الثلاثاء، 27 فبراير 2018

فوكوياما: العرب والديمقراطية المستحيلة!





قاسم شعيب


يستمد فرانسيس فوكوياما، القادم من مطبخ الخارجية الأمريكية، أهميته من قوة بلاده ومن الكمّ الهائل من المعلومات المتوفرة لدى وزاراتها، وأجهزتها المختلفة، ومؤسساتها المتنوعة. وهو ليس فيلسوفا بالمعنى التقني، بل مجرد موظف سام احترف الكتابة السياسية، ويملك وجهة نظر تتضمن نظرة استشرافية خاصة للمستقبل، ولكنها تتضمن أيضا عناصر تتبناها الإدارة الأمريكية وتمثل أجندات يتم العمل عليها، وهو ما نستطيع أن نلمحه من خلال مسار الأحداث ومن خلال تصريحات السياسيين الأمريكيين. ومع ذلك نحتاج إلى قراءة أفكاره بشكل نسبي وفي اتجاهات متعددة.
كان مدير مركز "تطور الديمقراطية وحكم القانون" في جامعة ستانفورد يعتبر أن الديمقراطية ليست وجبة سريعة يمكن الحصول عليها في وقت محدود، بل هي مسار طويل. والمثال الذي يقدمه فوكوياما هو ثورات 1848 فيما عرف بـ"الربيع الأوروبي" الذي استغرق 70 سنة كي يتماسك ويثمر. ويؤكد ذلك ما يشهده العالم اليوم من ركود ديمقراطي وتحلل قيميّ واسع حتى داخل العالم الغربي نفسه بعد توسع الإرهاب وتقلص الحرّيات الفردية.
لكن ما يمثل مفارقة كبرى إلى درجة الانفصام هو حديثه، في محاضرته الأخيرة في دبي، عن ما سمي بـ"الربيع العربي" واستحالة أن ينتج ديمقراطية حقيقية ما عدا المثال التونسي الذي قال إنه سيكون وحده من إفرازاته الإيجابية. كان الرجل يتحدّث عن حتمية الديمقراطية وضرورة تعميمها ولو بالقوة ولكنه اليوم يتراجع نحو ليقول باستحالة ذلك!
من الممكن أن يكون فوكوياما قد راجع فكرته وتبيّن له أن الديمقراطية تحتاج قبل كل شيء أسسا فكرية وثقافية هي مفقودة اليوم لدى غالبية العرب الذي لا يزالون يرابطون داخل منظومة من القيم التقليدية التي لا يمكن الفكاك منها بتلك السرعة التي يتخيلها الكثيرون. غير أننا لا نميل إلى ذلك بقدر ما نرى في كلامه انكشافا للمخطط الأمريكي الأوّلي الذي استخدم الديمقراطية شعارا للمخاتلة والخداع. فما نراه هو ضمور الديمقراطية واستفحال الممارسات الأمريكية الخالية من أية قيم تجاه الشعوب الأخرى بسبب تركيزها على افتعال الحروب ورعاية الإرهاب ونهب الثروات..
حاول فوكوياما، في البداية، الربط بين الديمقراطية و"الربيع العربي"، متجاهلا مسارات أخرى في أكثر من بلد عربي ومسلم، قبل أن يطلق فكرته عن استحالة إنتاج "الربيع العربي" لديمقراطية. قد نقرأ في ذلك انكشافا للأهداف الأمريكية الحقيقية. ففي البداية تحدثوا كثيرا عن ترويج الديمقراطية في العالم العربي. واليوم تبدّل الخطاب بعد أن حصل التغيير في أكثر من بلد عربي. تم إدخال العرب في حروب داخلية مفتعلة، وبدأ فوكوياما بالحديث عن استحالة الديمقراطية في العالم العربي. وهذا ما يفسر التناقض الظاهري مع فكرته السابقة التي تؤكد عن حاجة الديمقراطية للوقت الكافي حتى تنضج.
بإمكاننا أن نقرأ موقفا أمريكيا من خلال كلمات فوكوياما. فهناك دائما مساران؛ الأول فكري تنظيري، والثاني سياسي عسكري يضبطان السلوك الأمريكي وأهدافه. وعندما يتعلق الأمر بالعرب فإن الهدف الأول هو الهيمنة والإعاقة لمنع أي تقدم عربي في أي مجال من المجالات حتى لو كانت الحروب والإرهاب هي وسائل تلك الإعاقة. ليست المسألة فقط نظرة سلبية للعرب، بل هي بالأساس قرار بمنعهم من تحقيق أي شيء لأن أية نهضة عربية حقيقة تمثل خطرا مؤكدا على الهيمنة الأمريكية والكيان الذي ترعاه في المنطقة.
يستثني فوكوياما تونس من هذه الرؤية ويرى أنها البلد الوحيد من بلدان "الربيع العربي" الذي أنتج ديمقراطية. قد تبدو هذه نظرة واقعية وإيجابية لا ينفرد بها وحده. لكنها تبقى رؤية من الخارج. والذين بإمكانهم تقييم الواقع هم الذين يعيشونه من الداخل.
بعيدا عن العواطف، يتساءل المهتمون في تونس عن إمكانية الحديث عن ديمقراطية في بلد بات يعيش على أموال قروض البنوك الدولية، ويستشري فيه الفساد، ويُعفى فيه الفاسدون من المحاسبة، وتتجاوز نسبة الأمية فيه 22%، وترتفع نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر إلى 31% حسب تقرير البنك الدولي، ويلاحق فيه مدوّنون، ويُضيَّق على الأحزاب الصغيرة، ويُخترق فيه أمن البلد من مخابرات دول معادية دون محاسبة جديّة للفاعلين..
صحيح أن تونس تملك نقابات قوية وحدّ أدنى من الحماية الاجتماعية، لكنها لم تصل إلى مرحلة "التصنيع" التي تسمح لها بدعم نموذج ديمقراطي على المدى الطويل. وهي تحتاج إلى قطاع خاص قوي وناجع بعيدا عن هيمنة الشركات الكبرى، والتشريعات المضرّة بالقطاعات العمومية، و"الاصلاحات" المملاة من البنوك الدولية، التي يدعو لها المحاضر الأمريكي.
تستند قراءة فوكوياما إلى ظاهر المشهد في تونس، وهي لا تلامس الواقع الحقيقي أو أنها لا تريد. فالحديث عن ديمقراطية حقيقية، كما يقول، مجازفة لا تؤيدها القرائن. والأوْلى الحديث عن خطوات على الطريق فحسب. ما يوجد في تونس هو توافق سياسي بين طرفين قويين على تقاسم الحكم في بلد كان يحتكر فيه السلطة حزب واحد قبل أكثر من سبع سنوات. وانفراط عقد ذلك التوافق وانقلابه إلى صراع يبقى شيئا وردا وقادرا على تهديد كل شيء في البلد. فهو ليس توافقا أيديولوجيّا ولا تاريخيّا بل مجرّد توافق سياسي آني وهش.
لا شك أن فوكوياما يعرف أن من يحكم في تونس اليوم هو ائتلاف بين "المنظومة القديمة" ممثلة في حزب نداء تونس و"الإسلام السياسي" ممثلا في حركة النهضة. ورغم اعترافه أن مستقبل "الإسلام السياسي" في المنطقة غير واضح حاليا، لأن ظروفا خارجية هي التي تتحكم به، إلا أنه يصرّ على الحديث عن ديمقراطية حقيقية في المثال التونسي.
هذه الأفكار المنقحة تبدو انقلابا جزئيا ونوعيا على الأفكار التي تضمنها كتابه حول "نهاية التاريخ والإنسان الأخير"، لا سيما ما يتعلق منها بالطابع الحتمي للديمقراطية. والذي يبدو هو أن المقصود بالعولمة كان عولمة الإرهاب والحروب، وليس الأمن والرفاه والحرّية. يبدو أن الديمقراطية كانت مجرّد شعار رُفع ولا يزال لاختراق المجتمعات العربية وتمرير أجندات أمريكية أكدها الآن فوكوياما دون قصد.


