الثلاثاء، 6 فبراير 2018

أي تنوير نحتاج؟






قاسم شعيب


التنوير كلمة جميلة استخدمها الأوروبيون لوصف مشروعهم الفكري والعلمي الذي قدّمه فلاسفتهم ومثقفوهم للقطع مع ثقافة القرون الوسطى التي وُصِفت بالمُظْلمة. أمكن للغرب أن يؤسّس لرؤية سياسيّة جديدة تفصل بين الدين والسياسة كما أطلق ذلك الفيلسوف الهولندي اسبينوزا منذ القرن السابع عشر.
وبعد اسبينوزا، جاء روسو وفوتير ومونتسكيو الذين عمّقوا الفكرة وصنعوا لها أجنحة لتصل إلى أوروبا ومنها إلى العالم كله. لم تكن مشكلة الإنسان الأوروبي مع الدين ذاته بقدر ما كانت مع رجال الدّين والمشتغلين به. فالدّين عندما يكون مُحترِما للعقل وناشرا للقيم ومحبا للإنسان لا يمكن لأحد الوقوف ضده.
وإذا كان الغرب قد نجح في صناعة حضارته وبسط هيمنته على العالم فإن العرب بالمقابل لا يزالون في ذيل قائمة الأمم بعيدين عن كل تنوير أو تقدم أو إنجاز حقيقي، بعد ثلاثة قرون من إقلاع الغرب وتحقيقه لكثير من المنجزات العلمية والتكنولوجية والفكريّة والفنيّة، وإفادة أمم كثيرة من تلك الفتوحات..
من المؤكد أن ذلك ليس ناتجا عن بنية العقل العربي ولا عن معطى طبيعي يقضي بتخلف ذلك العقل كما يريد البعض القول، ولكنه ناتج بالأساس عن عوامل متعددة تجمّعت لتجعل من الواقع العربي على هذا المستوى من السوء.
انخرط الكثير من المفكّرين العرب في موجة الفكر الحداثي واعتبر بعضهم أن الحضارة الغربية نموذج يجب أخْذه كلّه ولا يجوز تقطيعه والاكتفاء بجوانب محددة منه. بينما رفضه آخرون ورأوا فيه فكرا ماديا فاسدا لا يَصلُح ويُصلِح.
لكن هاتين النظرتين خاطئتان. ثمة جوانب متعددة في كل حضارة منها ما هو علمي حضاري ومنها ما هو ثقافي ديني. وليس مطلوبا من أية أمة أن تتخلى عن دينها وثقافتها لتفيد من الآخر علميا أو حضاريا لتحقق تقدمها. إننا نرى، مثلا، اليابان كيف استطاعت أن تتقدم في أنظمتها السياسية والتعليمية والثقافية دون أن تتخلى عن دياناتها البوذية والشنتوية.. لم يصبح اليابانيون مسيحيين حتى يتقدموا ولم يحاربوا دينهم حتى يخرجوا من تخلّفهم. كل ما فعلوه هو التفكير بطريقة واقعية تحقق لهم أهدافهم.
لا يزال العرب خارج زمن التنوير بكل معانيه. وهم يحتاجون إلى الاتفاق على حزمة من القيم تكون مولدة لطاقة الدفع نحو الأمام. فمثلا لا يزال العقل في سبات، وهو لا يحكم. والذي يحكم هو مصالح ضيقة وأهواء شخصية وغرائز طائفية.. وما طرحه مفكّرون كثيرون بقي حبيس الكتب ولم يتحوّل إلى مشروع نهضة، بعد أن غلب على العرب الاستبداد ولم يتم بناء الدولة الحرّة والكريمة التي تبني مؤسساتها المنتخبة بعيدا عن التبعية للأجنبي وفساد الداخل.
لا يشكّل الإسلام عائقا أمام أية نهضة عربية حقيقية. غير أنه يحتاج إلى قراءة قيمية جديدة من خلال العودة إلى نصوصه الأساسية الموثوقة، من أجل اكتشاف جوهره الحقيقي بعيدا عن التاريخ الذي كتبه مثقفو السلطان باسمه. ليس العائق قائما في الدين الذي يؤمن به الناس بل إنه يوجد هناك في الواقع الخارجي، لدى الطبقة السياسية ومجموعات المثقفين والأكادميين المحيطين بها. فهؤلاء فشلوا في تغيير أساليب تفكيرهم المتمحورة حول ثلاثية الفرد والحزب والطائفة.
لا يزال الحاكم سجين نرجسيته الذاتية ومصالح الحزب والطائفة والجهة حتى وإن ادّعى عكس ذلك. ولم يتمكّن من كسر هذه الزنازين الثلاثة. أما مشاكل التطرف والإرهاب والطائفية فليست إلا صناعة سياسية تم اختراعها لتسهيل التحكم في الشعوب.
لا تكاد توجد رؤية تنويرية متكاملة تطرح نفسها بقوة اليوم في العالم العربي. وما هو موجود لا يزيد، غالبا، عن محاولات لطرح أفكار لم تتحوّل إلى مشاريع. يبقى التنوير مشروعا للمستقبل. وما لم يتوفر المشروع التنويري المتكامل والطبقة السياسية التي تحمِله في عقلها وتتحّمل مسؤولية تحقيقه في الواقع، فإن العرب سيبقون يراوحون مكانهم.
يتحدث المتفائلون عن وجود ثقافة تنويرية أصبحت راسخة وعميقة الجذور في العالم العربي. ويقولون إن محاولات إبداعها أو استنباتها في الأرض العربية مجرّد عبث إيديولوجي لا يفعل شيئا سوى إرباك الواقع. لكن هذا مجرّد وهم. فما نراه هو تراكم للجهل في مكان وانكفاء إيديولوجي وطائفي في مكان آخر.
لا تزال الثقافة التنويرية العاقلة التي تُجَلّي القيم وتحترم الإنسان حبيسة عقول قلّة من المثقفين. وما نحتاجه هو إخراج هذه القلة من غربتها وإعطاؤها ما تستحق من حرية ودعم من أجل إيصال ثقافتها وقيمها التي تلتزم بها إلى الناس، بعيدا عن فئة الانتهازيين والمخادعين. ولا شك أن هذه مهمة عسيرة سيكون تحقيقها شيئا جميلا.
انخدع الكثيرون بسبب ما حقّقته الطفرات النفطية من انخراط في التوجهات الاستهلاكية، والتواصل السيبرنيتيقي مع العالم، فظنّوا أننا نعيش مرحلة تنوير وحداثة عربية فاقعة كما يعيشها الغربيون. إنّ ذلك مجرد خيال. وحتى ما نراه من إنتاج فكري وأدبي لا يزيد، في الغالب، عن مجاراة لما ينتجه الغربيون.
بل إن العرب لا يمكنهم أن يثقوا كثيرا بالتنوير الغربي الذي يخضع هذه الأيام لمراجعات قاسية يقودها فلاسفة ومفكرون باتوا مقتنعين أنه فكر تسبب في كثير من الكوارث وأشعل الكثير من الحروب، وأن الشعارات التي رفها حول الحرية والحقوق تحمل نقيضها. لم يكن ذلك التنوير كاملا ولا شاملا بل كان محدودا في الجغرافيا والأفق. كان الفلاسفة الأوروبيون يؤكدون على مصالح الإنسان الغربي ولم يكن الإنسان في عمومه همّا لهم. ولأجل ذلك تم الربط بين الحقّ والقوّة كما فعل هيغل ونيتشه. فالقوي عندهما هو صاحب الحق.
بل إن قدرا كبيرا من التعصّب والخرافة والأساطير الدينية لازال يحكم العقل الغربي. وقد أكد ذلك المفكر الألماني هارالد موللر في كتابه "تعايش الثقافات" حين قال: "حتى اليوم ما يزال التزمت الدّيني، والمعتقدات الشعبية، والخيالات الدينية تتربص بكثافة شديدة تحت القشرة العقلانية لمجتمعاتنا"، و"رفض الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان موجود في حضن تاريخنا الخاص. وهذا يعني أيضا في وسط مجتمعنا الحالي".
لم يحسم الغرب أمره لصالح تنوير كامل ونهائي. وهذا شيء مرتبط جزيئا بماهية ذلك التنوير الذي لم يكن تفكيره علميا وعقلانيا بالضرورة، بقدر ما كان نفعيا وانتهازيا في أحيان كثيرة. ولأجل ذلك ظهر تيار ما بعد الحداثة الذي هاجم شعارات التنوير والعقلانية والعلمانية.. واعتبرها مخادعة وكاذبة. ودعا، بوضوح، إلى تنسيب الحقيقة والقيم في الفكر والمعرفة، واحتفى كثيرا بمركزية السوق وهينته في الاقتصاد.
لم يكن المفكر الفرنسي من أصل جزائري محمد أركون مخطأ عندما اعتبر أن عقل التنوير تجمّد في مرحلة لاحقة بعد أن استنفذ طاقته الروحية والأخلاقية وتحوّل إلى عقل توسّعي كما في تجربة الاستعمار وإلى عقل دغمائي في فرنسا بشكل خاص.
وهذا كله يؤكد الحاجة إلى بناء رؤية تنويرية ذاتية تحتفي بالعقل القيمي ولا تهمل المعطى الديني والثقافي القائم من أجل تحريره وتطهيره وتثويره ليكون المنصّة التي تنطلق منها أية نهضة قادمة.




ليست هناك تعليقات: