قاسم محمد
تحتاج الممارسة السياسية إلى بوصلة. ومن دون ذلك، تصبح ممارسة عمياء بلا
اتجاه ولا هدف. وتلك البوصلة ليست شيئا آخر غير النظرية التي تمثل الأساس الذي
يحرك السياسات الخارجية والداخلية لأية دولة، والتي قد تكون دينا كما قد تكون
أيديولوجيا. غير أن ذلك لا يعني دائما الالتزام بما يمليه الدين أو ما تقوله
الأيديولوجيا. بل إنه في كثير من الحالات يصبح الأساس النظري مجرد مبرر لسياسات النظام الحاكم.
وعندما يتعلق الأمر بالولايات المتحدة الأمريكية لا يتردد المطلعون في
الجزم بحقيقة التأثيرات المباشرة للدِّين على السياسات الأمريكية. فالدّين في
أمريكا يمثل مكوّنا رئيسيا للثقافة وجزء أساسيا موجّها للممارسة السياسية فيها
سواء كانت داخلية أو خارجية.
هيمنة البروتستانتية
يعتنق أكثر الشعب
الأمريكي البروتستانتية. ويشكل أتباع هذا المذهب ما يقرب من نصف سكان
البلاد، أي 48% عام 2012، مما يجعلها الدولة التي تضم أكبر عدد من البروتستانت. والبروتستنت
ينقسمون إلى تقليديين وانجيليين. وهناك أقليات أخرى كاثوليكية ومسلمة ويهودية ولا دينية..
تهيمن البروتستانتية على بقية الأديان. فهي المكوّن الرئيسي للبانوراما
الدينية الأمريكية. وهي التي تتبعها الشعوب المهاجرة إلى العالم الجديد منذ قرون
وأصبحت تمثل المادة البشرية الأساسية للعالم الجديد. ولم يكن غريبا أن تكون البروتستانتية المذهب
الرئيسي والأقوى الأمريكيين. فقد انحدر أكثرهم من بلدان أوروبية انتشر فيها هذا
المذهب الذي تأسس منذ انشقاق الألماني مارتن لوثر عن الكنيسة الكاثوليكية في القرن
السادس عشر.
ويُعرف عن المجتمع
الأمريكي ارتياده لأماكن العبادة بوتيرة أرفع بكثير مما هو موجود في أوروبا، مثلا، التي أصبح فيها التديّن شيئا هامشيا. تجد الكتب الدينية التي تصدر بشكل متواتر
رواجا كبيرا بين الناس. كما تجتذب البرامج التلفزيونية الدينية الملايين من
المشاهدين. والأمر ذاته ينطبق على مواقع الانترنت المزدحمة بالزوار.
وعندما هاجرت جماعات البيوريتانيين البروتستانت إلى أميركا سمَّت هجرتها حجّاً،
واعتبر أفرادها أنفسهم حجاجاً. وبعد أن نزل هؤلاء البروتستنت في ولاية ماساشوستس سنة
1620، أخذوا يغتصبون أراضي الهنود الحمر ويقتلونهم، مستندين إلى نصوص في الإنجيل.
لكن المعلن هو أن
الدولة الأمريكية دولة علمانية حيث لا توجد كنيسة رسمية مرتبطة بنظام الحكم والناس، بجميع انتماءاتهم الدينية، يستطيعون، دستوريا، الوصول إلى أي منصب سياسي أو عام. ويمكن للناس أن
يتعلموا الدِّين غير أنه لا يُدَرَّس في المدارس العامة. ويعيش أتباع كل الديانات
تحت سقف قانون واحد. فالمساواة أمام القانون حق للجميع على اختلاف أديانهم وألوانهم
من الناحية الدستورية.
سيطرت البروتستاتية التقليدية على المجتمع الأميركي الأبيض في البداية
وتميز هذا المذهب بالتركيز على الانضباط والعمل، كما انتشرت فكرة الخلاص الشخصي للفرد
من خلال جهوده.
ولم تخل الشعارات
المتداولة من إحالات دينية واضحة. فالأمة الأمريكية قدَّمها البروتستنت التقليديون باعتبارها أمة
تقف في مواجهة باقي العالم، حيث يرونها "مدينة مُشعَّة فوق التلة"، أو "الإمبراطورية
الصالحة"، و"الأمل الأفضل الأخير" للبشرية، و"أمة المخلِّص". وقدَّم هذا المذهب أتباعه
باعتبارهم امتداداً للبيوريتانيين الذي يسعون إلى استعادة صفاء الكنيسة الأولى، وبناء
أميركا باعتبارها أمة مسيحية.
لعب أتباع البروتستانتية التقليدية أدوارًا قيادية في مجالات الحياة الأميركية
المختلفة؛ الاقتصاد والسياسة والثقافة.. وهم الذين أسسوا معظم المعاهد الرائدة في البلاد
للتعليم العالي. وإليهم تنتمي العديد من العائلات الأمريكية الثرية والغنية الشهيرة
مثل عائلات روكفلر، ومورغان، وفورد، وروزفلت، وفاندربيلت، وكارنجي..
أما المسيحيون الإنجيليون
الذين بلغ عددهم 100 مليونا عام 2010، فهم لا يملكون، بخلاف الكاثوليكية، بنية تراتبية
مركزية، ولكن لديهم مجموعة منظمات يجتمعون تحت مظلتها، مثل المجلس الأميركي للكنائس
المسيحية، والجمعية الوطنية للإنجيليين، والمجلس العالمي للكنائس المسيحية.
وتملك الكنائس الإنجيلية شبكة واسعة من وسائل الإعلام المرئية والسمعية كما
تمتلك عددا كبيرا من المدراس والجامعات والمتاحف ومراكز الأسرة. تزايد نفوذ الإنجيليين
سياسيًا في الولايات المتحدة، واستطاعوا منذ سبعينات القرن الماضي السيطرة على الحزب
الجمهوري وكان هذا التيار مسؤولاً عن تحديد رئيس الجمهورية منذ جيمي كارتر عام
1976 الذي أعلن أنه ولد من جديد، حتى جورج بوش الابن سنة 2000.
يقول الإنجيليون
إنهم يهتمون كثيرا بالذات، ويؤمنون بالتحوّل أو الهداية وهو فعل ينتقل به الإنسان من
الخطيئة إلى حالة الخلاص الدائم، ويطلق على ذلك "الولادة من جديد". والإحساسُ
بالذنب والتوبة هو ما يجمع هؤلاء "المولودين"، الذين يشتركون في "المعركة
ضد الخطيئة" في المجتمع وحول العالم. ووفقًا لاستطلاع
أجراه مركز البحوث الأمريكية "بيو" عام 2013، فإن الكثير من الإنجيليين يؤمنون
أن الرب قد وهب فلسطين لليهود أكثر من إيمان اليهود الأمريكيين أنفسهم.
لقد التقى استراتيجيو الحزب الجمهوري مع
الإنجيليين، وبشكل خاص مع جيري فالويل الذي أسس سنة 1979 منظمة "الأغلبية الأخلاقية"
التي سعت إلى التحالف مع الجمهوريين، وفرض أجندتها الدينية على الحياة السياسية الأميركية،
ومن ذلك مواضيع الإجهاض والمثلية الجنسية والقيم الأسرية.
ولإقناع جمهوره من الأنجيليين بتأييد مرشح
الحزب الجمهوري، استخدم فالويل مصطلح "شراكة الحرب" التي تعني الالتقاء مع
الآخرين في نقاط محددة دون الاتفاق، بالضرورة، على قضايا كثيرة أخرى.
وكانت فترة رئاسة ريغن وبوش الأب 1980
– 1992 فترة تعلُّم بالنسبة للإنجيليين، إذ أدركوا أن الاقتصار على إيصال الرئيس إلى
البيت الأبيض ليس كافياً، وأنه يجب إيلاء الأهمية نفسها لمرشحي مجلس النواب والشيوخ.
وبالفعل تمكن الجمهوريون سنة 1994 من تحقيق فوز كاسح في مجلسي النواب والشيوخ الأميركي
للمرة الأولى منذ 1952.