الاثنين، 26 فبراير 2018

الغنوشي يُقلِّد أردغان!

























 قاسم شعيب


كشفت عملية الإطاحة بـ"شبكة التجسس" التي صدمت الرأي العام في تونس أن البلاد باتت تواجه اختراقات ومخاطر حقيقية تحتاج معالجة جديّة بعد تعرض كثير من السياسيين والناشطين للاغتيال بدءا بالنائبين عن الجبهة الشعبية شكري بلعيد ومحمد البراهيمي ووصولا إلى المهندس محمد الزواري الذي اغتاله الموساد قبل عام، كما أكّدت حركة حماس، وبعد أن أصبحت أسرار الدولة مهدّدة.
هذه الشبكة، التي كشفت عنها "صحيفة الشروق" إحدى أكثر الصحف التونسية انتشارا، يقودها الفرنسي اليهودي جان جاك ديميري منذ 2011 حتى الآن، وقد تم منعه من السفر مع شريكه التونسي معز جودي. لم تعد القضية مجرد خيال بعد أن أكد المكلّف بالشؤون السياسية لحركة نداء تونس برهان بسيّس ذلك حين قال إن "المشرف على الشبكة، وهو رجل أعمال فرنسي، اخترق مستويات الحكم العليا في تونس منذ 2011 إلى 2017 وتمكن من تجنيد شخصيات سياسية من أعلى مستوى كانت تمدّه بكل ما يجري في أعلى مستويات القرار السياسي في تونس سواء في قرطاج أو في القصبة ومر من التجنيد من أجل الحصول على المعلومة الأمنية والسياسية إلى التجنيد من أجل الفعل في الحياة السياسية في تونس مساهما في نشأة وتأسيس بعض الأحزاب السياسية".
لكن الجهات القضائية لا تريد الاعتراف بحقيقة القضية في عمقها الاستخباراتي، وهي تحاول لملمتها واعتبارها قضية فساد مالي وشراء ذمم سياسية وليست تجسسا بالمعنى الأمني والعسكري، كما قالت النيابة العمومية. لا يقلل ذلك أبدا من خطورة ما حدث، لأن تغيير عنوان القضية من "التجسس" إلى "الاختراق الاقتصادي" بواسطة المال الفاسد، شجّع الاتحاد الأوروبي على إعادة تصنيف تونس من جديد بلدا لتبييض الأموال ودعم الإرهاب بعد أن سبق ووضعها على اللائحة السوداء للتهرب الضريبي في محاولة لمواصلة الضغط على الحكومة، من أجل أن تقبل بشروطه في المفاوضات الجارية منذ فترة، لإبرام اتفاق التبادل الحر الشامل الذي يهدف إلى اندماج كلي للاقتصاد التونسي في الفضاء الأوروبي، بما في ذلك القطاعات الأكثر حساسية.
تزامنت أخبار الاختراق السياسي والتصنيف الأوروبي مع إصرار البرلمان الذي تملك فيه حركة النهضة الكتلة الأكبر على منع تمرير قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني. وهو ما طرح أسئلة جدّية حول حقيقة الضغوط التي تخضع لها الطبقة الحاكمة لمنع تمرير هذا القانون.
يشعر أكثر التونسيين اليوم أن الحاجة باتت مُلحّة لسنّ قانون يجرّم التطبيع مع الكيان الصهيوني من أجل غلق كل الأبواب أمام توسّع دائرة الاختراقات السياسية والثقافية والأكاديمية وحتى المالية المضرة بمصلحة البلاد، كما حدث أخيرا.
لكنهم لا ينتظرون من هذه الحركة أن تفعل ذلك. تسير حركة النهضة على خطى أردغان البراغماتية في سياسته الخارجية. وتحاول بكل الوسائل تبرير منع تمرير قانون تجريم التطبيع، لتقول، مرة، إن ذلك من مشمولات الرئاسة التي تتدخل لمنع التطبيع، ولتتحدث أخرى عن مصالح البلاد والضرر الذي يلحقه سن مثل هذا القانون بها..
وبسبب مواقف حركة النهضة، التي لم يشعر التونسيون أنها منسجمة مع شعاراتها ووعودها الانتخابية، لم يتوقف الإعلاميون والمثقفون والنشطاء السياسيون عن نقد سلوكها وهو ما أزعج رئيسها السيد الغنوشي الذي هدّد برفع قضايا ضد كل من يتعرّض لحركته بالنقد ملوّحا بخطر الحرب الأهلية إذا استمر التحرش بها.
من الواضح أن رئيس الحركة هو الذي يمسك بقرارها السيّاسي ويقف وراء البيان الذي يلوّحُ بمقاضاة صحافيين ووسائل إعلام، وقد تأكد ذلك بعد تصريحه التصعيدي. لكن ذلك قد يخفي محاولة لجر الساحة السياسية والإعلامية إلى معركة يخطط لها الرجل أسابيع قليلة قبل الانتخابات المحلية.
لا تريد حركة النهضة أن تستمر لاعبا هامشيا في المشهد السياسي بعد استشعارها نوايا حزب نداء تونس فك تحالفه معها، مستفيدا من أجواء التنافس التي تسبق الانتخابات، والتي تسمح بالتفلُّت من التحالفات القائمة والبحث عن أية ثغرات لدى المنافسين من أجل إبرازها. بل إن المشهد الانتخابي قد يمثل فرصة لانفراد الحزب المنتصر بالحكم بعد أن استمرّت السلطة ائتلافية حتى الآن.
ربحت حركة النهضة سلامتها واستفادت من تجربة الإخوان المسلمين في مصر من خلال خياراتها السياسية البراغماتية وتحالفها مع نداء تونس، غير أنها في المقابل خسرت الكثير من أنصارها وقياداتها، ومنهم قيادات من الصف الأول مثل حمادي الجبالي أمينها العام السابق، وسط اتهامات لها بأنها تخلّت عن مبادئها الأساسية وشرعنت لعودة المنظومة القديمة إلى الحكم.
من الممكن أن تكون بوصلة حركة النهضة متّجهة بدورها إلى فك الارتباط مع نداء تونس لأن ذلك سيعفيها من تبعات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي ساعدت على توسّعها من خلال مصادقة كتلتها في البرلمان على قانون المالية الذي تسبب في اندلاع احتجاجات.
اعتقدت النهضة أن الجلوس في المقعد الخلفي وترك السلطة لنداء تونس يعفيها من المساءلة والنقد. غير أن ذلك لم يحدث. والذي حدث هو أنها تحملت أكثر من غيرها النقد إلى الدرجة التي أقلقت قياداتها. نُظر إليها ليس فقط على أنها شريك في الحكم، ولكن أيضا على أنّها شريك في كل أزمات البلاد.
فهم خصوم النهضة شيئا حين تحدّث الغنوشي عن وجود خطر حرب أهلية يهدد البلد، غير أن رسالته وصلت إلى مؤيدين ومتعاطفين مع حركته ممن ابتعدوا عنها منذ أن اختارت النهج البراغماتي وتحالفت مع المنظومة القديمة وحاولت طمأنة الجهات الأجنبية ذات المصالح في تونس.
تحاول الحركة ترقيع امتناعها عن تمرير قانون تجريم التطبيع بخطاب تخويفي من المستقبل لتحميس الأنصار والبدء بحملة واسعة لضمان الفوز في الانتخابات المحلية بنسبة مُرجِّحة، بعكس المرّات السابقة التي قيل فيها أن النهضة لم تكن تريد اكتساح البرلمان حتى لا تحتكر المشهد السياسي ويتسبب ذلك في استنفار القوى المنافسة.
هل للأمر علاقة بالمزاج الدولي والإقليمي تجاه "الإسلام السياسي"؟ وهل تريد حركة النهضة أن ترد على الاتحاد الأوروبي الذي وصفها أنها فرع للإخوان المسلمين؟ يبدو ذلك. فالغنوشي ربما بات يشعر أن تنازلاته السابقة وأسلوبه البراغماتي لم يُجْدِ نفعا وأن الغربيين لم يعودوا متحمسين لإشراك "الإسلاميين" في الحكم.
ولأجل ذلك تريد الحركة أن تثبت قوتها الجماهرية وأنها لا تزال الحزب السياسي الأقوى والأكثر تنظيما في البلاد. ومن المهم، لتحقيق ذلك الهدف، وضع ما يمكن من أوراقها الرابحة فوق الطاولة، ومن ذلك إعادة قواعدها وأنصارها الغاضبين إلى حضنها لمحاولة تدارك الفشل في اختراق الجبهة الداخلية وإقناع الجهات الخارجية.  
ويبقى السؤال: هل يمكن للحركة استعادة ثقة الناس فيها بعد كل التنازلات التي قدمتها على حساب شعاراتها وتعهداتها القديمة؟ وإذا أمكن لها ذلك، هل يمكنها أن تواجه العواصف الغربية الداعية الى شرعنة ظواهر مرفوضة أو غريبة عن المجتمع مثل السدومية المثلية وتعاطي المخدارات الخفيفة كالقنب الهندي والمساواة المطلقة بين الجنسين؟ ألا يمكن لقيادات النهضة أن تستفيد من المثال التركي الذي بقي ممنوعا من عضوية الاتحاد الأوروبي ويجد نفسه اليوم في صراع مع القوى الغربية رغم كل التنازلات التي قدمها والإملاءات التي قبِل بها في الخيارات الاقتصادية والتشريعية وحتى الثقافية؟..


الثلاثاء، 6 فبراير 2018

أي تنوير نحتاج؟






قاسم شعيب


التنوير كلمة جميلة استخدمها الأوروبيون لوصف مشروعهم الفكري والعلمي الذي قدّمه فلاسفتهم ومثقفوهم للقطع مع ثقافة القرون الوسطى التي وُصِفت بالمُظْلمة. أمكن للغرب أن يؤسّس لرؤية سياسيّة جديدة تفصل بين الدين والسياسة كما أطلق ذلك الفيلسوف الهولندي اسبينوزا منذ القرن السابع عشر.
وبعد اسبينوزا، جاء روسو وفوتير ومونتسكيو الذين عمّقوا الفكرة وصنعوا لها أجنحة لتصل إلى أوروبا ومنها إلى العالم كله. لم تكن مشكلة الإنسان الأوروبي مع الدين ذاته بقدر ما كانت مع رجال الدّين والمشتغلين به. فالدّين عندما يكون مُحترِما للعقل وناشرا للقيم ومحبا للإنسان لا يمكن لأحد الوقوف ضده.
وإذا كان الغرب قد نجح في صناعة حضارته وبسط هيمنته على العالم فإن العرب بالمقابل لا يزالون في ذيل قائمة الأمم بعيدين عن كل تنوير أو تقدم أو إنجاز حقيقي، بعد ثلاثة قرون من إقلاع الغرب وتحقيقه لكثير من المنجزات العلمية والتكنولوجية والفكريّة والفنيّة، وإفادة أمم كثيرة من تلك الفتوحات..
من المؤكد أن ذلك ليس ناتجا عن بنية العقل العربي ولا عن معطى طبيعي يقضي بتخلف ذلك العقل كما يريد البعض القول، ولكنه ناتج بالأساس عن عوامل متعددة تجمّعت لتجعل من الواقع العربي على هذا المستوى من السوء.
انخرط الكثير من المفكّرين العرب في موجة الفكر الحداثي واعتبر بعضهم أن الحضارة الغربية نموذج يجب أخْذه كلّه ولا يجوز تقطيعه والاكتفاء بجوانب محددة منه. بينما رفضه آخرون ورأوا فيه فكرا ماديا فاسدا لا يَصلُح ويُصلِح.
لكن هاتين النظرتين خاطئتان. ثمة جوانب متعددة في كل حضارة منها ما هو علمي حضاري ومنها ما هو ثقافي ديني. وليس مطلوبا من أية أمة أن تتخلى عن دينها وثقافتها لتفيد من الآخر علميا أو حضاريا لتحقق تقدمها. إننا نرى، مثلا، اليابان كيف استطاعت أن تتقدم في أنظمتها السياسية والتعليمية والثقافية دون أن تتخلى عن دياناتها البوذية والشنتوية.. لم يصبح اليابانيون مسيحيين حتى يتقدموا ولم يحاربوا دينهم حتى يخرجوا من تخلّفهم. كل ما فعلوه هو التفكير بطريقة واقعية تحقق لهم أهدافهم.
لا يزال العرب خارج زمن التنوير بكل معانيه. وهم يحتاجون إلى الاتفاق على حزمة من القيم تكون مولدة لطاقة الدفع نحو الأمام. فمثلا لا يزال العقل في سبات، وهو لا يحكم. والذي يحكم هو مصالح ضيقة وأهواء شخصية وغرائز طائفية.. وما طرحه مفكّرون كثيرون بقي حبيس الكتب ولم يتحوّل إلى مشروع نهضة، بعد أن غلب على العرب الاستبداد ولم يتم بناء الدولة الحرّة والكريمة التي تبني مؤسساتها المنتخبة بعيدا عن التبعية للأجنبي وفساد الداخل.
لا يشكّل الإسلام عائقا أمام أية نهضة عربية حقيقية. غير أنه يحتاج إلى قراءة قيمية جديدة من خلال العودة إلى نصوصه الأساسية الموثوقة، من أجل اكتشاف جوهره الحقيقي بعيدا عن التاريخ الذي كتبه مثقفو السلطان باسمه. ليس العائق قائما في الدين الذي يؤمن به الناس بل إنه يوجد هناك في الواقع الخارجي، لدى الطبقة السياسية ومجموعات المثقفين والأكادميين المحيطين بها. فهؤلاء فشلوا في تغيير أساليب تفكيرهم المتمحورة حول ثلاثية الفرد والحزب والطائفة.
لا يزال الحاكم سجين نرجسيته الذاتية ومصالح الحزب والطائفة والجهة حتى وإن ادّعى عكس ذلك. ولم يتمكّن من كسر هذه الزنازين الثلاثة. أما مشاكل التطرف والإرهاب والطائفية فليست إلا صناعة سياسية تم اختراعها لتسهيل التحكم في الشعوب.
لا تكاد توجد رؤية تنويرية متكاملة تطرح نفسها بقوة اليوم في العالم العربي. وما هو موجود لا يزيد، غالبا، عن محاولات لطرح أفكار لم تتحوّل إلى مشاريع. يبقى التنوير مشروعا للمستقبل. وما لم يتوفر المشروع التنويري المتكامل والطبقة السياسية التي تحمِله في عقلها وتتحّمل مسؤولية تحقيقه في الواقع، فإن العرب سيبقون يراوحون مكانهم.
يتحدث المتفائلون عن وجود ثقافة تنويرية أصبحت راسخة وعميقة الجذور في العالم العربي. ويقولون إن محاولات إبداعها أو استنباتها في الأرض العربية مجرّد عبث إيديولوجي لا يفعل شيئا سوى إرباك الواقع. لكن هذا مجرّد وهم. فما نراه هو تراكم للجهل في مكان وانكفاء إيديولوجي وطائفي في مكان آخر.
لا تزال الثقافة التنويرية العاقلة التي تُجَلّي القيم وتحترم الإنسان حبيسة عقول قلّة من المثقفين. وما نحتاجه هو إخراج هذه القلة من غربتها وإعطاؤها ما تستحق من حرية ودعم من أجل إيصال ثقافتها وقيمها التي تلتزم بها إلى الناس، بعيدا عن فئة الانتهازيين والمخادعين. ولا شك أن هذه مهمة عسيرة سيكون تحقيقها شيئا جميلا.
انخدع الكثيرون بسبب ما حقّقته الطفرات النفطية من انخراط في التوجهات الاستهلاكية، والتواصل السيبرنيتيقي مع العالم، فظنّوا أننا نعيش مرحلة تنوير وحداثة عربية فاقعة كما يعيشها الغربيون. إنّ ذلك مجرد خيال. وحتى ما نراه من إنتاج فكري وأدبي لا يزيد، في الغالب، عن مجاراة لما ينتجه الغربيون.
بل إن العرب لا يمكنهم أن يثقوا كثيرا بالتنوير الغربي الذي يخضع هذه الأيام لمراجعات قاسية يقودها فلاسفة ومفكرون باتوا مقتنعين أنه فكر تسبب في كثير من الكوارث وأشعل الكثير من الحروب، وأن الشعارات التي رفها حول الحرية والحقوق تحمل نقيضها. لم يكن ذلك التنوير كاملا ولا شاملا بل كان محدودا في الجغرافيا والأفق. كان الفلاسفة الأوروبيون يؤكدون على مصالح الإنسان الغربي ولم يكن الإنسان في عمومه همّا لهم. ولأجل ذلك تم الربط بين الحقّ والقوّة كما فعل هيغل ونيتشه. فالقوي عندهما هو صاحب الحق.
بل إن قدرا كبيرا من التعصّب والخرافة والأساطير الدينية لازال يحكم العقل الغربي. وقد أكد ذلك المفكر الألماني هارالد موللر في كتابه "تعايش الثقافات" حين قال: "حتى اليوم ما يزال التزمت الدّيني، والمعتقدات الشعبية، والخيالات الدينية تتربص بكثافة شديدة تحت القشرة العقلانية لمجتمعاتنا"، و"رفض الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان موجود في حضن تاريخنا الخاص. وهذا يعني أيضا في وسط مجتمعنا الحالي".
لم يحسم الغرب أمره لصالح تنوير كامل ونهائي. وهذا شيء مرتبط جزيئا بماهية ذلك التنوير الذي لم يكن تفكيره علميا وعقلانيا بالضرورة، بقدر ما كان نفعيا وانتهازيا في أحيان كثيرة. ولأجل ذلك ظهر تيار ما بعد الحداثة الذي هاجم شعارات التنوير والعقلانية والعلمانية.. واعتبرها مخادعة وكاذبة. ودعا، بوضوح، إلى تنسيب الحقيقة والقيم في الفكر والمعرفة، واحتفى كثيرا بمركزية السوق وهينته في الاقتصاد.
لم يكن المفكر الفرنسي من أصل جزائري محمد أركون مخطأ عندما اعتبر أن عقل التنوير تجمّد في مرحلة لاحقة بعد أن استنفذ طاقته الروحية والأخلاقية وتحوّل إلى عقل توسّعي كما في تجربة الاستعمار وإلى عقل دغمائي في فرنسا بشكل خاص.
وهذا كله يؤكد الحاجة إلى بناء رؤية تنويرية ذاتية تحتفي بالعقل القيمي ولا تهمل المعطى الديني والثقافي القائم من أجل تحريره وتطهيره وتثويره ليكون المنصّة التي تنطلق منها أية نهضة قادمة.




الاثنين، 5 فبراير 2018

ماكرون وعسل إفريقية








قاسم شعيب



إفريقية هو الاسم القديم لتونس. أعطته للقارة السمراء وأخذت هي اسم عاصمتها. يعرف ماكرون ذلك وهو يريد الآن أن تكون تونس بوابته إلى إفريقيا التي يزور بعض بلدانها هذه الأيام.
يخطئ من يظن أن فرنسا تخلّت عن إرثها الاستعماري وباتت تفكّر بطريقة براغماتية قائمة على تبادل المصالح مع الآخرين بعيدا عن أوهام السطوة الثقافية. لم يكن خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أمام البرلمان التونسي خاليا من النزعة البراغماتية الممجّدة لقيم الأخوة الإنسانية والصداقة العميقة. غير أنه لا أحد يصدق أن ذلك يلامس العمق بسبب الرصيد الاستعلائي الذي عكسه التركيز اللافت على التبشير بالفرنكفونية من جديد واعتبار تونس قاعدة جديدة لتعليم الفرنسية.
يعلم ماكرون، قبل غيره، أن تلك اللغة تراجعت كثيرا على مستوى العالم ولم تعد لها أهمية العقود الماضية بعد أن أصبحت الإنجليزية لغة العلوم الطبيعية والإنسانية على السواء، وبعد أن أصبح الجامعيون الفرنسيون يتعلمون الإنجليزية إذا أرادوا ملاحقة كل جديد، وبعد أن ابتعد الشباب التونسي عن الفرنسية ولم يعد يجيد أكثر من بضعة كلمات من هذه اللغة. وهو يريد إعطاءها قوّة دفع جديدة.
 ما يهم فرنسا في تونس ليس مساعدتها على ترسيخ الديمقراطية كما قال ماكرون ولا مد يد العون لها للخروج من مأزقها الاقتصادي المستفحل. ما يهمها هو فقط مصالحها الاقتصادية وسطوتُها الثقافية. فهذه الدولة التي كانت لزمن قريب إحدى أكبر إمبراطوريتين في العالم تجد نفسها اليوم متراجعة على أكثر من صعيد. وباتت تعاني أزمة اقتصادية مستمرة وتأثير ثقافي باهت في مستعمراتها الإفريقية القديمة التي لم تعد تحمل الحماس نفسه للثقافة الفرنسية.
تشعر فرنسا أن اقتصادها وثقافتها باتت مترنحة أمام الهيمنة الواسعة للقوى الكبرى مثل أمريكا والصين والهند، وهي تحاول التمسك بخيوط التاريخ للاحتفاط بالحاضر. غير أن ذلك لا يسعفها إلا في دول لا تزال خاضعة لنمط حكم قديم لم يلحظ بعد التطورات الدراماتيكية في العالم.
تستخدم قوى كثيرة اليوم قوتها الناعمة في اقتحام ساحات عالمية جديدة سواء من خلال الإيديولوجيا أو الثقافة أو الاقتصاد. فهذه الأشكال الجديدة للتوسع تستغني عن القوة الصلبة التي لجأ إليها الأوروبيون سابقا وتفقد اليوم نجاعتها.
يريد ماكرون أن يجعل من تونس بوابته الجديدة على إفريقيا، ولذلك تم اختيارها لتحتضن قمة الفرنكفونية القادمة. وهو يعرف أنها باتت البلد الذي يحدِّق به الجميع؛ أمريكيون وروس صينيون وأتراك وخليجيون.. فهي لا تزال أرضا بكرا، وهي أيضا قريبة من ليبيا الغنية بثرواتها والجزائر الواسعة والنائمة وسط الصحراء.
ولعل الجميع أصبح يرى في تونس المكان الذي يحمل رمزية "الثورة" والتجربة "الديمقراطية" الانتقالية ومنظومة "الحقوق والحريات الجديدة"، فهذا كله يجعل لها تأثيرا معنويا على جاراتها ويمكن أن يكون ذلك رصيدا إيجابيا لتكون واسطة اقتصادية وثقافية.
