الثلاثاء، 19 سبتمبر 2017

حرب الأفكار.. أمريكا وفوبيا الإسلام




قاسم شعيب

هل توجد، حقّا، حرب أمريكية على الإسلام؟ لا يمكن نفي ذلك بعد أن قال هنتنغتون منذ بداية التسعينيات في كتابه "صدام الحضارات" إن العدو الجديد للغرب بعد سقوط الشيوعية هو الإسلام، وبعد أن اعتبر أستاذه برنارد لويس أن "الصراع مع الإسلام هو صراع حضارات وأنه صراع تاريخي مؤكَّدٌ مع التراث اليهودي المسيحي للحضارة الغربية ومع تراثها العلماني وتوسّعهما معا"، وهو ما ردده مفكرون وكُتّاب أمريكيون كُثر.. غير أن ذلك ليس كل شيء بكل تأكيد.
الإسلام، في نظر الغرب، طاقة جبّارة. وإذا استطاع المسلمون أن يحْمِلوه في عقولهم وقلوبهم فسيشكّلون أكبر خطر يهدّد ثقافته وموقعه ووجود الكيان الذي يحرسه. ولأجل ذلك بدأ العمل، منذ ثلاثة عقود، على إنتاج "إسلام جديد" يناسبه.
إن موجة الكُتّاب، الذين أصبحوا، فجأة، متخصّصين في الإسلاميات، ليست اعتباطية، بل إنها جزء من "حرب الأفكار" التي تحدث عنها وزير الدفاع الأمريكي السابق دونالد رامسفيلد حين قال بعد غزو العراق: "نخوض حرب أفكار مثلما نخوض حرباً عسكرية... وتلك الحرب تستهدف تغيير الوعي، ومن الحتمي الفوز فيها وعدم الاعتماد على القوة العسكرية وحدها"، والتي أكدها الرئيس السابق باراك أوباما، الذي قال في كتابه "جرأة الأمل": "إن أمريكا تخوض في الشرق الأوسط صراعاً مسلحاً، وتخوض في الوقت نفسه حرب أفكار".
كل أولئك الذين ينظِّرون لتأويل القرآن ونسبية الحقيقة وتاريخية النص الديني والقراءة المعاصرة والإسلاميات التطبيقية وروح الحداثة.. هم في الحقيقة جزء من العدَّة الأمريكية لصناعة ذلك الإسلام الجديد بوعي منهم أو دون وعي. لم تعد النَّزعات السّلفية والوهّابية تستقطب إلا العوام، وهي مصمّمة فقط للاستقطاب والتجييش. أما المثقفون والطلبة والنّخب الأكاديمية المؤثرة، فإنهم يحتاجون نوعا آخر من الإسلام. وهو ما تم تأمينه على مدى ثلاثة عقود من الزمن.
عندما نجد كتَّابا يعتبرون القصص القرآني أساطير والمحرّمات الإسلامية تاريخية ومؤقتة والمثلية السدومية جائزة والإدمان لا مشكلة فيه والربا حلال، وعندما يصبح النبيّ مجرّد رجل عبقري والوحي إيحاء نفسي وشريعة الإسلام غير صالحة وأصول الدين خرافات.. لا يمكننا إلا أن نتوقع وجود جهات تدفع الكثير من المال لترويج أفكارها وإظهارها أمام الناس في شكل مفكّرين كبار وفلاسفة حتى أن بعضهم ممن لا علاقة له بالدين تحوّل إلى مفتٍ يسأله الناس عن شؤون دينهم فيجيب. والمفارقة هي أن يجد الأمريكيون في بعض اليسار العربي ضالّتهم. فأكثر الذين يسمّون أنفسهم اليوم مفكرين ويشتغلون على نصوص الإسلام هم يساريون متحوّلون إلى النيوليبرالية. قلّة منهم منحدرة من أصول سلفية أو صوفية أو إخوانية..
بل إننا نرى، اليوم، ماهية ذلك الإسلام الذي أصبحت تقدّمه بعض حركات "الإسلام السياسي" والتي باتت تتبنى نسخة مخففة "light" تتوخى الذرائعية وتبرّر للفساد وتشرع للتطبيع على نحو ما نرى لدى الرئيس التركي أردغان الذي يقدم نموذجا لما يريده الغرب؛ طلاءً دينيا لنظام رأسمالي ليبرالي يبيح كل شيء ولا يخجل من التطبيع مع الصهيوني.. وهو الأمر ذاته الذي تسير عليه حركة النهضة في تونس. نتذكر، مثلا، تصريحات رئيسها راشد الغنوشي المؤيدة للسدومية المثلية، وتصويت كتلته لصالح تخفيض الضرائب على الخمور المستوردة ومنع تجريم التطبيع وأخيرا تبييض الفساد.. أصبح كل شيء مبرّرا لدى هذا التيار، ولم يعد هناك شيء اسمه حرام لا في السياسة ولا في الاجتماع ولا في الحياة الخاصة.