التقارب اليهودي البروتستانتي
لا يخطئ المتابع ملاحظة التقارب الكبير بين البروتستنت واليهود. وهو تقارب
حدث منذ تأسيس هذا المذهب البروتستانتي لأنه حينها قلب المعادلة وأصبح العهد
الجديد يفهم على أساس العهد القديم على عكس ما تفعله الكنيسة الكاثوليكية. وأصبحت
الأولوية بذلك لما ورد في التوراة والأسفار. أصبحت العقيدة المسيحية أقرب إلى العقيدة
اليهودية والأخلاق المسيحية أقرب إلى الأخلاق اليهودية. وهذا التقارب الديني انعكس
تقاربا سياسيا.
أسس اليهود الحركة
الصهيونية في الولايات المتحدة، والحركة الصهيونية لم تكن مقتصرة على اليهود بل
إنها ضمت أيضا مسيحيين كُثر. وشكّل التراث اليهودي المسيحي المزيج الذي سيطبع
الثقافة الأميركية منذ الاستقلال بالطريقة التي أرادها الفكر الطهراني البروتستانتي
الذي جاء من بريطانيا وألمانيا التي تنحدر منها أيضا أغنى عائلة أمريكية في العالم
وهي عائلة روتشيلد التي كان لها الدور الحاسم في إنشاء الكيان الصهيوني في فلسطين
والتي تمتلك نصف ثروة العالم حسب مهتمين ومعظم بنوكه كما تمتلك أهم القنوات
التلفيزيونية وفي مقدمتها السي آن آن، وتملك أيضا هوليوود من خلال ملكيتها للأقمار
الصناعية وحقوق شراء البث، دون أن ننسى امتلاكها لورقة الدولار وشركات الأدوية والسلاح..
فهي العائلة التي كونت ثروتها من الصيرفة وتجارة الحروب حيث كانت تدعم في وقت واحد
الأطراف المتحاربة في أوروبا في القرن التاسع عشر وما تلاه..
اهتم الفكر اليهودي
المسيحي بالعهد القديم وقصص بني إسرائيل والإيمان بعصمة الكتاب المقدس بعهديه القديم
والجديد. ورأوا أن خطة الله تقتضي اتخاذ فلسطين أرضا للميعاد ومسرحاً لأهم أحداثها
ومنها مملكة الله الألفية، أو الذي أصبح يسمى بالنظام العالمي الجديد. وهي المملكة
التي سيكون مركزها القدس حيث سيتم بناء الهيكل المزعوم.
وحسب الكاتبة الأميركية
غريس هاليسل في كتابها "يد الإله"، فإن هرتسل مؤسس الحركة الصهيونية لم يكن
صاحب فكرة تأسيس إسرائيل في فلسطين، وإنما كان دعاتها هم المسيحيون البروتستانت في
بريطانيا وأميركا قبل ثلاثة قرون، عندما جعل مارتن لوثر زعيم حركة الإصلاح الكنسي في
القرن السادس عشر توراة اليهود والأسفار التي تسمى العهد القديم الجزء الأهم من الكتاب
المقدس. واستشهدت بحديث ينسب إلى السير أوليفر كرومويل راعي الكومنولث البريطاني قال
فيه: "إن الوجود اليهودي في فلسطين هو الذي سيمهد للمجيء الثاني للمسيح".
ولا شك أن اليهود يتحدثون عن مسيحهم هم، وليس عن مسيح النصارى ورسولهم عيسى بن
مريم.
ورغم النسبة القليلة لليهود في أمريكا
فإنهم استطاعوا التغلغل في مؤسسات الدولة. وأصبحت لهم سطوتهم المالية وقدرتهم على
إقامة تحالفات مع كبار رجال المال والسياسة والثقافة..
شعر بنيامين فرانكلين، أحد مؤسسي الاستقلال
الأميركي، بالخطر اليهودي على أميركا، وألقى كلمة في المجلس التأسيسي الأميركي عام
1789 حذَّر فيها من خطر تكاثر اليهود وقال: "لا تظنوا أن أميركا نجتْ من الأخطار
بمجرد أنها نالت استقلالها، فهي ما زالت مهددة بخطر جسيم لا يقل خطورة عن الاستعمار...
