتية. لكن ذلك ليس كل شيء لأن وراء تلك المقولات التوراتية التي يتم الترويج لها والعمل من أجلها هدف آخر أكثر خطورة..



الأربعاء، 12 أكتوبر 2016

هذا الدولار الذي يحكم العالم








قاسم شعيب



لم يكن المال في الحضارات القديمة هدفا بذاته. كان مجرد وسيلة. ولأجل ذلك كانت العملة ذهبا أو فضة ذات رصيد حقيقي وقيمة. قبل ذلك كان الناس يعتمدون المقايضة للحصول على المنافع. كان الناس ينتجون ما يحتاجون ويبيعون الفائض أو يهبونه، وكانوا يشترون ما لا ينتجونه.
ومع ظهور الرأسمالية حلَّت العملة الورقية محل الذهب والفضة. أصبحت للورقة النقدية قيمة رمزية توازي منتجات تباع وتشترى. وباتت الحسابات المصرفية هي الأساس بعد ظهور العملة الورقية. في البداية كانت العملة الورقية تملك رصيدا حقيقيا يعكس قيمة من الذهب يساوي سلع ومنتجات تُباع وتُشترى. والقيمة ينبغي ان تكون مساوية لنوعية العمل المتضمنة في إنتاج السلعة، وليس لكميته. لكنها أصبحت لا حقا مرتبطة بالعلامة أو الماركة المسجلة للبضاعة. أصبحت القيمة مرتبطة باسم الشركة التي يُدَّعى أنها تنتج البضاعة وليست البضاعة في حد ذاتها.
وفي العام 1971 أعلن الرئيس الامريكي نيكسون فك ارتباط الدولار بالذهب، وألغيت بذلك اتفاقية بريتون وودز التي عُقدت عالمياً في نهاية الحرب العالمية الثانية والتي أفرزت لاحقا صندوق النقد والبنك الدوليين واتفاقية الجات التي فشلت وتحولت إلى منظمة التجارة العالمية. عندها تمّ فك الارتباط بين الرمز وما يرمز إليه؛ أصبح المال قيمة بحد ذاته. بل إن المال صار سلعة يباع ويشترى وأصبحت له أسعار ترتفع وتنخفض على مدار الساعة بحسب ما تقرره أمريكا؛ القوة الاقتصادية الأكبر في العالم.
نجحت الولايات المتحدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 في فرض عملتها على العالم. ساعدها على ذلك خروج الحلفاء المنتصرين عسكريا بمشاكل اقتصادية ضخمة بسبب تكاليف الحرب. أمريكا وحدها التي حافظت على قوة اقتصادها لبعدها الجغرافي على مسرح العمليات الحربية. وفي مؤتمر بريتون وودز الذي عقد العام 1945 نجحت أمريكا في إقناع الدول المجتمعة تحت ضغط المشاكل الكبيرة التي كانت تواجهها اقتصادياتها على اعتماد الدولار الأمريكي احتياطيا عالميا لعملات هذه الدول على أن تفك هذه الدول ارتباط عملاتها بالذهب، وتربطها بالدولار الأمريكي شرط أن تلتزم أمريكا بدعم الدولار بالذهب مقابل سعر ثابت و هو 35 دولار للأونصة (الأونصة حوالي 28 غرام)، وبذلك قامت دول العالم بشراء الدولار بالذهب مقابل هذا السعر الثابت.
كان كل 35 دولارا يعادل أونصة ذهب وبعد فك الارتباط بين الدولار والذهب أصبح ثمن أونصة الذهب 350 دولارا بانخفاض قيمة الدولار 9 مرات. وتحول النظام المالي من خادم للنظام الاقتصادي إلى عبء عليه. كانت عندها نسبة الاقتصاد الأمريكي إلى النظام المالي واحد إلى واحد. وبعد الانفصال أصبح حجم المال يتجاوز الاقتصاد إلى أن وصل إلى حوالي 40 ضعفا في عقد التسعينيات.أصبحت أمريكا حرة طليقة في طباعة ما تشاء من الدولارات. ولإدخال الدولارات في حركة الاقتصاد الرسمي والاقتصاد الحقيقي العالمية أصدرت أمريكا أوامرا لأكثر الدول تصديرا للنفط ليتم تداول النفط بالدولار.