يريد الغرب ثرواتنا وأرضنا، ويريدنا أن نبقى تابعين خاضعين. والمدخل الأساسي لذلك هو عقولنا. وهو يفعل الكثير من أجل ذلك. لا يمكننا تجاهل الدعم السّخي لمنظمات المجتمع المدني في بلادنا، ولا يمكننا تجاهل دعمهم للأحزاب الموالية لهم والعمل على إيصالها إلى سدّة الحكم لتكون هي المسهّل لتنفيذ مخططاتهم، ولا يمكننا تجاهل المنصّات الإعلامية الضخمة التي أنشأوها بأموال عربية.
الخطوة الأولى كانت صناعة إسلام يناسب الأمريكيين ومَن وراءهم، والخطوة الثانية صناعة ثورات سمّوها "ربيعا عربيا"، كما صرح جيمس وولسي الأمريكيين رئيس الاستخبارات الأمريكية السابق سنة 2006 حين كشف عن مخططات أمريكا لتفجير الشرق الأوسط وإعادة احتلاله. حينها قال وهو يتحدث عن العرب والمسلمين: "سنصنع لهم إسلاما يناسبنا ثم نجعلهم يقومون بالثورات فيتم انقسامهم على بعض لنعرات تعصبية ومن بعدها قادمون للزحف وسوف ننتصر". وهو كلام يوضح كلاما سابقا صدر عنه سنة 2003 يقول فيه: "إذا نجحنا في "تحرير العراق" سننتقل إلى سوريا وليبيا والآخرين ونضغط عليهم لمحاولة تغييرهم. آل سعود ومبارك سيأتون إلينا ليقولوا نحن متوترون جدا جدا ونحن سنقول لهم: جيّد Good، نحن نريدكم متوترين، نحن نريدكم أن تعرفوا أنه الآن وللمرة الرابعة خلال المائة سنة هذه الدولة وحلفائها (يقصد أمريكا) قادمون للزحف وسوف ننتصر".
العبث بالإسلام والإطاحة بالأنظمة وتعميم الإرهاب ليست إلا مقدمات للاجتياح الذي تعد له أمريكا لإعادة احتلال الأرض العربية وتقسيمها على أسس جديدة. وعندما تقول هيلاري كلينتون: "إن الحرب الأهلية السورية جيّدة لإسرائيل"، فإن ذلك يعني أن الارهاب مصنوع وأن استهداف سوريا بعد العراق وليبيا ودول أخرى بإشعال حروب داخلية ليس إلا مقدمة لشيء أكثر خطورة بكثير.
إننا لا نقول، هنا، تخمينات، بل إننا نَنْقل ما صرّح به أمريكيون كانوا في موقع السلطة. جيمس وولسي James Woolsey، الذي أتينا على ذكره قبل قليل، قال في محاضرة له في أفريل 2003 في جامعة كاليفورنيا بلوس أنجليس: "إن الولايات المتحدة مقبلة على خوض الحرب العالمية الرابعة (الثالثة). أما الهدف هذه المرّة فهو العالم الإسلامي، وصولاً الى إعادة رسم خارطته... وهذه الحرب هي ضد ثلاثة أعداء: نظام الملالي في إيران والأنظمة الفاشية في كل من العراق وسوريا، والمتشددين الإسلاميين في كل مكان". ثم قال: "سنقوم ببناء شرق أوسط جديد وسينقلب الحكّام في بلاد مثل مصر والسعودية..".
وبالفعل، فقد تم احتلال العراق وتفكيكه وإخضاعه للإرهاب اليومي. واليوم، هم بصدد تدمير سوريا واستهداف حركات المقاومة في فلسطين ولبنان وأماكن أخرى. أما مصر فإنهم عبثوا بها ولا يزالون، بينما يعيش السعوديون آخر أيامهم.. سنكون مكابرين لو أنكرنا النجاح الذي يحققه الأمريكي في تحويل خطته إلى واقع. قالوا قبل أكثر من عقد أنهم سيصنعون لنا ثورات ويدمّرون دولا ويعمّمون الإرهاب. وها هم ينفذون مخططاتهم بالدقة المطلوبة.
بات الصراع، اليوم، بين الإسلام والغرب صراعا حضاريا. وهو ليس صراعا بين الإسلام والمسيحية التي توارت منذ انتصار فكر الحداثة وقيمها. لم يعد الغرب مسيحيا، في غالبيته، كما أكّد آخر إحصاء أجرته مؤسسة غالوب الدولية، ونسبة الملحدين وغير المتديّنين والوثنيين أصبحت تزيد عن نصف شعوبه.. في بريطانيا هي 66%، وفي ألمانيا 54%، وفي هولندا 66%، وتصل في السويد الى 76%، وفي كندا 53%..
عرف الغرب أن نقطة قوّة العرب هي الإسلام، فلم يكتف بحروبه العسكرية ضدهم، بل فرض عليهم حرب أفكار بهدف تجريدهم من الطاقة المعنوية الهائلة التي يقدمها لهم هذا الدين ومحاولة إبعادهم عنه بمحتواه القيمي والإنساني ونظامه الاقتصادي والاجتماعي العادل، تمهيدا لإخضاعهم بالكامل. فَهْم هذه الحقيقة هو شرط الانتصار في هذه الحرب.






ليست هناك تعليقات: