قاسم شعيب
يستمد فرانسيس فوكوياما،
القادم من مطبخ الخارجية الأمريكية، أهميته من قوة بلاده ومن الكمّ الهائل من المعلومات
المتوفرة لدى وزاراتها، وأجهزتها المختلفة، ومؤسساتها المتنوعة. وهو ليس فيلسوفا بالمعنى
التقني، بل مجرد موظف سام احترف الكتابة السياسية، ويملك وجهة نظر تتضمن نظرة
استشرافية خاصة للمستقبل، ولكنها تتضمن أيضا عناصر تتبناها الإدارة الأمريكية وتمثل
أجندات يتم العمل عليها، وهو ما نستطيع أن نلمحه من خلال مسار الأحداث ومن خلال
تصريحات السياسيين الأمريكيين. ومع ذلك نحتاج إلى قراءة أفكاره بشكل نسبي وفي
اتجاهات متعددة.
كان مدير مركز "تطور
الديمقراطية وحكم القانون" في جامعة ستانفورد يعتبر أن الديمقراطية ليست وجبة
سريعة يمكن الحصول عليها في وقت محدود، بل هي مسار طويل. والمثال الذي يقدمه
فوكوياما هو ثورات 1848 فيما عرف بـ"الربيع الأوروبي" الذي استغرق 70 سنة
كي يتماسك ويثمر. ويؤكد ذلك ما يشهده العالم اليوم من ركود ديمقراطي وتحلل قيميّ
واسع حتى داخل العالم الغربي نفسه بعد توسع الإرهاب وتقلص الحرّيات الفردية.
لكن ما يمثل
مفارقة كبرى إلى درجة الانفصام هو حديثه، في محاضرته الأخيرة في دبي، عن ما سمي بـ"الربيع
العربي" واستحالة أن ينتج ديمقراطية حقيقية ما عدا المثال التونسي الذي قال
إنه سيكون وحده من إفرازاته الإيجابية. كان الرجل يتحدّث عن حتمية الديمقراطية
وضرورة تعميمها ولو بالقوة ولكنه اليوم يتراجع نحو ليقول باستحالة ذلك!
من الممكن أن
يكون فوكوياما قد راجع فكرته وتبيّن له أن الديمقراطية تحتاج قبل كل شيء أسسا
فكرية وثقافية هي مفقودة اليوم لدى غالبية العرب الذي لا يزالون يرابطون داخل منظومة
من القيم التقليدية التي لا يمكن الفكاك منها بتلك السرعة التي يتخيلها الكثيرون. غير
أننا لا نميل إلى ذلك بقدر ما نرى في كلامه انكشافا للمخطط الأمريكي الأوّلي الذي
استخدم الديمقراطية شعارا للمخاتلة والخداع. فما نراه هو ضمور الديمقراطية واستفحال
الممارسات الأمريكية الخالية من أية قيم تجاه الشعوب الأخرى بسبب تركيزها على افتعال
الحروب ورعاية الإرهاب ونهب الثروات..
حاول فوكوياما، في
البداية، الربط بين الديمقراطية و"الربيع العربي"، متجاهلا مسارات أخرى
في أكثر من بلد عربي ومسلم، قبل أن يطلق فكرته عن استحالة إنتاج "الربيع
العربي" لديمقراطية. قد نقرأ في ذلك انكشافا للأهداف الأمريكية الحقيقية. ففي
البداية تحدثوا كثيرا عن ترويج الديمقراطية في العالم العربي. واليوم تبدّل الخطاب
بعد أن حصل التغيير في أكثر من بلد عربي. تم إدخال العرب في حروب داخلية مفتعلة،
وبدأ فوكوياما بالحديث عن استحالة الديمقراطية في العالم العربي. وهذا ما يفسر التناقض
الظاهري مع فكرته السابقة التي تؤكد عن حاجة الديمقراطية للوقت الكافي حتى تنضج.