لكن ذلك كله يصطدم بحقيقة الأزمة الخانقة التي تواجهها تونس ليس في الاقتصاد فحسب، بل أيضا في مجالات التعليم والثقافة والاجتماع. فالبلد يعيش ترنّحا اجتماعيا لا تخطئه العين وتذبذبا ثقافيا غير مسبوق بين تيارين أحدها يدفع نحو الارتماء بالكامل في أحضان التحلل الهوياتي والتنكر للغة العربية والانقلاب على القيم الدينية، والآخر يرفض ذلك كله ويتمسك بلغة البلد العربية وثقافته الاجتماعية وانتماءه الديني.
والمساعدات الماليّة الأوروبية أو الفرنسية لا يمكنها تقتلع البلد من محيطه وانتمائه ولا أن تنقذ الاقتصاد من أزمته. بل إنها كرّست تلك الأزمة وعمّقتها لأن الهدف لم يكن تقوية الاقتصاد بل فقط إطالة عمر المأزق لضمان استحكام الهيمنة وتأمين المصالح الاستراتيجية لفرنسا وأوروبا في تونس.. حاول الأوروبيون إخراج المسألة كما لو أنها إصرار على مساعدة تونس على مواجهة تداعيات المرحلة الانتقالية وقال ماكرون إن "الفشل التونسي هو فشل لفرنسا". وقد استطاعوا بالفعل خداع قطاع واسع من التونسيين البسطاء أو من أولئك المريدين لها.
خطب ماكرون أمام البرلمان الذي يسيطر عليه حزبان يتحملان المسؤولية عن استفحال الأزمة الإقتصادية وتزايد المديونية وتعمق المأزق الإجتماعي.. وحاول استمالة الحاضرين بكلمات مموِّهة صفق لها النواب.
تبحث فرنسا عن مصالحها وتريد تقوية اقتصادها وتعميق هيمنها الثقافية. والمسؤولية يجب أن يتحملها التونسيون سلطة ومعارضة، الطبقة السياسية والمجتمع المدني. فهؤلاء هم المؤتمنون على مصالح البلد وشعبه. وهم المسؤولون على حماية الدستور الذي توافقوا عليه والذي ينص على حماية مصالح الناس وحقوقهم والمحافظة على ثقافة الشعب وقيمه.
وزّع ماكرون الكثير من الحلوى على الحاضرين فتحدث عن حضارة قرطاج الرائدة وأشار إلى تحرير العبيد في تونس قبل فرنسا واستذكر ثورتها ولم ينس دغدغة مشاعر البعض عندما ذكر القيروان العاصمة الإسلامية.. وعندما كرّر سردية الاسلام الذي يتوافق مع الديمقراطية..
أكل أكثر النواب تلك الحلوى وأبدوا الكثير من الرضا على خطاب عرف صاحبه كيف يرمي وروده. لكنه نسي أن تلك الطبقة التي خاطبها لن تبقى في مكانها إلى الأبد وأن الأقوال وحدها لا تصنع الواقع بل يحتاج الأمر إلى الأفعال.
تبدو المساعدات المالية الضئيلة التي أعلن عنها ماكرون مجرد فخ نصبه مقابل حماية أمن فرنسا من خلال منع الهجرة السرية التي باتت تصدع رؤوس الفرنسيين خصوصا والأوروبيين عموما. فالفرنسيون يعتمدون سياسية تريد منع الآخرين من الاستفادة من ثروات حصلوا عليها بواسطة عقود خفية وغير منصفة مع حكومات دول إفريقية كثيرة. وهي سياسة لا يرفضها التونسيون والأفارقة فحسب بل يرفضها أيضا كثير من المثقفين الفرنسيين.

فقد انتقد الكاتب الفرنسي لوكليزيو، مثلا، كل المبررات التي تستند إليها الحكومة الفرنسية للدفاع عن سياستها غير مقبولة. لا يمكن نفي أن فرنسا دولة غنية بفعل ذهب إفريقيا ونفطها، وهي تتمتع بإمكانيّات كبيرة في المجال التكنولوجي الذي ساهم فيه شباب عرب وأفارقة. وبإمكانها، لذلك، أن ترد شيئا من تلك الثروة إلى طالبي الهجرة لكي يستفيدوا منها وهم الذين يعانون لكسب لقمة عيشهم، واستعادة قواهم، وتمكين أطفالهم من مستقبل أفضل، ومداوة جراحهم، وإنعاش الأمل مجددا.