قاسم شعيب
لم يخترع الذين كتبوا في سيرة النبي من
المستشرقين والمستغربين أشياء من خيالهم عندما أرادوا الإساءة إلى الرسول الكريم صلى
الله عليه وآله وسلم. بل هم كانوا يلتقطون، في الغالب، روايات مختلقة أحيانا، ومزوّرة
أحيانا أخرى، مثبتة في كتب الحديث والسيرة من أجل أن يطلقوا شتائمهم نحو خاتم
النبيّين.
لم يكن الهمّ المعرفي هو المسيطر على المستشرقين
وتوابعهم من العرب والعجم عندنا، بل إن هؤلاء، في معظمهم، وربما كلهم، كانوا ولا يزالون،
مرتبطين بأنظمتهم الاستعمارية وأجهزة مخابراتها. لم تكن المسألة المعرفية حاضرة لديهم
إلا بمقدار ما يخدم مخططاتهم في مسخ عقول العرب والمسلمين وتشكيكهم في دينهم تمهيدا
للسيطرة عليهم ونهب ثرواتهم.
يظهر القرآن الكريم النبي صلى الله
عليه وآله وسلم شخصا على خلق عظيم. إنسان كامل يحمل كل صفات الجمال. كان النبي رؤوفا
سمحا عطوفا، صاحب عقل كبير. ولم يكن يلجأ للحرب إلا دفاعا عن النفس. ومع أن المنافقين
كانوا محيطين به في المدينة وحولها، وكان يعرفهم، إلا أنه لم يطردهم ولم يستهدفهم
ولم يحرمهم شيئا.
ونسبة أعمال وحشية للنبي وأخرى مناقضة للأخلاق
والدين لم يكن إلا حلقة لصناعة إسلام ضد الاسلام، أي صناعة إسلام متوحش بلا عقل ولا
أخلاق، يتكرر في كل مرحلة تاريخية.
رجل مبهم
البخاري (شوال 194 هـ - شوال
256 هـ) هو محمد بن إسماعيل بن إبراهيم بن المغيرة بن بَرْدِزبَه الجعفي البخاري. وقد
اختلف المؤرخون حول أصله فأخذ بعضهم برواية أبو أحمد بن عدي الجرجاني في كتاب "الكامل"
أن جدّه الأكبر بردزبه كان فارسي الأصل، عاش ومات مجوسيّاً. أمّا جدّه المغيرة فقد
أسلم على يد والي بخارى: يمان المسندي البخاري الجعفي، فانتمى إليه بالولاء وانتقل
الولاء في أولاده، وأصبح الجعفي نسباً له ولأسرة البخاري. وقال آخرون أنه عربي أصله
من الجعفيين. وذكروا أن جدّه الأكبر هو الأحنف الجعفي.
فهو إذن شخص مبهم، ولا يوجد اتفاق حول
أصله ونسبه. ورغم الشهرة الواسعة التي نالها، إلا أنه يبقى شخصا مجهولا كما هي حالة
الكثيرين من زعماء الدين والسياسة.
كل ما نعرفه من أصله الفارسى أنه ابن بردزبه.
اكتسب ولاء عربيا واسما عربيا كما هي العادة في ذلك العصر العباسى. ليس فى ترجمته التي
أوردها الذهبي في "سير أعلام النبلاء" معلومات عن نشأته وأسرته وحياته الاجتماعية
عدا عن رواية أو اثنتين عن عَمَاه وردّ بصره، وحفظه الحديث في الكُتّاب. كل ما هنالك
أسماء من سمع منهم الحديث، وأسماء من سمعوا منه الحديث، ومؤلفاته. وهي معلومات قليلة
لا تناسب شهرته العريضة والطاغية، ولا تتناسب مع المعلومات الكثيرة التى تملأ صفحات
عن علماء أقل منه شهرة وعاشوا قبله وبعده. بل وعاشوا قبل التدوين، ومع ذلك قامت الروايات
بتفصيل حياتهم لأنها كانت مشهورة ومعروفة وتحت أعين الناس. إن الباحث المنصف لا
يمكنه أن يقارن ترجمة الحسن البصرى، مثلا، فى العصر الأموى قبل شيوع التدوين والتى
ازدحمت صفحاتها بالتأريخ له، بترجمة البخارى. ولا يمكن أن يقارن ترجمة سعيد بن المسيب
المطولة ببضع صفحات يسيرة فى ترجمة البخارى. ولا شك أن المقصود هنا هو الترجمات الأولى
لشخصية البخارى، أي تلك التى كتبها من أدركه أو أدرك عصره، لأن من اللاحقين، ممن جاء
بعد البخاري بقرون ووصل به الأمر إلى مستوى التقديس، كتب فى "مناقب البخارى"
أشياء يعجب منها إبليس.
ليس من الطبيعي أن يعيش البخارى فى أكثر
العصور تدوينا وكتابة ثم لا يحظى بترجمة تناسب عصره وشهرته التى طغت وانتشرت بعد
وفاته. ظهر البخارى فجأة وهو يحمل ولاء عربيا واسما عربيا من أجل خدمة أهداف، اعتبرها
كثيرون مشبوهة، الضحية فيها هو الإسلام ونبيه.
كان البخاري جزء من التيار الشعوبي الذي
ظهر حينها والذي كان همّه إفساد الإسلام من خلال وضع أحاديث ومرويات كاذبة نشرها تلامذة
الهيثم بن عدى. مات الهيثم بن عدى، الذي كان هواه مع الخوارج كما قال ابن خلكان في
وفيات الأعيان، سنة 207هـ، حسيرا مجهولا، لكن تلميذا له نجح، وأصبح رجلا مقدسا لدى
رعاع المسلمين حتى الآن، رغم أنه مات سنة 256 هجرية. هذا التلميذ هو ابن بردزبه المشهور
بلقب "البخارى" نسبة إلى إقليم بخارى فى خراسان التي كانت أشد مناطق فارس
تعصبا ضد العرب والإسلام.
ورغم أننا نتفهم المعاناة والظلم الذي تعرضت
له تلك البلاد التي فتحها الأمويون والعباسيون، إلا أن ردة الفعل ضد النبي صلى
الله عليه وآله وسلم والإسلام لم تكن في محلها. وهي إما أن تكون صادرة عن جهل كامل
بالإسلام في حقيقته، والتوهم بأن الأموي والعباسي يمثلونه، أو أن تكون ناتجة عن حقد
دفين ضد الإسلام ذاته رغم معرفة المهاجمين لحقيقته المتسامحة والرافضة للممارسات الظالمة
لبني أمية وبني العباس وأشباههم.
الرواية عن منحرفين
لم يرو البخاري ولو حديثا واحدا عن الإمام
جعفر الصادق الذي توفي سنة 148 هـ، والذي كان محل إعجاب وتقدير كلِّ من عرفه،
والذي حضر دروسه الآلاف من الطلاب ومنهم مالك بن أنس وأبو حنيفة النعمان.. وفي
المقابل لم يتورع عن الرواية عن بعض النواصب والخوارج، ممن ثبتت عداوتهم لأهل البيت
مثل إسحاق بن سويد وحريز بن عثمان وزياد بن علاقة الثعلبي وزياد بن جبير الثقفي ومقاتل
بن سليمان والمغيرة بن شعبة وعكرة وداوود بن الحصين وعمران بن حطان.. وهذا ما
يضاعف الشكوك حول أهداف البخاري المتوخاة من كتابه.
ورغم أن ابن تيمية برّر ذلك بقوله: وقد
استراب البخاري في بعض حديثه - الإمام جعفر بن محمد الصادق- لمَا بلغه عن يحيى بن سعيد القطان فيه كلام.
إلا أنه تبرير أقبح من ذنب، لأن الإمام الصادق كان معلّم المحدثين والمتكلمين
والفقهاء وكان معروفا لدى الجميع بعلمه وأخلاقه. وتكفي فيه شهادة مالك وأبي حنيفة
رغم أنه في غنى عن شهادة أي أحد فيه. والإمام
الصادق ليس الوحيد الذي لم يرو عنه، بل إنه لم يرو أيضا عن أئمة أهل البيت الحسن والكاظم
والهادي والعسكري المعاصر له.. وكلّهم في الفضل سواء كما يشهد لهم من عرفهم.
يفتقر كتاب "الجامع الصحيح" إلى
التنظيم مقارنة بكتب أخرى في الحديث والتاريخ كتبت في العصر ذاته الذى عاش فيه البخارى
مثل "طبقات ابن سعد" و"صحيح مسلم" والتي جاءت أكثر ترتيباً وتنظيماً
وتبويباً.
لكن تلك الفوضى لا يبدو أنها كانت عبثية.
فهو يوزّع أحاديث معينة بطريقة خاصة لتتبعثر خلال أكوام من الأحاديث الأخرى التى يبدو
ظاهرها حسناً، لكنه في الحقيقة يخفي فيها عقيدته الخاصة ورؤيته التي تتضمن تشويها لصورة
النبى. إن اغتيال شخص بالسم لا يتم بأن تطلب منه أن يشرب قليلا من أجلك، بل تدس له
السم في ما يأكل أو يشرب.
شراء رضا السلاطين
روى البخارى عن أبي هريرة وأنس
وعائشة وغيرهم أحاديث تحث على طاعة السلطان ـ أي سلطان ـ وبذلك ضمِن البخارى أن يتمتع
كتابه في كل عهد برعاية السلطة الحاكمة، فكل خروج على الحاكم، مهما كانت أسبابه وجيهة،
فتنة وشق لعصى الطاعة وتفرقة للجماعة..
في باب الصبر على جور الأئمة وترك قتالهم
والكف عن إقامة السيف، الحديث 3193 يورد البخاري عن ابن عباس قوله : "قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: من رأى من أميره شيئا يكرهه فليصبر فإنه من فارق الجماعة
شبرا فمات فميتته جاهلية، وفي لفظ: من كره من أميره شيئا فليصبر عليه فإنه ليس أحد
من الناس خرج من السلطان شبرا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية".
وفي الحديث رقم 3194 يورد: "عن أبي
هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك
نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي ويكون خلفاء فيكثرون، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فُوا
ببيعة الأول فالأول، ثم أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم".
إن البخاري بهذا الحديث، وما يشبهه، يريد
إخضاع الجميع للحاكم مهما بلغ ظلمه ومهما كانت ممارساته فالبيعة له واجبة والوفاء
بها واجب والميتة بلا بيعة للسلطان، مهما كان ظالما، ميتة جاهلية. البخاري بهذه
الروايات يشترى رضا السلاطين عليه عبر التاريخ ليصبح كتابه في النهاية الكتاب
المقدس لدى رعاع المسلمين، مقدما حتى على القرآن نفسه.
الإساءة إلى النبي في أخلاقه
ينسب البخاري حديثا إلى أم حرام، التى ادعى
البخارى أن النبى كان يدخل عليها وينام عندها، وهي متزوجة. وبعثره البخارى في مواضع
شتّى في كتابه ورواه بصور مختلفة، بحيث يبدو واضحاً أنه كان ينتهز أي فرصة ليرويه ويضعه
تحت أي عنوان..
في باب "الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال
والنساء" يروي البخارى عن أنس بن مالك الآتى: "كان رسول الله يدخل على أم
حرام بنت ملحان فتطعمه، وكانت أم حرام تحت عبادة بن الصامت، فدخل عليها رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأطعمته وجعلت تفلى رأسه فنام رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم
استيقظ وهو يضحك قالت: قلت وما يضحكك يا رسول الله؟ ناس من أمتى عرضوا علىَّ غزاة في
سبيل الله يركبون ثبج هذا البحر ملوكاً على الأسِّرة، أو مثل الملوك على الأسرة، شك
إسحق، قالت: فقلت: يا رسول الله ادع الله أن يجعلنى منهم، فدعا لها رسول الله، ثم وضع
رأسه، ثم استيقظ وهو يضحك، فقلت: وما يضحكك يا رسول الله؟ قال: ناس من أمتى عرضوا على
غزاة في سبيل الله كما قال في الأول، قالت: فقلت يا رسول الله ادع الله أن يجعلنى منهم،
قال: أنت من الأولين، فركبت البحر في زمان معاوية بن أبى سفيان فصرعت عن دابتها حين
خرجت من البحر فهلكت". والمضحك أن الراوية للحديث هى بطلته أم حرام نفسها، وتقول
الرواية أنها هلكت، ومعناه أنها روته بعد أن هلكت وماتت!.
ورغم أنه في أبواب أخرى يروي البخاري هذه
الرواية بطرق أخرى ليس فيها النبي نام عند أم حريم، إلا أنه وضع في ذهن القارئ منذ البداية أن أن النبي يدخل على سيدة متزوجة في غياب زوجها..
ثم يترك البقية لخيال القارئ بشكل محبوك..
وفي رواية أخرى، أسندها إلى أنس، يستعرض
البخاري مهاراته في تأليف القصص يقول: "أن أم سليم كانت تبسط للنبى نطعا فيقيِّل
عندها ـ أي ينام القيلولة ـ فإذا نام النبى أخذت من عرقه وشعره جعلته في قاروة ثم جمعته
في سُك، فلما حضر أنس بن مالك الوفاة أوصى أن يجعل في حنوطه من ذلك السُك فجعل في حنوطه..".
فالبخاري يريد أن يؤكد أن النبي معتاد على النوم عند النساء وحدوث تماس معهن! وأن الحصول
على عرقه وشعره يتم بهذه الطريقة..
وفي رواية أخرى يسندها إلى أَنس بن مالكٍ،
يقول: "قَدِمْنَا خَيْبَرَ فَلَمَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْحِصْنَ ذُكِرَ
لَهُ جَمَالُ صَفِيَّةَ بِنْتِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَقَدْ قُتِلَ زَوْجُهَا وَكَانَتْ
عَرُوسًا فَاصْطَفَاهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنَفْسِهِ فَخَرَجَ
بِهَا حَتَّى بَلَغْنَا سَدَّ الصَّهْبَاءِ حَلَّتْ فَبَنَى بِهَا رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثُمَّ صَنَعَ حَيْسًا فِي نِطَعٍ صَغِيرٍ".
فالنبي، حسب البخاري، لم ينتظر حتى تتم
صفية عدّتها ثم يتزوجها، بل إنه باشر البناء عليها دون انتظار. والرواية لا تشير إلى
أن سبب الزواج هو محاولة التخفيف على صفية وإبدالها زوجا خير زوجها القتيل، بل إنها
ركزت على جمال صفية كما لو أنه لم تكن هناك جميلات غيرها. وكما لو أن النبي يصعب عليه
الحصول على فتاة جميلة للزواج منها وهو النبي والحاكم. وكما لو أن خاض الحرب من
أجل النساء. تحول النبي، حسب البخاري، إلى رجل مهووس بالجنس وليس بممارسة واجب تبليغ
الرسالة بأقصى ما يمكن من الالتزام الديني والأخلاقي.
كانت صفيةُ بنتَ حُيي بن أخطب اليهودي،
وهذا الرجل تزعم بعض كُتُب السنن الأخرى أن الرسول قد قتله بعد ربطه.. مما يعني أن
النبي قتل رجلاً وهو أسير. [البيهقي، السنن الكبرى، ج6، ص52]، بل إن ابن حبان يدّعي
أن رسول الله قتل زوجها وأخا زوجها [صحيح ابن حبان ج11ص607] وهو ما يعني أن النبي قتل
رجلين ليتزوجها هو.. والأسوأ من ذلك أنه دخل بها دون أن تنقضي عِدّتها..
لا يضرب البخاري بهذه الروايات صورة
النبي فحسب، بل يستنبت منذ ذلك الحين دينا متوحّشا حشْوُه النساء. وهذا ما تجلّى
عبر العصور، وكانت التيارات السلفية العنيفة تعبيره الأقصى.
اتهام النبي بمحاولة الانتحار
ينسب البخاري إلى النبي محاولته
الانتحار في حديث أورده تحت رقم 6581، في كتاب
"التعبير". ولفظه: "قَالَ الزُّهْرِيُّ فَأَخْبَرَنِي عُرْوَةُ عَنْ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّهَا قَالَتْ: ".. وَفَتَرَ الْوَحْيُ فَتْرَةً
حَتَّى حَزِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا بَلَغَنَا حُزْنًا
غَدَا مِنْهُ مِرَارًا كَيْ يَتَرَدَّى مِنْ رُؤوسِ شَوَاهِقِ الْجِبَالِ، فَكُلَّمَا
أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ لِكَيْ يُلْقِيَ مِنْهُ نَفْسَهُ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ
فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ إِنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ حَقًّا، فَيَسْكُنُ لِذَلِكَ جَأْشُهُ،
وَتَقِرُّ نَفْسُهُ، فَيَرْجِعُ؛ فَإِذَا طَالَتْ عَلَيْهِ فَتْرَةُ الْوَحْيِ غَدَا
لِمِثْلِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَوْفَى بِذِرْوَةِ جَبَلٍ تَبَدَّى لَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ
لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ".
وهذه محاولة مفضوحة للإساءة الى النبي في
بداية بعثته. من الممكن أن يكون النبي قد حزن لتأخر الوحي عنه، غير أن مجرد
التفكير في الانتحار ليس أبدا صفة الرجل القوي والواثق والمؤمن الذي وصفه القرآن
بصاحب الخلق العظيم. والصبر والتحمل والثقة بالنفس والإيمان الراسخ كلها أشياء يتتمع
بها فضلاء الناس فضلا عن خاتم الأنبياء الذي جمع في نفسه الجمال والكمال الإنساني
كله.
من غير المعقول أن يفكر أي إنسان في
الانتحار لمجرد انقطاع بعض الرؤى عنه،
فكيف بالنبي الذي كان يعرف أنه يتلقى وحيا وأن انقطاعه عنه يحتمل أكثر من سبب. إن هذا
هو ما يجعلنا نشك في نوايا البخاري من رواية هذا الحديث وما يشبهه. فعندما تكثر
الأحاديث المسيئة، لن يكون بإمكان الباحث إلا أن يطرح التساؤل المناسب عن مغزى
ذلك.
اتهام النبي بالتعرض للسحر
روى البخاري في صحيحه الحديث رقم 3268 عن
عَائِشَةَ أنها قَالَتْ: "سُحِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وَمَا يَفْعَلُهُ، حَتَّى
كَانَ ذَاتَ يَوْمٍ دَعَا، وَدَعَا ثُمَّ قَالَ: أَشَعَرْتِ أَنَّ اللَّهَ أَفْتَانِي
فِيمَا فِيهِ شِفَائِي؟ أَتَانِي رَجُلانِ فَقَعَدَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالآخَرُ
عِنْدَ رِجْلَيَّ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلآخَرِ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قَالَ: مَطْبُوبٌ؟
قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟ قَالَ: لَبِيدُ بْنُ الأَعْصَمِ. قَالَ: فِيمَا ذَا؟ قَالَ:
فِي مُشُطٍ وَمُشَاقَةٍ وَجُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ. قَالَ فَأَيْنَ هُوَ؟ قَالَ: فِي
بِئْرِ ذَرْوَانَ. فَخَرَجَ إِلَيْهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ثُمَّ رَجَعَ فَقَالَ لِعَائِشَةَ حِينَ رَجَعَ: نَخْلُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ.
فَقُلْتُ: اسْتَخْرَجْتَهُ؟ فَقَالَ: لا، أَمَّا أَنَا فَقَدْ شَفَانِي اللَّهُ، وَخَشِيتُ
أَنْ يُثِيرَ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ شَرًّا، ثُمَّ دُفِنَتْ الْبِئْرُ".
هذا الحديث يقول إن النبي تعرض للسحر
وأثّر في قدراته العقلية إلى درجة أنه أصبح يتوهم فعل أشياء لم يفعلها. وهذا يعني مباشرة
الشك في سلامة الرسالة. فما يقوله أو يفعله وهو مسحور لا يمكن الأخذ به. بل إن كل
ما جاء به يصبح موضع شك لأنه من الممكن أن يكون النبي يعاني السحر منذ نزول الوحي
عليه لأول مرة.
ليس مستبعدا أن يكون اليهود قد حاولوا
سحر النبي ص. لكن المؤكد أنهم فشلوا. فما لا يمكن قبوله هو تأثّر النبي به، لأن الأنبياء
لديهم ما يكفي من الحصانة الذاتية التي تمنع تأثرهم بالسحر. وقد أنكر القرآن
الكريم تأثر النبي بالسحر واعتبر القائلين بذلك ظالمين: "وَقَالَ الظَّالِمُونَ
إِن تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَّسْحُورًا". الفرقان، 8.
اتهام النبي بالهذيان
حديث الهجر أو الهذيان لم يتفرد به
البخاري بل إننا نجده في لدى أكثر المحدثين السّنّة. والذين اتهموا النبيّ بالهجر
هم بعض "الصّحابة". والتدقيق في إطلاق تلك التهمة ضد النبي يوصل إلى
نتيجة تقول إن الهدف كان منع النبي من إلقاء وصيته الأخيرة.
تقول الرواية عن سعيد بن جبير عن ابن عباس
أنه قال: "يوم الخميس وما يوم الخميس ثم بكى حتى خضب دمعه الحصباء، فقال: اشتد
برسول الله (ص) وجعه يوم الخميس فقال: ائتوني بكتاب أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده أبدا
فتنازعوا ولا ينبغي عند نبي تنازع فقالوا: هجر رسول الله (ص)، قال: دعوني فالذي أنا
فيه خير مما تدعونني إليه، وأوصى عند موته بثلاث أخرجوا المشركين من جزيرة العرب وأجيزوا
الوفد بنحو ما كنت أجيزهم ونسيت الثالثة ".
وتؤكد روايات مشابهة أن من اطلق تهمة
الهجر او الهذيان ضد النبي هو عمر بن الخطاب لمنع النبي من الوصية. ولا شك أن تلك
الوصية كانت تريد إغلاق الباب أمام مخططات كانت تريد الاستيلاء على السلطة بعد
النبي ص. لكن عمر واجه ذلك باتهام النبي بالهذيان. إن الخطورة تكمن في التهمة في
حد ذاتها، لأن إثبات الهجر في حق النبي يعني أن ما يقوله ليس كله حق وأنه مشوب
ببعض الهذيان الذي يعني الكلام الذي لا معنى له أو لا طائل منه.
وقد يقال إن البخاري هنا هو مجرد ناقل.
والحقيقة إنه كذلك. وهذا النقل لا يكشف موقف البخاري من النبي بقدر ما يكشف
المصالح الضيقة التي كان يفكر من خلالها بعض "الصحابة".
اتهام النبي بتعذيب الناس
في "الجامع الصحيح"، كتاب الجهاد
والسير، باب إذا حرق المشرك المسلم هل يحرق، الحديث 2855، عن أنس بن مالك "أن
رهطاً من عكل ثمانية قدموا على النبي (ص) فاجتووا المدينة فقالوا: يا رسول الله ابغينا
رسلاً قال: ما أجد لكم إلا أن تلحقوا بالذود فانطلقوا فشربوا من أبوالها وألبانها حتى
صحوا وسمنوا وقتلوا الراعي واستاقوا الذود وكفروا بعد إسلامهم فأتى الصريخ النبي (ص)
فبعث الطلب فما ترجل النهار حتى أتي بهم فقطّع أيديهم وأرجلهم ، ثم أمر بمسامير فأحميت
فكحلهم بها وطرحهم بالحرة يستسقون فما يسقون حتى ماتوا، قال أبو قلابة: قتلوا وسرقوا
وحاربوا الله ورسوله (ص) وسعوا في الأرض فساداً".
إن هؤلاء الاشخاص قتلوا الراعي بحسب
الرواية والعقوبة العادلة قتلهم ما لم يعف أولياء الدم. وتنتهي المسألة. لكن
البخاري يدعي أن النبي أرسل من قطع أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وطرحهم تحت الشمس
عطشى ينزفون إلى أن ماتوا.
لا يوجد ما يؤكد أن الحادثة في أصلها
وقعت أو أن من أرسله النبي تصرف وفق أوامره. وهذا يعني أن البخاري وكل من روى هذه
القصة لم يلاحظ هذه البشاعة التي تتضمنها الرواية والتي لا يمكن أن تصدر عن النبي
ص الموصوف بالرحمة في القرآن، أو أنه لاحظ وتعمد إثباتها لأهداف يعلمها الله
ويعلمها البخاري وبقية الرّواة.
مشكلة البخاري مزدوجة. فهو يروي أحاديث
ذات مضامين مسيئة لشخص النبي. روايات تختلق قصصا أو تزورها. وهو أيضا يروي عن أشخاص
لا يستحقون الثقة فيما يروونه بسبب فسادهم الشخصي أو بسبب سوء ضبطهم للحديث. وقد
كفانا الإمام علي مؤونة البحث في حقيقة هؤلاء فقال: "ألا إنّ أكذب الناس، أو قال:
أكذب الأحياء - على رسول الله، صلّى الله عليه وآله، أبو هريرة الدوسي". [شرح
نهج البلاغة، لابن أبي الحديد، ج 4، فصل 56، ص68]. وعن الإمام جعفر بن محمّد، عليه
السلام، أنّه قال: "ثلاثة كانوا يكذبون على رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم:
أبو هريرة، وأنس بن مالك، وامرأة". [الصدوق، الخصال، ص 190، الحديث 263]..
ولا توجد إلا امرأة واحدة تروي بكثرة
وتنسب رواياتها للرسول. وهؤلاء الثلاثة هم أكثر من يروي عنهم البخاري.