بإمكاننا أن نقرأ
موقفا أمريكيا من خلال كلمات فوكوياما. فهناك دائما مساران؛ الأول فكري تنظيري،
والثاني سياسي عسكري يضبطان السلوك الأمريكي وأهدافه. وعندما يتعلق الأمر بالعرب
فإن الهدف الأول هو الهيمنة والإعاقة لمنع أي تقدم عربي في أي مجال من المجالات حتى
لو كانت الحروب والإرهاب هي وسائل تلك الإعاقة. ليست المسألة فقط نظرة سلبية للعرب،
بل هي بالأساس قرار بمنعهم من تحقيق أي شيء لأن أية نهضة عربية حقيقة تمثل خطرا
مؤكدا على الهيمنة الأمريكية والكيان الذي ترعاه في المنطقة.
يستثني فوكوياما
تونس من هذه الرؤية ويرى أنها البلد الوحيد من بلدان "الربيع العربي"
الذي أنتج ديمقراطية. قد تبدو هذه نظرة واقعية وإيجابية لا ينفرد بها وحده. لكنها
تبقى رؤية من الخارج. والذين بإمكانهم تقييم الواقع هم الذين يعيشونه من الداخل.
بعيدا عن
العواطف، يتساءل المهتمون في تونس عن إمكانية الحديث عن ديمقراطية في بلد بات يعيش
على أموال قروض البنوك الدولية، ويستشري فيه الفساد، ويُعفى فيه الفاسدون من
المحاسبة، وتتجاوز نسبة الأمية فيه 22%، وترتفع نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر
إلى 31% حسب تقرير البنك الدولي، ويلاحق فيه مدوّنون، ويُضيَّق على الأحزاب
الصغيرة، ويُخترق فيه أمن البلد من مخابرات دول معادية دون محاسبة جديّة
للفاعلين..
صحيح أن تونس تملك
نقابات قوية وحدّ أدنى من الحماية الاجتماعية، لكنها لم تصل إلى مرحلة "التصنيع"
التي تسمح لها بدعم نموذج ديمقراطي على المدى الطويل. وهي تحتاج إلى قطاع خاص قوي
وناجع بعيدا عن هيمنة الشركات الكبرى، والتشريعات المضرّة بالقطاعات العمومية،
و"الاصلاحات" المملاة من البنوك الدولية، التي يدعو لها المحاضر الأمريكي.
تستند قراءة فوكوياما
إلى ظاهر المشهد في تونس، وهي لا تلامس الواقع الحقيقي أو أنها لا تريد. فالحديث
عن ديمقراطية حقيقية، كما يقول، مجازفة لا تؤيدها القرائن. والأوْلى الحديث عن
خطوات على الطريق فحسب. ما يوجد في تونس هو توافق سياسي بين طرفين قويين على تقاسم
الحكم في بلد كان يحتكر فيه السلطة حزب واحد قبل أكثر من سبع سنوات. وانفراط عقد ذلك
التوافق وانقلابه إلى صراع يبقى شيئا وردا وقادرا على تهديد كل شيء في البلد. فهو
ليس توافقا أيديولوجيّا ولا تاريخيّا بل مجرّد توافق سياسي آني وهش.
لا شك أن
فوكوياما يعرف أن من يحكم في تونس اليوم هو ائتلاف بين "المنظومة القديمة"
ممثلة في حزب نداء تونس و"الإسلام السياسي" ممثلا في حركة النهضة. ورغم اعترافه
أن مستقبل "الإسلام السياسي" في المنطقة غير واضح حاليا، لأن ظروفا خارجية
هي التي تتحكم به، إلا أنه يصرّ على الحديث عن ديمقراطية حقيقية في المثال التونسي.
هذه الأفكار المنقحة
تبدو انقلابا جزئيا ونوعيا على الأفكار التي تضمنها كتابه حول "نهاية التاريخ
والإنسان الأخير"، لا سيما ما يتعلق منها بالطابع الحتمي للديمقراطية. والذي
يبدو هو أن المقصود بالعولمة كان عولمة الإرهاب والحروب، وليس الأمن والرفاه
والحرّية. يبدو أن الديمقراطية كانت مجرّد شعار رُفع ولا يزال لاختراق المجتمعات
العربية وتمرير أجندات أمريكية أكدها الآن فوكوياما دون قصد.