وهذا الخطر سوف يأتينا من جراء تكاثر عدد اليهود في بلادنا... لأنهم أبالسة الجحيم
وخفافيش الليل ومصاصو دماء الشعوب".
لكن تحذيرات فرنكلين لم يكن لها أي صدى
وسرعان ما تبلور التحالف اليهودي المسيحي لتظهر الصهيونية المسيحية في المجتمع والإدارة
من داخل البروتستانتية الإنجيلية ولتتكون اللوبيات اليهودية التي أصبحت تحكم العالم
وليس فقط أوروبا وأمريكا.
أصبحت المسيحية الصهيونية من خلال
المؤسسات الرديفة لها والتابعة، مثل الآيباك، تملك القدرة على الضغط والتأثير بشكل
واسع في السياسات الأمريكية. وكان صعود هذا التيار قويا في الولايات المتحدة مع مجيء
رونالد ريغان إلى البيت الأبيض حيث تم التزاوج بين اليمين السياسي الأميركي ممثلاً
بالحزب الجمهوري واليمين المسيحي من أجل إحياء الحرب الباردة والتسابق بصناعة أسلحة
حرب النجوم. وأصبح الاتحاد السوفيتي في خطاب ريغان والمسيحية الصهيونية يسمى "إمبراطورية
الشر".
وعندما جاء بيل كلينتون
إلى موقع الرئاسة احتل اليهود أعلى أول خمسين منصباً في الإدارة الأميركية. ووصل التحالف
بين اليمين السياسي الأميركي واليمين الديني ممثلاً بالمسيحية الصهيونية وبالمحافظين
الجدد، الذين كانوا في معظهم من اليهود، ذروته في كانون الثاني 2001 بتولي بوش الابن
منصب الرئيس، فقد كان لمنطقة "حزام الكتاب المقدس" دور في التصويت له، فقد
صوت له أكثر من سبعين مليون أميركي في سنة 2000 يصفون أنفسهم بأنهم "مسيحيون ولدوا
من جديد".
سعى بوش للالتزام
بأجندة الأصولية المسيحية، التي كانت تتضمن على مستوى السياسية الداخلية قضايا حظر
الإجهاض، وقراءة الإنجيل في المدارس العامة، تنطلق على مستوى السياسة الخارجية، على
أساس إيمان هؤلاء الإنجيليين بأن نهاية العالم ستكون قريبة، وأن الشرق الأوسط سيدخل
سلسلة حروب تمهيداً لمعركة هرمجدون بين العرب واليهود والتي يجب أن تفوز إسرائيل فيها،
ليسهلوا على المسيح بناء مملكة الله في فلسطين “إسرائيل” عند مجيئه الثاني.
كان هناك توافق في
معتقدات هؤلاء الإنجيليين مع غزو العراق، أو بابل كما في التوراة، باعتباره ممهداً
لهرمجدون حسب سفر الرؤيا، حيث شُنّت الحرب على العراق في 20 مارس 2003 بدعوى امتلاكه
أسلحة دمار شامل، وتم بذلك إشعال الفتنة الطائفية ليس في العراق وحده وإنما في
المنطقة كلها خدمةً لإسرائيل والصهيونية العالمية وقصة "هيرمجدون التوراتية".
وعلى هذا النحو
استطاع اليهود اختراق المسيحية في البداية بتأسيس مذهب جديد هو المذهب البروتستاني
ثم بعد ذلك بإنشاء تيار انجيلي يتبنى كل الأطروحات اليهودية حول الدولة اليهودية
وبناء الهيكل ومعركة هرمجيدون وظهور "المسيح اليهودي" الذي يعتبره
الكاثوليك والأرثودوكس والمسلمون عدو المسيح. وهذا يعني، في النهاية، أن السياسات
الامريكية مرتهنة بشكل كامل لمقولات دينية توراتية. لكن ذلك ليس كل شيء لأن وراء
تلك المقولات التوراتية التي يتم الترويج لها والعمل من أجلها هدف آخر أكثر خطورة..