أما سعر الدولار فلا تقرره آليات السوق في العرض والطلب، بل تقرره القوة الأميركية وحدها. أمريكا هي البلد الوحيد في العالم الذي يقرر كمية ما يطبع من عملة ورقية، كما يقرر سعرها، وقيمتها بناء على قرارات سياسية. وبقية العملات الأخرى يقرر أسعارها السوق بناء على تغيرات العرض والطلب التي لا تخرج عن متطلبات الاقتصاد الأميركي والقوة العسكرية الأميركية. وأية دولة أخرى لا تستطيع الاستدانة إلا بالدولار وهو ما يعني الخضوع للشروط الأمريكية.
والبلد المستدين لابد له من سداد الدين الخارجي بالعملة الأجنبية، لأن الدولار هو العملة التي لا تتأثر قيمتها بتقلبات السوق بعد أن فرضتها الولايات المتحدة عملة عالمية فوق قوانين العرض والطلب با تلكه من مخزون ذهبي. وعندما يعجز هذا البلد عن سداد الدين، ويعلن إفلاسه، يؤتى به إلى مؤتمر باريس، لتعاد جدولة ديونه بشروط اقتصادية تتعلق بالأجور والخدمات التي تقدم للناس وأسعار الصادرات وأسعار الواردات ومستوى الضرائب.. أما الولايات المتحدة، الدولة التي وضعت نفسها فوق القوانين جميعا، فهي بلا شك لا تذهب إلى نادي باريس، لأنها تستطيع أن تطبع ما تشاء من عملتها، ولأنها تتمتع بالقوة العسكرية اللازمة لفرض هذه العملة على الجميع.
ورغم ذلك كله تضطر أميركا إلى الاستدانة، وقد بلغت ديونها ما يقارب 17 تريليون دولار. لكنها تستطيع أن تطبع ما تشاء من الدولارات وتوزعها على الدائنين وتمحو ودائعهم المصرفية، أو على الأقل جزءاً منها، حتى لا تتهم بالنصب والاحتيال. هذا الأمر لا تستطيعه أية دولة أخرى تخضع عملتها لقوانين السوق في العرض والطلب.
وهناك مصدر آخر يعزز القوة الامريكية وهو لجوء المدخرات العالمية إليها بسبب قدراتها الاقتصادية والعسكرية وتُستخدم تلك المدخرات لشراء أسهم في الدين الأميركي الحكومي أو لأغراض أخرى. هذه المدخرات قادمة من دول النفط والمواد الخام الأخرى وفي مقدمها دول عربية خليجية مثل المملكة السعودية، وهي أيضا قادمة من دول آسيا الشرقية الصاعدة اقتصاديا.
هذه الأموال تتغير قيمتها بعد إيداعها في البنوك واستثمارها بحسب ما تراه السلطة الأميركية، أو ما تقرره السوق الأميركية التي تخضع لقرارات سياسية ولا علاقة لها بقوانين العرض والطلب.. ومن الطبيعي أن تخسر تلك الودائع والمدخرات قيمتها الحقيقية بسبب التضخم أو الشروط التي تفرضها عليها الدولة الأمريكية. تستطيع بذلك الولايات المتحدة ممارسة نهب منظّم دون أن تجد من يحتج على ممارساتها من أصحاب المدخرات الذين لا يسعهم سوى السكوت والرضى. بل إن أمريكا يكنها الحجز على مدخرات الدول الأخرى لديها لأي سبب تخترعه. ومثال ذلك قانون جاستا الأخير الذي يتيح محاكة دول بتهم الارهاب وإجبارها على تعويض الضحايا. وقد رفعت في المدة الأخيرة عدة قضايا ضد السعودية التي تم تجميد أرصدتها في البنوك الأمريكية.
والمساس من اعتماد الاقتصاد العالمي على الدولار تعتبره أمريكا مساسا بأمنها القومي. كل من يحاول توجيه الاقتصادات العالمية بعيدا عن الدولار سيعتبر عدوا للأمن القومي الأمريكي. و هذا ما يفسر الاغتيالات والانقلابات والحروب التي تعرضت لها دول وزعامات حاولت الاعتماد على عملة أخرى غير الدولار. ورغم نجاح الكثير من دول العالم في الاعتماد على وسائل أخرى لدعم اقتصاداتها، الا أن الدولار يبقى العملة الرئيسية حتى اليوم.
أمريكا اليوم تستخدم سلاحين في وقت واحد. سلاح القوة الاقتصادية وسلاح القوة العسكرية. وهي مثل الإمبراطوريات التي سبقتها عبر التاريخ تلجأ الى التصفية الجسدية أو السجن لكل من يعارض سياساتها ويحاول فضحها ما دامت قادرة على ذلك. والديمقراطية التي ترفع شعاراتها لا تملك منها شيئا في الحقيقة، فالذي يحكم هو رأس المال. الحزبان الجمهوري والديمقراطي في أمريكا ليسا إلا واجهة سياسية. وبرامجهما وقراراتهما عندما يكون أحدهما في الحكم لا تخرج عما يقرره راس المال في الغرف الخفية.
والقوة التي لا زال يمتلكها الدولار ليفرض نفسه العملة المعيارية في العالم كله تستند إلى مخزون ضخم من الذهب. فالذهب يعتبر العملة الاحتياطية العالمية حيث تواصل البنوك المركزية في الولايات المتحدة وأوروبا جهودها من أجل حيازة أكبر كمية من الذهب.
وليس غريباً أن تتصدر الولايات المتحدة قائمة الدول الأكثر حيازةً للذهب باحتياطي يساوي 5 .8133 طن مقابل ألمانيا 5 .3395 طن وإيطاليا  بـ 8 .2451 طن وفرنسا بـ 4 .2435 طن والصين بـ 1 .1054 طن وسويسرا بـ 1 .1040 طن وروسيا بـ 7 .936 طن التي تواصل شراء الذهب بعد ان استفاقت متأخرة واليابان بـ 2 .765 طن رغم أنها من أكبر الاقتصادات في العالم وهولندابـ 5 .612 طن والهند بـ 7 .557 طن.
ويلاحظ أن ألمانيا تُبقي فقط على حوالي ثلث ذهبها داخل أرضها، والباقي يوجد في الخارج، 45 في المائة منه لدى الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في نيويورك، و13 في المائة في لندن، و11 في المائة في باريس، وفقط 31 في المائة في البنك المركزي الألماني في فرانكفورت.
لكن المفاجئ والذي يدعو إلى الاستغراب هو كيف لدول لا تمتلك بالضرورة ناتجاً محلياً ضخماً أن تكون هي المالك الأكبر للذهب. بل إن الملفت أن دولتين صغيرتين مثل هولندا وسويسرا يصنفان من بين المالكين الكبار للذهب في العالم. لكننا إذا علمنا أنهما بؤرتين لأكبر رؤوس الأموال التابعة لمجموعة بيلدبيرغ المعروفة بحكومة العالم الخفية، يزول ذلك الاستغراب.
إننا عندما نجد دولة مثل المملكة المتحدة على سبيل المثال تحتل المركز السابع عالمياً بين بلدان العالم من حيث احتياطي الذهب ولكنها تحتل المركز السابع عشر عالميا من حيث الناتج القومي، نفهم أن الجهات الحاكمة فعليا في الاقتصاد العالمي استطاعت أن تخزّن كميات ضخمة من الذهب لإدامة سيطرتها على العالم ولمواجهة أية حالات طارئة أو حرب يتم الاعداد لها. فالمسألة لا تتعلق بالولايات المتحدة باعتبارها دولة، بل بمن يحكم في الخفاء تلك الدولة كما دول أخرى كثيرة. إن ذلك يزداد وضوحا عندما نجد دولة مثل البرازيل لا تمتلك إلا حصة صغيرة جداً من الذهب مقارنة بإجمالي ناتجها القومي، فهي لا تستحوذ إلا على 5 .0% من الاحتياطي الأجنبي. وتزداد الصورة وضوحا عندما نعلم أن صندوق النقد الدولي، الذي يمتلكه يهود، هو ثالث جهة رسمية تستحوذ على الذهب..

إن احتياط الذهب الذي تتوفر عليه الولايات المتحدة لا يمكنها من السيطرة على العالم فحسب، بل إنه هو الذي يمنع عنها أي انهيار اقتصادي. ولن يكون ذلك الانهيار ممكنا إلا في حالتين؛ الأولى أن تتفق دول العالم القوية المعارضة للهيمنة الأمريكية على عملة جديدة واحدة تستغني بها عن الدولار في تعاملاتها الاقتصادية ومنها بيع النفط وبقية المواد الخام. والثانية تعرض الولايات المتحدة لحرب نووية أو كوارث طبيعية غير عادية تحطم اقتصادها بشكل نهائي. والاحتمال الثاني هو الذي نرجحه حيث لا إمكانية لظهور قوة اقتصادية وازنة في العالم بعد نجاح أمريكا في إفشال مجموعة البريكس بعد إسقاط الحكومات اليسارية في الشيلي والأرجنتين والبرازيل ومحاصرة فينيزويلا وروسيا.. 

الجمعة، 7 أكتوبر 2016

قيم عاشوراء
























قيم عاشوراء

قاسم شعيب



لم يكن الحسين* مجرد ثائر عابر في التاريخ، بل كان يمثل الامتداد الطبيعي لحركة النبوة المستمرة حتى نهاية العالم. جوهر الموضوع يتعلق بخط الحسين، وليس بممارسات شكلية أو نزعات طائفية يريد بعض الناس إسقاط الذكرى فيها.. تكاد تتحول ذكرى الإمام الحسين إلى طقس فلكلوري بلا روح. تكثر الولائم والملابس السوداء وحلقات اللطم.. غير أن المطلوب شيء أكبر من ذلك بكثير. لا شك أن هذه المظاهر الشكلية في إحياء عاشوراء لها أهمتها التي لا يمكن إنكارها. غير أن الأهم من ذلك هو فكر الحسين وقيمه ومواقفه وأخلاقه التي كان يعامل بها أصحابه والتي كان يواجه بها أعداءه.
يحتاج الولوج إلى عمق حركة الحسين إلى الاطلاع على تفاصيل تلك الثورة منذ بدايتها. ودون ذلك تبقى الصورة غائمة في الذهن، بل إن ذلك قد يسقطنا في كثير من التصورات والأفكار البعيدة عن حقيقة ما حدث. والاطلاع على تفاصيل حركة الحسين ليس مهمة النخبة من علماء ومثقفين، بل ينبغي أن يكون عمل كل السائرين في خط الحسين. ليس مفهوما أن يعلن أحدنا الانتصار للحسين وهو يجهل عنه أكثر الأشياء وأكثر المواقف. وثقافة السمع، التي يكتفي بها أكثر الناس، لا تغني عن ثقافة القراءة والدراسة الأكثر عمقا ووثوقا. فالاقتداء يحتاج إلى المعرفة ودون معرفة لن يكون هناك اقتداء حقيقي، بل ربما انحراف وتشويه.
إذا لم ينصف العرب والمسلمون الحسين وكل التاريخ الذي ينسب إليهم، فإنهم لن ينصفوا الحاضر، وستبقى كل ممارسات الظلم والفساد تتكرر. كان العرب، بشكل خاص، ولا يزالون، ضحية جهلهم أو لا مبالاتهم تجاه ما يحدث من فساد وظلم. في البداية استطاعت قريش استعادة مواقعها القديمة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله. ثم اختارت سياسة تجهيلية واسعة لا تزال مستمرة حتى اليوم. وكان إبعاد أهل البيت عن مواقعهم الطبيعية المدخل الذي سمح لكل المُدَّعين بتشويه الإسلام في عقائده وأحكامه وقيمه وأخلاقياته. فعندما يتم منع تداول الحديث، والسماح، في مقابل ذلك، بنشر الاسرائيليات وتشجيع الخرافة، كما كان يفعل كعب الأحبار وتميم الداري وأبو سفيان نفسه الذي كان يرافق الجيوش ويروي الخرافات، فإن ذلك يعني التحكّم في عقول النّاس.
إننا، في كثير من الأحيان، لا نتصور الحسين إلا من خلال ثقافتنا المركبة التي لا يمثّل فيها الدين إلا جزء بسيطا. بينما تحتاج القراءة الموضوعية إلى التخلّي عن تلك المسبّقات الثقافيّة من أجل قراءة أقرب إلى واقع الحدث التاريخي الجلل. وعمليات الإسقاط التي تتعرض لها حركة الحسين هي التي ترسخ في مجتمعاتنا الأخطاء نفسها. تصبح هذه الثقافة المركبة أساسا لفهم عاشوراء. وهذا الأمر له تطبيقاته الأوسع في فهم النص الديني بشكل عام.
إن مصلحة الإسلام كانت هي المحرّك للحسين. ولو كانت مصلحة الإسلام في السكوت على يزيد لفَعَلَه الإمام. هذا الأساس هو المحدد لحركة كل الأئمة. لقد صالح الحسن لأن مصلحة الإسلام اقتضت ذلك، وثار الحسين لأن مصلحة الدين اقتضت ذلك. ولو تبادلا المواقع لفعل الحسين ما فعله الحسن ولفعل الحسن ما فعله الحسين.
كان الحسين حرا، فلم يصادر حرية أحد. وكان شهما، فلم يخدع أحدا. وكان عادلا، فلم يظلم أحدا. وكان كريما، فلم يردّ أحدا. وكان شجاعا، فلم يجبن أمام أحد. وكان عالما، فلم يحتج إلى سؤال أحد، وكان بصيرا فلم يقبل ظَلام أحد.. تلك هي قيم الحسين التي طبعت شخصيته. وإذا لم نحاول التأسّي به لنقترب من صفاته وأخلاقه وقيمه، فإن مجرّد ادعاء حبه لن يكون مجديا.
الجهل بحقيقة ثورة الحسين، في تفاصيلها، أو قراءتها بطريقة إسقاطية، كما الجهل بحقيقة الدين، هي الأشياء التي تكرس في مجتمعاتنا كل تلك الموبقات. لم يكن لدى الحسين شيء آخر غير ‫‏الإسلام. وعندما كان الأمر يدور بين حياة الإسلام وحياته هو، قرر سبط الرسول صلى الله عليه وآله وسلم تقديم نفسه فداء للدين. لقد أعطى الحسين للإسلام حياة جديدة بعد أن بات مهددا في وجوده واستمراره. ولأجل ذلك نحن ندين، اليوم، بإسلامنا للحسين. من دون تضحيات الحسين بنفسه وأهله وأصحابه فلربما تحوّل الإسلام إلى ما يشبه الأديان الأخرى التي لم يبق فيها شيء من الوحي، أو ربما أصبح أتباعه أقلية قليلة في ركن ما من العالم..
وعندما يأتي أحدنا من أجل أن يعلن نفسه ثائرا على الواقع القائم، في ظرف مختلف يحتاج إلى المداراة، أو التقية والصبر والتحمّل، فإن الثّورة تصبح مغامرة وعبثا لا ينفع المؤمنين ولا يفيد الإسلام بقدر ما يؤذيهم. إن هذا يعني أن الحسين ثار عندما أصبحت الثورة ضرورة، لأن مصلحة الاسلام واستمراره كانت تحتاج إلى ذلك. وبديهي أن مصلحة الإسلام ومصلحة الإنسان شيء واحد.
معروف الحسين الذي أسداه للإنسانية كلها لا يعترف به، اليوم، إلا قلة قليلة.. لكن عندما تثمر ‫‏شهادة الحسين بشكل كامل سيعترف له الجميع بالفضل الكبير. كان معروف الحسين عظيما لأنه أحيى دينا إنسانيا كان مهددا بالفناء. ولذلك قال عنه النبي: "حسين مني وأنا من ‫حسين. أحب الله من أحب حسينا. حسين سبط من الأسباط"، فهو يقول: "وأنا من حسين!". كانت ثورة الحسين ولادة ثانية للنبي ودينه.
وإذا كان الحسين، بثورته، قد أعطى للإسلام حياة ثانية، فإن مسؤولية المؤمنين بخطه، اليوم، هي حماية تلك الثورة في رؤيتها وقيمها، لا من خلال الكلمات التي تلقى هناك وهناك فحسب، وإنّما من خلال الالتزام بتلك الرّؤية في النظر والفكر، وتَمثُّل تلك القيم في الفعل والممارسة.
ـــــــــــــــ
*ولد الإمام الحسين بن علي يوم 3 شعبان 4 هـ الموافق  لـ 8 يناير 626 م بالمدينة المنورة، واستشهد يوم 10 محرم 61 هـ الموافق لـ 10 أكتوبر 680م في كربلاء.






السبت، 1 أكتوبر 2016

حروب ما بعد الحداثة







قاسم محمد


هناك فَرْق بين الحداثة والمعاصرة. الثانية لا تشير إلى أكثر من المعنى الزمني. فهي تعنى المزامنة، أو معايشة الحاضر بالوجدان والسُّلوك والإفادة من كلّ منجزاته العلميَّة والفكريَّة. أما الحداثة فإنها تحيل إلى فكر معين وإيديولوجيا. هي لا تشير إلى الحداثة الغربية التي جاءت في حقبة زمنية تلت عصر النهضة وامتدت إلى بداية القرن العشرين، بقدر ما  تشير إلى الحمولة الفلسفية والفكرية والدينية والعلمية والفنية التي طبعت تلك المرحلة. الحداثة الغربية هي إيديولوجيا الغرب. لكن حداثة الغرب ليست واحدة في ظاهرها. فهناك حداثة ألمانية وأخرى فرنسية وثالثة إنجليزية.. الخ. وهو ما يعني أن كل أمة يمكنها أن تنجز حداثتها الخاصة.
أما ما بعد الحداثة، فهي الحقبة التي تَلَتْ مرحلة الحداثة منذ بداية القرن العشرين وهي مستمرة حتى الآن. وأهم معالمها أفكارُ الموت والنهاية وإطلاق الغرائز والكفر بكل شيء؛ الإله والإنسان والقيم والأخلاق.. رؤية تمزج بين العدمية والكلبية والبراغماتية. وكل تلك الشعارات عن الحرية وحقوق الانسان والتنمية والبيئة ليست إلا أحابيل لتبرير التدخل والحروب والقتل والنهب. لكن ما بعد الحداثة ليست خالية من الدين. بل إن جوهرها دين، كما هو شأن أية فلسفة. وذلك الدين هو دين عبادة الشيطان. هذا الأمر لم يعد سرا. فقد أصبحت لذلك الدين، منذ عقود، معابد ورموز وأتباع في كل مكان من العالم. بل إن المسلة الفرعونية، التي ترمز إلى الشيطان واتخذ منها النورانيون شعارا، أصبحت منتصبة في أهم عواصم العالم.
وحروب ما بعد الحداثة هى الحروب الاستباقية التى تهدف إلى إجهاض قوة الخصم قبل استكمال نموها. وهي الحروب التي تقوم عليها فلسفة الإبادة والاستيطان  كما حدث للهنود الحمر في أمريكا والفلسطينيين بعد نكبة 1948، وكما يحدث لبعض العرب، مثل السوريين واليمنيين، منذ بداية 2011.
حروب ما بعد الحداثة الأمريكية ليست إلا تطبيقا للمضمون الفكري لما بعد الحداثة. أي إنها لا تريد شيئا أقل من قتل الإنسان والقيم وإنهاء العالم. شر مطلق يراد تعميمه. تؤمن المؤسسات الأمريكية والصهيونية الحاكمة بفكرة النظام العالمي الجديد. هم يريدون إعادة تشكيل العالم لتكون هناك حكومة عالمية واحدة عاصمتها القدس. تُلغى حينها الدول والحكومات والحدود والجوازات ليكون هناك شيء واحد اسمه الحكومة العالمية.
حروب ما بعد الحداثة قد يسميها آخرون الحروب الجديدة. في العقود الماضية نشبت حروب كثيرة. نتائجها كانت متشابهة: تقسيم دول على أسس عرقية ودينية، أو الإبقاء عليها كما هي، ولكن مع نهب ثرواتها وتكريس تبعيتها من خلال حكام فاسدين.. النموذج الأوضح هو دول البلقان ودول القوقاز في آسيا الوسطى التي استقلت بعد سقوط الاتحاد السفياتي.
تخضع الشعوب لأكبر مقاولة سياسية يستخدم فيها خطاب الهوية أداة للتقسيم. والهوية هنا مشترك ثقافي له تمظهرات متعددة قد تكون دينا أو مذهبا أو لغة أو إثنية.. هذه الهوية استخدمت أداة للتقسيم ولكنها أيضا تستخدم للوصول إلى السلطة. الأحزاب اليمينية المتطرفة في أوروبا تفعل ذلك، لكنها ليست المثال الوحيد.
والسياسة على قاعدة الهوية لا تريد تجميع الناس وكسب عقولهم وقلوبهم، وإنما تريد التصفية من أجل التخلص من المختلف ثقافيا أو إثنيا من خلال الفرز والتهجير والتطهير والقتل الجماعي. فهي سياسة إقصائية تتناقض مع السياسة القائمة على الولاء السياسي أو الأيديولوجي، ولا معنى للقيم الإنسانية لديها. ومثالها ما حدث في يوغسلافيا ودول إفريقية عديدة.
الحرب اليوغوسلافية، في التسعينيات، استعادت، في بعض جوانبها، أساليب حروب ما قبل الحداثة حيث تمت التعبئة على أساس الهويات والعصبيات، واستخدمت المليشيات وتم استهداف المدنيين على أوسع نطاق. كان ذلك، عمل تراجعي نحو زمن تصور الكثيرون أنه انتهى. اختفت الحروب الحديثة بكل خصائصها حيث الاعتماد على الجيوش النظامية المنضبطة والأيديولوجيا الشمولية كما في حركات التحرر الوطني..
أصبحت حروب ما بعد الحداثة مهمة تقوم بها قوى غير نظامية، أو إنها تحولت إلى مزيج من القوى النظامية وغير النظامية para – military، حيث ظهرت ميليشيات ومرتزقة تقاتل هنا وهناك. وحتى الأزياء لم تعد موحدة بالضرورة والهندام صار متفاوتا. الحروب الحديثة تقوم بها الدول وقواها النظامية. كانت الدولة هي التي تحتكر القوة، بعد أن تم تجاوز ما كان حاصلا في القرون الوسطى. في الحروب الجديدة دخلت القوى المليشياوية وشركات الأمن والجيوش الشعبية.. وفي كثير من الأحيان تتم الاستعانة بالمجرمين وأصحاب السوابق واستيعابها داخل مليشيات.
كانت الحروب الكلاسيكية تتجنب المدنيين وكانت الجبهات هي الفيصل في تحقيق النصر وفق معاهدات دولية مثل معاهدي جنيف 48 ولاهاي 75. حتى حروب التحرير كانت تلتزم تلك المعاهدات رغم أن المستعمر كان، في الغالب، متحللا من أية معاهدات. ونسبة الضحايا المدنيين كانت واحد بين كل ثمانية قتلى. لكن الحروب الجديدة دخلت المدن والأحياء الشعبية وأصبحت المؤسسات المدنية مستهدفة. لم تعد هناك أية معاهدات أو اتفاقيات محترمة وأصبحت النسبة الأكبر من القتلى والجرحى من المدنيين. اضطر الناس إلى ترك بيوتهم والهجرة أو النزوح. بل إن كثيرا منهم واجه الحصار بسبب وجود مقاتلين بينهم فكانت هناك الكثير من القصص التي تروى حول المجاعات في يوغسلافيا ودول افريقية. أما المثال الحي، فهو سوريا التي يتعرض فيها المدنيون لكل تلك الأشكال من المعاناة.
لم تعد عمليات القتل الجماعي والتهجير والتجويع ممارسة تستحق الملاحقة القضائية، بل صارت شيئا عاديا. حروب ما بعد الحداثة أضحت ردة نحو ممارسات ما قبل حداثية. فقدَ القانون الدولي والمعاهدات والمواثيق حرمتها وباتت الحروب لا أخلاقية. صحيح أن الحرب مقترنة بالقتل والأسر. غير أن هناك أخلاقيات متعارف عليها مثل تحريم التمثيل الجثث وتعذيب الأسرى واستهداف المدنيين وحصار الناس وحرق المزارع وتدمير المصانع والمؤسسات.. لم تعد محترمة.
وما يجمع تلك الحروب هو أنها تحدث خارج المجموعة الغربية الرأسمالية. هي حروب في فضاءات مستباحة غربيا وأمريكيا، قد تكون دولا إفريقية أو آسيوية أو لاتينية أمريكية.. وعندما ظهرت حروب في بعض مناطق أوروبا، فإن ذلك كان من أجل تفكيك المجموعة الشيوعية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وحتى قبله. لا تحدث حرب أهلية في دولة غربية، والسبب هو أن الغرب نفسه هو من يفتعل الحروب بأشكالها المتعددة ومنها الحروب الأهلية. فليس أسهل عليه من إشعال حروب داخلية من أجل النهب والإخضاع. وتلك الحروب الداخلية هي في الحقيقة حروب أمريكية وغربية لأن أمريكا والغرب هم من يشعلها. وهم من يغذِّيها.
أما الطابع الغربي الأمريكي الناعم لتلك الحروب يتجلى من خلال الشبكة الدولية للمعلومات. وكذلك شبكات التواصل. فهناك أولا تدريب يتلقاه في أمريكا وأوروبا كثير من شباب الدول المستهدفة من أجل التحريض على العنف وإثارة الغرائز الطائفية والإثنية وتعميم الفوضى. وهناك ثانيا التمويل الضخم للأفراد والمنظمات والجمعيات والمؤسسات التي قبلت بالانخراط في المشروع الأمريكي لتعميم الفوضى والفساد والحرب. وهناك ثالثا شراءٌ لذمم الأحزاب والسياسيين الذين يمثلون شيئا وازنا داخل مجتمعاتهم. بل إن العمل داخل الجامعات والمراكز العلمية والبحثية لم يتوقف. فكل برامج تلك المؤسسات ومناهجها ومشاريعها هي ترويج للثقافة الغربية وانتصار لقيمها المزيفة.

حروب ما بعد الحداثة هي حروب أمريكا ضد الشعوب المستهدفة من أجل تدميرها أو إخضاعها. وهي حروب تدار في الأغلب من بعيد من خلال تدريب وتسليح وتمويل الجماعات الموالية ثم إرسالها على العدو الذي لن يجد أمامه سوى خيارين؛ إما الدفاع أو الاستسلام والهزيمة. وهي أيضا ليست فقط حروبا عسكرية، بل هي أيضا حروب إعلامية وثقافية واقتصادية. الفكرة الأمريكية الجديدة هي: فلنجعل أعداءنا يتقاتلون، فهذا أفضل لنا ولمصالحنا.