في بداية الانقلاب
العسكري في تركيا، تقاسم المعسكرات المتصارعان في العالم العربي الفرح والحزن. من
كان مؤيدا لأردغان كان حزينا وخائفا. ومن كان معارضا له كان فرحا مستبشرا. غير أن
المشهد سرعان ما انقلب حين بدت علامات الفشل تبدو على الانقلابيين. وهنا ظهرت فكرة
المسرحية.
ما وقع في تركيا إما
إنه فعلا مشهد تمثيلي أو أنه انقلاب أحمق سيء التنظيم أو أنه فخ وقع فيه
الانقلابيون. ليست لدينا أية أدلة على أنه مسرحية خاصة وأنّ الفكرة خرجت من معارضي
أردغان المحبطين. ومن الصعب الجزم بشيء مادمنا نفتقر إلى الأدلة القطعية. إن حجم القوة التي
تم تحريكها من الانقلابيين، حيث شارك ثلاثة جيوش اضافة الى سلاح الجو، وخطورة المغامرة
لو كانت الحركة مسرحية، يضعف هذا الاحتمال، دون أن ينفيه. كما إن موقف المعارضة والطبقة
السياسية لم يتحدث عن مسرحية، ولا نتصور أنها غبية أو حمقاء حتى يمر عليها فيلم أردغان
لو كان كذلك. فلا شك أنها متابعة لكل شاردة وواردة ولا شك أن كلا منها يملك خيطا
للمعلومة في أجهزة الدولة..
لكن يبقى احتمال أن تكون أجهزة الدولة قد تفطنت للمخطط الانقلابي واستدرجت الانقلابيين
للتنفيذ بعد الاستعداد له لاستثماره بعد إجهاضه، حتى لو كان ذلك بمشاركة جهات
خارجية كما يقال عن تدخل طيران الأطلسي أو الطيران الإسرائيلي إلى جانب أردغان، فهذا
ممكن في التكتيك السياسي.
وفي كل الأحوال لو
كان انقلابا حقيقيا، فإنه كان انقلابا أحمق. أو إنه، بالأحرى، وقع في الفخ بحسب فرضية
الاستدراج. لم يتم اعتقال الرئيس ولا رئيس الوزراء ولا رئيس المخابرات ولا الأمن ولا
أية شخصية مؤثرة داخل النظام سوى ما قيل عن رئيس الأركان. ومن الممكن أن يكون أردغان
غادر منتجعه قبل القبض عليه بسبب حصوله على معلومات عن حصول انقلاب، أو أنه كان
على علم بالمخطط مسبقا، والأمر نفسه ينطبق على بقية المسؤولين الكبار من رئيس
الوزراء إلى قادة الأمن والمخابرات.
كما أنه لم تتم
السيطرة على شبكة الاتصالات وبقيت شبكة الهواتف والانترنت ومواقع التواصل من
فيسبوك وتويتر وواتس آب وسكايب تعمل. بل حتى السيطرة على القنوات التليفيزيونية
كانت جزئية. وهو لغز آخر من ألغاز هذا الانقلاب.
نقطة التحول في
مسار الانقلاب، سواء كان مفبركا أو حقيقيا، هو دعوة أردغان الناس من خلال هاتفه
الآي فون الذي بثته قناة سي ان ان التركية، إلى الخروج إلى الشوارع. لا شك أن أردغان
يملك قاعدة شعبية واسعة، فهناك 5200000 منخرط في حزب العدالة حسب إحصاء 2011، أمّنت
له الوصول إلى السلطة والاستمرار فيها حتى اليوم وهو ما استغله، فاستجابت تلك
القاعدة، التي صدقت زعيمها، وملأت الشوارع ومنعت دبابات الجيش من مواصلة تقدمها
والسيطرة على المراكز الأساسية في الدولة.
ما يثير الدهشة هو
وقوف الأحزاب المعارضة لأردغان ضد الانقلاب بما في ذلك حزب الشعب الجمهوري. وربما
كان ذلك يعكس تفضيلا للنظام العلماني الديمقراطي رغم سيئاته على النظام العسكري
الذي خبره الأتراك جيدا بسبب تجارب الماضي أو النظام الديني الذي يمكن أن ينشأ
باعتبار انتماء الضباط الانقلابيين لفتح الله غولن.
لم يتردد أردغان
في استغلال ما حدث من أجل تنفيذ اعتقالات واسعة في صفوف الجيش وضباطه وداخل الجهاز
القضائي. حيث تم اعتقال أكثر من 6000 ضابط وفصل 3000 قاض. وإذا كان اعتقال الضباط
مفهوما، فإن فصل القضاة والتنكيل بكثير من المعتقلين لا يعكس سوى رغبة في انتهاز
الفرصة والانتقام من المعارضين. لا شك أن حكومة أردغان كانت تملك قوائم من "المغضوب
عليهم والضالين" الذين كانت تتحين الفرصة لعزلهم. لكن أن يحدث ذلك تزامنا مع
الانقلاب العسكري بتهمة التواطئ معه فهو ما يضاعف تلك الشكوك حول حقيقة الانقلاب.
لكننا من ناحية أخرى،
لا نستطيع إلا أن نقرأ ما حدث ضمن الرؤية الاستراتيجية العامة التي نتبناها. لاشك
أن أمريكا تريد اليوم زراعة الفوضى في البلاد العربية والإسلامية. فالقوة الكبرى التي
تقود العالم، لا يمكنها أن تصرح في كل مرة بما تخطط له وتفعله، بل إنها كثيرا ما
تسارع إلى نفي التهمة عن نفسها، رغم أن الكثير من مخططاتها بات مكشوفا بسبب تصريحات
يلقيها مسؤولون كبار في أجهزة المخابرات أو حتى من بعض السياسيين.
فكما تم استهداف أنظمة
موالية في السابق بسبب انتهاء صلاحيتها، فإنه لا شيء يمنع فعل الشيء نفسه مع
أردغان وحكومته. أشرنا في مقال سابق إلى تصريح رئيس المخابرات الامريكية السابق
جيمس وولسي سنة 2003 الذي قال فيه: "ان الولايات المتحدة مقبلة على الحرب
العالمية الرابعة (اعتبر الحرب الباردة حربا عالمية ثالثة). أما الهدف هذه المرة
فهو العالم الإسلامي وصولا إلى إعادة رسم خارطته". و"هذه الحرب هي ضد
ثلاثة أعداء: نظام الملالي في إيران والأنظمة الفاشية في كل من العراق وسوريا،
والمتشددين الإسلاميين في كل مكان". فالعالم الاسلامي، إذن، كله مستهدف بأنظمته
وتياراته..
وبعد ما سمي
بـ"الربيع العربي" ووصول حركة "الاخوان المسلمين" إلى السلطة
في كل من تونس ومصر والمغرب، تبيّن أن التعايش مع هذه الحركة غير ممكن، بينما
اعتبر تيار تدعمه إسرائيل داخل دوائر الحكم في أمريكا، أن الحركات والتيارات في أفغانستان
وباكستان وسوريا والعراق اليمن.. كلها منبثقة عن "الإخوان المسلمين".
ثمة قرار بالتخلص من
"الإخوان المسلمين". وتركيا ليست استثناء. فرغم أن أردغان فعل كل شيء
تقريبا من أجل إرضاء أمريكا وإسرائيل، رغم فترة الجفاء الظاهري، إلا أن الهدف الأمريكي
أكبر من ذلك بكثير. فهو يريد تفكيك العالم الاسلامي كله وإعادة رسم الخرائط. وليس
ذلك ممكنا دون إدخاله في حالة من الفوضى واللاستقرار تمهيدا لإعادة احتلاله.
لقد أعلن فتح الله
غولن، الذي اتهمه أردغان بالضلوع في تدبير الانقلاب وطالب الحكومة الأمريكية
بتسليمه، براءته من الانقلاب واحتمل فبركة أردغان له. لكننا نعلم أن غولن المقيم
في بنسلفينيا يحتفظ بعلاقات قوية مع المخابرات المركزية الأمريكية كما جاء في مقال
للواشنطن بوست التي نقلت عن مصادر استخباراتية بأن وكالة المخابرات الأمريكية عملت
في جمهوريات الاتحاد السفياتي السابق في آسيا الوسطى بالتعاون مع مدارس فتح الله
غولن التي وفرت الغطاء لـ 130 عنصرا للعمل هناك. كما أن غولن يحتفظ بعلاقات قوية
مع الحركة الصهيونية. وقد بدأ العمل ضد أردغان بعد حادثة السفينة مرمرة. وليس
مستحيلا أن تكون أمريكا قد استخدمته لتنفيذ هذا الانقلاب الذي شاركت فيه الجيوش التركية
الثلاثة باستثناء الجيش الأول.
خطأ أردغان الأكبر
هو تدخله في سوريا ودعمه للمجموعات الإرهابية التي سهل لها الدخول ونقل الأسلحة
والتمويل عبر الحدود. كان ذلك لأسباب مركبة. فمن جهة يحمل الإخوان المسلمون حقدا
قديما ضد النظام السوري منذ أحداث حماه في بداية الثمانينات، ومن جهة أخرى كان
التدخل التركي والتسهيلات التي قدمها للمجموعات الإرهابية في سوريا استجابة للطلب
الأمريكي وتجاوبا مع مخططاتها.
انتقلت تركيا من
صفر أعداء إلى صفر أصدقاء. فهي اليوم منبوذة من دول الجوار وليست مقبولة أوروبيا.
ولا شك أنها وقعت في الكمين الذي نصبه الأمريكان لها عندما دفعوها إلى استهداف
الطائرة الروسية ثم سحبوا أنفسهم وتركوا أردغان يواجه الغضب الروسي منفردا.
والاستدارة الاردغانية
اليوم نحو روسيا وإبداء الرغبة في إصلاح الأخطاء مع سوريا، من الممكن أن تكون غير
مقبولة أمريكيا. فالهدف الأمريكي في سوريا هو مواصلة الحرب إلى حين استكمال تدمير
البلد إرضاءً لإسرائيل. والدعم التركي للمجموعات المسلحة ضروري لاستمرار ذلك.
فشل أردغان في
الاحتفاط بصداقات الخارج، لكنه يزداد اليوم غرورا ويشن أوسع عمليات اعتقال وانتهاك
للكرامة البشرية ضد معارضيه من المشاركين في الانقلاب بشكل خاص. وهو الآن يريد
اعادة حكم الاعدام لتنفيذه ضدهم. لن يكون مفاجأ أن يؤدي ذلك إلى ردود فعل عكسية
لتنتشر العمليات الانتقامية ضده على أوسع نطاق. فالمعتقلون لديهم انتماءات ايديولوجية
وقومية وقبلية وحزبية ومن غير المحتمل أن يسكتوا جميعا على الإهانات التي يتعرضون
لها اليوم.
بل ربما كان ما
يفعله أردغان اليوم كمين آخر نصبه الأمريكان من أجل إدخال تركيا في فوضى واسعة
تنتهي بالتخلص منه، وإغراق البلد في مزيد من الدماء. إن ما يجري في العالم
الاسلامي اليوم يحركه مايسترو واحد هو الامبراطورية الأمريكية. لقد وضعوا الهيمنة
على المسلمين وثرواتهم وبلدانهم هدفا استراتيجيا لهم. بل إن تلك الهيمنة تريد
السيطرة على العقول أيضا من خلال العبث بالإسلام نفسه في عقائدة وأحكامه تحت
عناوين مخادعة مثل الجهاد والحداثة والديمقراطية والعولمة..
لكن هل تنجح
أمريكا في ذلك؟ ربما هي تنجح اليوم في إثارة الفوضى وتعميم الحروب. غير أنها ستفشل،
بلا شك، كما يؤكد اريك هوبسباوم مؤرخ القرن كما يسميه بعضهم. فما تريده أمريكا
يفوق قدراتها المتراجعة اقتصاديا وعسكريا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق