الاثنين، 5 فبراير 2018

ماكرون وعسل إفريقية








قاسم شعيب



إفريقية هو الاسم القديم لتونس. أعطته للقارة السمراء وأخذت هي اسم عاصمتها. يعرف ماكرون ذلك وهو يريد الآن أن تكون تونس بوابته إلى إفريقيا التي يزور بعض بلدانها هذه الأيام.
يخطئ من يظن أن فرنسا تخلّت عن إرثها الاستعماري وباتت تفكّر بطريقة براغماتية قائمة على تبادل المصالح مع الآخرين بعيدا عن أوهام السطوة الثقافية. لم يكن خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أمام البرلمان التونسي خاليا من النزعة البراغماتية الممجّدة لقيم الأخوة الإنسانية والصداقة العميقة. غير أنه لا أحد يصدق أن ذلك يلامس العمق بسبب الرصيد الاستعلائي الذي عكسه التركيز اللافت على التبشير بالفرنكفونية من جديد واعتبار تونس قاعدة جديدة لتعليم الفرنسية.
يعلم ماكرون، قبل غيره، أن تلك اللغة تراجعت كثيرا على مستوى العالم ولم تعد لها أهمية العقود الماضية بعد أن أصبحت الإنجليزية لغة العلوم الطبيعية والإنسانية على السواء، وبعد أن أصبح الجامعيون الفرنسيون يتعلمون الإنجليزية إذا أرادوا ملاحقة كل جديد، وبعد أن ابتعد الشباب التونسي عن الفرنسية ولم يعد يجيد أكثر من بضعة كلمات من هذه اللغة. وهو يريد إعطاءها قوّة دفع جديدة.
 ما يهم فرنسا في تونس ليس مساعدتها على ترسيخ الديمقراطية كما قال ماكرون ولا مد يد العون لها للخروج من مأزقها الاقتصادي المستفحل. ما يهمها هو فقط مصالحها الاقتصادية وسطوتُها الثقافية. فهذه الدولة التي كانت لزمن قريب إحدى أكبر إمبراطوريتين في العالم تجد نفسها اليوم متراجعة على أكثر من صعيد. وباتت تعاني أزمة اقتصادية مستمرة وتأثير ثقافي باهت في مستعمراتها الإفريقية القديمة التي لم تعد تحمل الحماس نفسه للثقافة الفرنسية.
تشعر فرنسا أن اقتصادها وثقافتها باتت مترنحة أمام الهيمنة الواسعة للقوى الكبرى مثل أمريكا والصين والهند، وهي تحاول التمسك بخيوط التاريخ للاحتفاط بالحاضر. غير أن ذلك لا يسعفها إلا في دول لا تزال خاضعة لنمط حكم قديم لم يلحظ بعد التطورات الدراماتيكية في العالم.
تستخدم قوى كثيرة اليوم قوتها الناعمة في اقتحام ساحات عالمية جديدة سواء من خلال الإيديولوجيا أو الثقافة أو الاقتصاد. فهذه الأشكال الجديدة للتوسع تستغني عن القوة الصلبة التي لجأ إليها الأوروبيون سابقا وتفقد اليوم نجاعتها.
يريد ماكرون أن يجعل من تونس بوابته الجديدة على إفريقيا، ولذلك تم اختيارها لتحتضن قمة الفرنكفونية القادمة. وهو يعرف أنها باتت البلد الذي يحدِّق به الجميع؛ أمريكيون وروس صينيون وأتراك وخليجيون.. فهي لا تزال أرضا بكرا، وهي أيضا قريبة من ليبيا الغنية بثرواتها والجزائر الواسعة والنائمة وسط الصحراء.
ولعل الجميع أصبح يرى في تونس المكان الذي يحمل رمزية "الثورة" والتجربة "الديمقراطية" الانتقالية ومنظومة "الحقوق والحريات الجديدة"، فهذا كله يجعل لها تأثيرا معنويا على جاراتها ويمكن أن يكون ذلك رصيدا إيجابيا لتكون واسطة اقتصادية وثقافية.
لكن ذلك كله يصطدم بحقيقة الأزمة الخانقة التي تواجهها تونس ليس في الاقتصاد فحسب، بل أيضا في مجالات التعليم والثقافة والاجتماع. فالبلد يعيش ترنّحا اجتماعيا لا تخطئه العين وتذبذبا ثقافيا غير مسبوق بين تيارين أحدها يدفع نحو الارتماء بالكامل في أحضان التحلل الهوياتي والتنكر للغة العربية والانقلاب على القيم الدينية، والآخر يرفض ذلك كله ويتمسك بلغة البلد العربية وثقافته الاجتماعية وانتماءه الديني.
والمساعدات الماليّة الأوروبية أو الفرنسية لا يمكنها تقتلع البلد من محيطه وانتمائه ولا أن تنقذ الاقتصاد من أزمته. بل إنها كرّست تلك الأزمة وعمّقتها لأن الهدف لم يكن تقوية الاقتصاد بل فقط إطالة عمر المأزق لضمان استحكام الهيمنة وتأمين المصالح الاستراتيجية لفرنسا وأوروبا في تونس.. حاول الأوروبيون إخراج المسألة كما لو أنها إصرار على مساعدة تونس على مواجهة تداعيات المرحلة الانتقالية وقال ماكرون إن "الفشل التونسي هو فشل لفرنسا". وقد استطاعوا بالفعل خداع قطاع واسع من التونسيين البسطاء أو من أولئك المريدين لها.
خطب ماكرون أمام البرلمان الذي يسيطر عليه حزبان يتحملان المسؤولية عن استفحال الأزمة الإقتصادية وتزايد المديونية وتعمق المأزق الإجتماعي.. وحاول استمالة الحاضرين بكلمات مموِّهة صفق لها النواب.
تبحث فرنسا عن مصالحها وتريد تقوية اقتصادها وتعميق هيمنها الثقافية. والمسؤولية يجب أن يتحملها التونسيون سلطة ومعارضة، الطبقة السياسية والمجتمع المدني. فهؤلاء هم المؤتمنون على مصالح البلد وشعبه. وهم المسؤولون على حماية الدستور الذي توافقوا عليه والذي ينص على حماية مصالح الناس وحقوقهم والمحافظة على ثقافة الشعب وقيمه.
وزّع ماكرون الكثير من الحلوى على الحاضرين فتحدث عن حضارة قرطاج الرائدة وأشار إلى تحرير العبيد في تونس قبل فرنسا واستذكر ثورتها ولم ينس دغدغة مشاعر البعض عندما ذكر القيروان العاصمة الإسلامية.. وعندما كرّر سردية الاسلام الذي يتوافق مع الديمقراطية..
أكل أكثر النواب تلك الحلوى وأبدوا الكثير من الرضا على خطاب عرف صاحبه كيف يرمي وروده. لكنه نسي أن تلك الطبقة التي خاطبها لن تبقى في مكانها إلى الأبد وأن الأقوال وحدها لا تصنع الواقع بل يحتاج الأمر إلى الأفعال.
تبدو المساعدات المالية الضئيلة التي أعلن عنها ماكرون مجرد فخ نصبه مقابل حماية أمن فرنسا من خلال منع الهجرة السرية التي باتت تصدع رؤوس الفرنسيين خصوصا والأوروبيين عموما. فالفرنسيون يعتمدون سياسية تريد منع الآخرين من الاستفادة من ثروات حصلوا عليها بواسطة عقود خفية وغير منصفة مع حكومات دول إفريقية كثيرة. وهي سياسة لا يرفضها التونسيون والأفارقة فحسب بل يرفضها أيضا كثير من المثقفين الفرنسيين.

فقد انتقد الكاتب الفرنسي لوكليزيو، مثلا، كل المبررات التي تستند إليها الحكومة الفرنسية للدفاع عن سياستها غير مقبولة. لا يمكن نفي أن فرنسا دولة غنية بفعل ذهب إفريقيا ونفطها، وهي تتمتع بإمكانيّات كبيرة في المجال التكنولوجي الذي ساهم فيه شباب عرب وأفارقة. وبإمكانها، لذلك، أن ترد شيئا من تلك الثروة إلى طالبي الهجرة لكي يستفيدوا منها وهم الذين يعانون لكسب لقمة عيشهم، واستعادة قواهم، وتمكين أطفالهم من مستقبل أفضل، ومداوة جراحهم، وإنعاش الأمل مجددا. 

ليست هناك تعليقات: