قاسم
شعيب
كشفت عملية الإطاحة بـ"شبكة التجسس"
التي صدمت الرأي العام في تونس أن البلاد باتت تواجه اختراقات ومخاطر حقيقية تحتاج
معالجة جديّة بعد تعرض كثير من السياسيين والناشطين للاغتيال بدءا بالنائبين عن
الجبهة الشعبية شكري بلعيد ومحمد البراهيمي ووصولا إلى المهندس محمد الزواري الذي
اغتاله الموساد قبل عام، كما أكّدت حركة حماس، وبعد أن أصبحت أسرار الدولة مهدّدة.
هذه الشبكة، التي كشفت عنها "صحيفة
الشروق" إحدى أكثر الصحف التونسية انتشارا، يقودها الفرنسي اليهودي جان جاك ديميري
منذ 2011 حتى الآن، وقد تم منعه من السفر مع شريكه التونسي معز جودي. لم تعد
القضية مجرد خيال بعد أن أكد المكلّف بالشؤون السياسية لحركة نداء تونس برهان بسيّس
ذلك حين قال إن "المشرف على الشبكة، وهو رجل أعمال فرنسي، اخترق مستويات الحكم
العليا في تونس منذ 2011 إلى 2017 وتمكن من تجنيد شخصيات سياسية من أعلى مستوى كانت
تمدّه بكل ما يجري في أعلى مستويات القرار السياسي في تونس سواء في قرطاج أو في القصبة
ومر من التجنيد من أجل الحصول على المعلومة الأمنية والسياسية إلى التجنيد من أجل الفعل
في الحياة السياسية في تونس مساهما في نشأة وتأسيس بعض الأحزاب السياسية".
لكن الجهات القضائية لا تريد الاعتراف
بحقيقة القضية في عمقها الاستخباراتي، وهي تحاول لملمتها واعتبارها قضية فساد مالي
وشراء ذمم سياسية وليست تجسسا بالمعنى الأمني والعسكري، كما قالت النيابة العمومية.
لا يقلل ذلك
أبدا من خطورة ما حدث، لأن تغيير عنوان القضية من "التجسس" إلى "الاختراق
الاقتصادي" بواسطة المال الفاسد، شجّع الاتحاد الأوروبي على إعادة تصنيف تونس
من جديد بلدا لتبييض الأموال ودعم الإرهاب بعد أن سبق ووضعها على اللائحة السوداء
للتهرب الضريبي في محاولة لمواصلة الضغط على الحكومة، من أجل أن تقبل بشروطه في المفاوضات
الجارية منذ فترة، لإبرام اتفاق التبادل الحر الشامل الذي يهدف إلى اندماج كلي للاقتصاد
التونسي في الفضاء الأوروبي، بما في ذلك القطاعات الأكثر حساسية.
تزامنت أخبار الاختراق
السياسي والتصنيف الأوروبي مع إصرار البرلمان الذي تملك فيه حركة النهضة الكتلة
الأكبر على منع تمرير قانون تجريم التطبيع مع الكيان الصهيوني. وهو ما طرح أسئلة
جدّية حول حقيقة الضغوط التي تخضع لها الطبقة الحاكمة لمنع تمرير هذا القانون.
يشعر أكثر التونسيين اليوم أن الحاجة باتت مُلحّة
لسنّ قانون يجرّم التطبيع مع الكيان الصهيوني من أجل غلق كل الأبواب أمام توسّع
دائرة الاختراقات السياسية والثقافية والأكاديمية وحتى المالية المضرة بمصلحة البلاد، كما حدث أخيرا.
لكنهم لا ينتظرون من هذه الحركة أن تفعل
ذلك. تسير حركة النهضة على خطى أردغان البراغماتية في سياسته الخارجية. وتحاول بكل
الوسائل تبرير منع تمرير قانون تجريم التطبيع، لتقول، مرة، إن ذلك من مشمولات
الرئاسة التي تتدخل لمنع التطبيع، ولتتحدث أخرى عن مصالح البلاد والضرر الذي يلحقه
سن مثل هذا القانون بها..
وبسبب مواقف
حركة النهضة، التي لم يشعر التونسيون أنها منسجمة مع شعاراتها ووعودها الانتخابية، لم يتوقف الإعلاميون والمثقفون والنشطاء السياسيون عن نقد سلوكها وهو ما أزعج رئيسها
السيد الغنوشي الذي هدّد برفع قضايا ضد كل من يتعرّض لحركته بالنقد ملوّحا بخطر الحرب
الأهلية إذا استمر التحرش بها.
من
الواضح أن رئيس الحركة هو الذي يمسك بقرارها السيّاسي ويقف وراء البيان الذي
يلوّحُ بمقاضاة صحافيين ووسائل إعلام، وقد تأكد ذلك بعد تصريحه التصعيدي. لكن ذلك
قد يخفي محاولة لجر الساحة السياسية والإعلامية إلى معركة يخطط لها الرجل أسابيع
قليلة قبل الانتخابات المحلية.
لا
تريد حركة النهضة أن تستمر لاعبا هامشيا في المشهد السياسي بعد استشعارها نوايا
حزب نداء تونس فك تحالفه معها، مستفيدا من أجواء التنافس التي تسبق الانتخابات،
والتي تسمح بالتفلُّت من التحالفات القائمة والبحث عن أية ثغرات لدى المنافسين من
أجل إبرازها. بل إن المشهد الانتخابي قد يمثل فرصة لانفراد الحزب المنتصر بالحكم
بعد أن استمرّت السلطة ائتلافية حتى الآن.
ربحت
حركة النهضة سلامتها واستفادت من تجربة الإخوان المسلمين في مصر من خلال خياراتها
السياسية البراغماتية وتحالفها مع نداء تونس، غير أنها في المقابل خسرت الكثير من
أنصارها وقياداتها، ومنهم قيادات من الصف الأول مثل حمادي الجبالي أمينها العام
السابق، وسط اتهامات لها بأنها تخلّت عن مبادئها الأساسية وشرعنت لعودة المنظومة
القديمة إلى الحكم.
من
الممكن أن تكون بوصلة حركة النهضة متّجهة بدورها إلى فك الارتباط مع نداء تونس لأن
ذلك سيعفيها من تبعات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي ساعدت على توسّعها من
خلال مصادقة كتلتها في البرلمان على قانون المالية الذي تسبب في اندلاع احتجاجات.
اعتقدت
النهضة أن الجلوس في المقعد الخلفي وترك السلطة لنداء تونس يعفيها من المساءلة
والنقد. غير أن ذلك لم يحدث. والذي حدث هو أنها تحملت أكثر من غيرها النقد إلى
الدرجة التي أقلقت قياداتها. نُظر إليها ليس فقط على أنها شريك في الحكم، ولكن أيضا
على أنّها شريك في كل أزمات البلاد.
فهم
خصوم النهضة شيئا حين تحدّث الغنوشي عن وجود خطر حرب أهلية يهدد البلد، غير أن
رسالته وصلت إلى مؤيدين ومتعاطفين مع حركته ممن ابتعدوا عنها منذ أن اختارت النهج
البراغماتي وتحالفت مع المنظومة القديمة وحاولت طمأنة الجهات الأجنبية ذات المصالح
في تونس.
تحاول
الحركة ترقيع امتناعها عن تمرير قانون تجريم التطبيع بخطاب تخويفي من المستقبل لتحميس
الأنصار والبدء بحملة واسعة لضمان الفوز في الانتخابات المحلية بنسبة مُرجِّحة، بعكس
المرّات السابقة التي قيل فيها أن النهضة لم تكن تريد اكتساح البرلمان حتى لا تحتكر
المشهد السياسي ويتسبب ذلك في استنفار القوى المنافسة.
هل
للأمر علاقة بالمزاج الدولي والإقليمي تجاه "الإسلام السياسي"؟ وهل تريد
حركة النهضة أن ترد على الاتحاد الأوروبي الذي وصفها أنها فرع للإخوان المسلمين؟ يبدو
ذلك. فالغنوشي ربما بات يشعر أن تنازلاته السابقة وأسلوبه البراغماتي لم يُجْدِ
نفعا وأن الغربيين لم يعودوا متحمسين لإشراك "الإسلاميين" في الحكم.
ولأجل
ذلك تريد الحركة أن تثبت قوتها الجماهرية وأنها لا تزال الحزب السياسي الأقوى والأكثر
تنظيما في البلاد. ومن المهم، لتحقيق ذلك الهدف، وضع ما يمكن من أوراقها الرابحة
فوق الطاولة، ومن ذلك إعادة قواعدها وأنصارها الغاضبين إلى حضنها لمحاولة تدارك
الفشل في اختراق الجبهة الداخلية وإقناع الجهات الخارجية.
ويبقى
السؤال: هل يمكن للحركة استعادة ثقة الناس فيها بعد كل التنازلات التي قدمتها على
حساب شعاراتها وتعهداتها القديمة؟ وإذا أمكن لها ذلك، هل يمكنها أن تواجه العواصف
الغربية الداعية الى شرعنة ظواهر مرفوضة أو غريبة عن المجتمع مثل السدومية المثلية
وتعاطي المخدارات الخفيفة كالقنب الهندي والمساواة المطلقة بين الجنسين؟ ألا يمكن
لقيادات النهضة أن تستفيد من المثال التركي الذي بقي ممنوعا من عضوية الاتحاد الأوروبي
ويجد نفسه اليوم في صراع مع القوى الغربية رغم كل التنازلات التي قدمها والإملاءات
التي قبِل بها في الخيارات الاقتصادية والتشريعية وحتى الثقافية؟..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق