قاسم شعيب
عندما يكون هناك
مشروع لبناء شيء جديد فلا مفر من هدم القديم لإقامته مكانه. المشروع الكبير، لدى الصهيونية
العالمية المالكة لكل أسباب النفوذ، هو إسرائيل الكبرى. وهو نفسه مشروع الشرق الأوسط
الجديد. حلم قديم يريد أصحابه تحقيقه الآن على بعد 100 عام من وعد بلفور.
يحتاج المشروع المعلن
إلى حروب غير تقليدية. والحرب المستخدمة اليوم لتحقيق هذا الهدف هي ما يعرف بحرب الجيل
الرابع. ظهر هذا المصطلح سنة 1989 ضمن نظرية متكاملة صاغها فريق من المحللين الأمريكيين،
من بينهم المحلل الأمريكي ويليام ستِرغس ليند لوصف الحروب التي تعتمد على مبدأ اللا
مركزية.. وبحسب هذه النظرية مرت الحروب بأربعة أجيال:
الجيل الأول: هو
الحرب التقليدية بين جيشين نظاميين لدولتين. وبحسب الخبير العسكري والكاتب الأمريكي
ويليام ليند امتد هذا الجيل من 1648 حتى 1860 وعرف بالحروب التقليدية Conventional War بين جيشين نظاميين يمثلان دولتين أو أكثر على أرض معارك محددة وفي مواجهة
مباشرة. وفي الحقيقة، فإن هذا الجيل يمتد في التاريخ أبعد من القرن 17 لأنه هو الأسلوب
الذي ظل متبعا في الحروب القديمة حين كان يلتقي جيشان نظاميان على أرض المعركة وتكون
المواجهة مباشرة بالسيوف والسهام والرماح..
والجيل الثاني: هو
الحروب التي أصبحت تتم عن بُعد، بَعد اختراع المدافع والبنادق والطائرات. فيتم قتل
العدو دون حدوث اشتباكات مباشرة. ويشبهها البعض بحرب العصابات Guerilla War التي كانت تدور في دول أمريكا اللاتينية.
والجيل الثالث: دخلت
فيه التكنولوجيا الحديثة وأصبح الاعتماد فيه كبيرا على الدبابات والمدرعات والطائرات
والصواريخ والتجسس عبر الأقمار الصناعية لكشف العدو. وكذلك اعتماد المناورة والسرعة
الخاطفة والهجوم من خلف بدلا من المواجهة. وقد يسمى هذا الجيل أيضا بالحروب الوقائية
أو الاستباقية Preventive
War كالحرب على العراق مثلاً. ويقول الخبير العسكري الأمريكي
ويليام ليند أن هذا الجيل طوّره الألمان في الحرب العالمية الثانية.
أما حروب الجيل الرابع
Fourth-Generation
Warfare أو اختصاراً 4GW، فيتفق الخبراء العسكريون
بأنها حروب أمريكية صرفة طورها الجيش الأمريكي وسميت بـ"الحرب اللا متماثلة"
Asymmetric
Warfare حيث وجَد
الجيش الأمريكي نفسه لا يحارب دولة بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، بل تنظيمات محترفة منتشرة
في العالم وتملك إمكانيات كبيرة ولها خلايا خفية تنشط لضرب مصالح الدول الأخرى الحيوية
كالمؤسسات الاقتصادية وخطوط المواصلات لإرغامها على الانسحاب من التدخل في مناطق نفوذها.
والمثال الذي يقدمونه على هذه التنظيمات القاعدة وداعش المصنوعة مخابراتيا..
الحرب اللا متماثلة
تخلت حروب الجيل
الرابع عن المواجهة بين قوتين عسكريتين نظاميتين، وانتقلت إلى الحرب بين الجيش النظامي
ومجموعات غير نظامية تتشكل من خلال مليشيات أو خلايا خفية منتشرة في أنحاء العالم تهدف
إلى تحطيم القوة العسكرية للدولة المستهدفة وإفقادها السيطرة على الأرض وخلق حالة من
عدم الاستقرار ثم تحويلها في النهاية إلى دولة فاشلة، كما شرح ذلك الأكاديمي والعسكري
الأمريكي أنطوليو إتشيفاريا، الذي شغل مناصب رفيعة في مؤسسات بحث وتدريب تابعة للجيش
الأمريكي، في ورقة بحثية قدّمها في العام 2005 بعنوان «حرب الجيل الرابع وأساطير أخرى».
ورغم النقد الذي
واجهته هذه النظرية إلا أن الواقع على الأرض في ليبيا وسوريا والعراق واليمن ومناطق
أخرى يؤكد أنها تمثل جزء من الاستراتيجية الأمريكية والصهيونية لتحقيق أهداف محددة.
والتنظيمات المسلحة التي تقاتل في سوريا وليبيا ومصر والعراق وغيرها هي جزء من
تطبيقات حرب الجيل الرابع.
وقد يرى بعض الباحثين
أن أمريكا اخترعت هذه النظرية لتبرير فشلها في مواجهة الارهاب منذ أحداث 11 سبتمبر
2001، إلا أن هذا الكلام يصطدم بحقيقة أن الإرهاب صنعته وترعاه المخابرات الأمريكية
بالأساس والمخابرات الصهيونية والغربية بشكل عام. وقد أصبح هذا الأمر مؤكدا بعض تصريحات
الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب الذي اتهم سلفه باراك أوباما بتأسيس تنظيم داعش.
لقد استُخدم هذا
المصطلح، كما سبقت الإشارة، لأول مرة في عام 1989 من قبل فريق من المحللين الأمريكيين،
وهذا يعني أن التنظير لهذه الحرب سبق التجربة والممارسة على الأرض.
والجيل الرابع من
الحروب قد يسمى، كذلك، حرب العولمة وتستخدم فيها، أيضا، وسائل الإعلام ومنظمات المجتمع
المدني والمعارضة والعمليات الاستخباراتية والنفوذ الأمريكي في المنظمات الدولية وعلى
الحكومات. وكما يقول البروفسور الأمريكي ماكس مايوراينج في معهد الأمن القومي الإسرائيلي،
إنها "الحرب بالإكراه، إفشال الدولة، زعزعة استقرار الدولة ثم فرض واقع جديد يراعي
المصالح الأمريكية".
تجليات القوة الناعمة
الأمريكية
تسيطر الولايات المتحدة
الأمريكية على وسائل الإعلام الجديد من الإنترنت، إلى وسائل التكنولوجيا الحديثة. فأهم
محركات البحث الإلكتروني أمريكية مثل غوغل وياهو وأم آس آن وبينغ.. وشبكات التواصل
الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر والبرامج والتطبيقات الإلكترونية ومشغلات الهواتف الذكية
مثل آبل وأندرويد وويندوز 8 هي أمريكية، ولا يوجد منافس لها في أيّ من هذه المجالات.
كما تتحكم الولايات
المتحدة الأمريكية في أكبر المؤسسات الإعلامية التقليدية مثل السي آن آن وفوكس ووكالات
الأنباء العالمية الرئيسية حول العالم مثل رويترز وهي بذلك تصنع الخبر وتوجهه أيضاً.
وهذه الإمبراطورية
هي الأولى في صناعة السينما من خلال هوليوود والبرامج الفنية المختلفة وحتى نمط للحياة
العصرية Life
Style. فهي بذلك تتحكم في الأذواق وأنماط التفكير وطريقة
العيش..
بل إن المنظمات الدولية
بما فيها منظمات الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك
الدولي واقعة تحت سيطرة الولايات المتحدة تستخدمها حسب مزاجها ومصالحها حيث لا معنى
للقانون عندها.
وحتى منظمات المجتمع
المدني العالمية انبثقت كلها من الولايات المتحدة الأمريكية وتخضع للقانون الأمريكي
وتتصرف حول العالم حسب المعايير والقوانين الأمريكية. وبشكل طبيعي تمول الولايات المتحدة
العديد من هذه المنظمات حول العالم خدمة لأهدافها وأجنداتها وهي تستخدمها في الوقت
المناسب الذي يوافق مصالحها. كما تموّل أمريكا قوى المعارضة المختلفة حول العالم في
أمريكا وخارجها وتستخدمها حسب مصالحها وفي الوقت الذي تراه مناسبا.
إن هذا كله يعني
أن الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت تملك القدرة على إسقاط أي دولة يمكن أن تستهدفها
بسبب ما تشكله من تهديد لمصالحها أو مصالح الحاكمين الفعليين فيها.
تستطيع أمريكا تحريك
منظمات المجتمع المدني الممولة مسبقاً ضد أي دولة تعارض مصالحها. كما يمكنها أن تحرض
وسائل الإعلام ضدها. ولا شك أيضا أنها قادرة على تحريك قوى المعارضة التي تموّلها أو
تسيطر عليها في الوقت الذي تشاء.
وعندما تريد الإمبراطورية
الأمريكية استخدام نفوذها العالمي في المنظمات الدولية لإضعاف الدولة التي تعارض مصالحها
ومحاصرتها، فإنها تستطيع أن تفعل ذلك. فهي تستخدم متى تريد علاقاتها الدولية وأحلافها
ونفوذها السياسي لمحاصرة أي دولة في العالم مالياً واقتصادياً وثقافياً وسياسياً..
إننا، دون بالغة،
أمام قوة عسكرية وتكنولوجية وسياسية واقتصادية وثقافية عظمى تمتد كالأخطبوط عبر العالم
وتحكم قبضها عليه كله. وعندما توجد دولة أو منظمة تقاوم نفوذها، فإنها تتعرض لأشكال
مختلفة من الحرب ضدها.
وكل دولة اليوم محكوم
عليها إما أن تدور في فلك المصالح الأمريكية أو أن تتوقع هذه الحرب من الجيل الرابع
بوسائلها المتعددة!.
غير أنه من الضروري
القول إن أمريكا، ومَن وراءها، ليست قوة مطلقة وهي قابلة للهزيمة وحتى التدمير. فالأمم
والدول والحضارات لها أعمار. وكما يؤكد القرآن الكريم: "لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم
لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون". يونس: 49. ثم إن أمريكا هذه لا تحكم نفسها. وما
يبدو في الظاهر من انتخابات ومجالس ليس إلا ديكورا يخفي الحقيقة. والحقيقة هي أنها
دولة تحكمها الشركات الكبرى والرساميل الضخمة والبنوك الدولية. والذين يملكون ذلك كله
بما يعنيه من قوة اقتصادية طاغية هم اليهود الصهاينة بشكل خاص وبعض الآخرين ممن ينتمي
لنادي بيلدبيرغ. وهذا يعني أن هذه العصابة المسيطرة على الإدارة الأمريكية والدولة
الأمريكية قادرة على تحطيمها متى شاءت.
إن حروب الجيل الرابع،
التي تعتمد وسائل متعددة كالمنظمات الإرهابية والإعلام ووسائل التواصل ووكالات الأنباء
ومراكز الإنتاج السينمائي ومنظمات المجتمع المدني والمعارضات السياسية..، لها أهداف
أبعد من مجرد استهداف "دولة مارقة" هنا أو هناك.
مشروع إسرائيل
الكبرى
إن الهدف المعلن
لهذه الحروب هو مشروع الشرق الأوسط الجديد والنظام العالمي الجديد. وهو مشروع لا يعني
شيئا سوى إقامة "إسرائيل الكبرى" التي تحكم العالم كله انطلاقا من العاصمة
القدس. أي توسيع حدود الكيان الصهيوني الحالي ليصل إلى الفرات شرقا والنيل غربا.
لم تُخفِ الحركة
الصهيونية يومًا مطامعها في تقسيم العرب أكثر مما هم مقسمون لاستكمال السيطرة عليهم
سياسيا وثقافيا واقتصاديا.. لم يبق مشروعها مجرد أفكار بل إنها عملت على مدى قرن من
الزمان وأكثر من أجل تحقيق الحلم الذي يجعلها الدولة الأقوى والأكبر في الشرق العربي.
بل ويجعل منها مركز الدولة العالمية التي ينظِّر لها جماعة نادي بيلدبيرغ الذين يحركون
اللعبة من وراء حجاب.
يعمل الصهاينة، الذين
يسيطرون فعليا على الولايات المتحدة ودول الغرب بشكل عام، منذ سنوات على إثارة الحروب
والفوضى وعدم الاستقرار في أكثر الدول العربية حيوية بالنسبة إليهم وبشكل خاص العراق
وسوريا ومصر.. باستخدام الجيل الرابع من الحروب. فهذه الدول لا بد من تدميرها، في
مخططهم، بسبب ما تشكله من خطر على "إسرائيل"، ولأن مشروع إسرائيل الكبرى
سيُبنى على أنقاضها كما يقولون.
تنسب هذه الرؤية
إلى شخص صهيوني يدعى عوديد يينون، وهو من مُنظّري حزب الليكود الحاكم في إسرائيل. هو
يُحيط نفسه بالسريّة التامّة، وقد عمل لفترة في شعبة الاستخبارات العسكريّة "أمان"،
والخارجيّة الإسرائيليّة، حيث كان عضوا في البعثة الدبلوماسيّة الإسرائيليّة إلى أمريكا
لسنواتٍ طويلةٍ. غير أن المسألة أبعد من أن تتعلق بشخص لأنها استراتيجية حركة نشأت
منذ القرن 18 وتملك مخططا شاملا لكل أهدافها..
والنموذج المتّبع
الذي يجري تطبيقه في العراق وسوريا ومصر هو نموذج الحرب الأهلية اللبنانية عندما كان
لبنان مقسما عمليا إلى خمس دويلات. الشمال في أيدي المسيحيين التابعين لسليمان فرنجيه
والذين كانت تؤيدهم سوريّة، والشرق الذي كان تحت سيطرة الجيش السوريّ، والوسط الذي
يسيطر عليه الجيش اللبنانيّ، ومحاذاة نهر الليطاني التي تهيمن عليها منظمة التحرير
الفلسطينية، والجنوب الخاضع لإسرائيل وميليشيات سعد حداد..
هذا النموذج رغم
أنه فشل في تقسيم لبنان فعليا، إلا أنه يطبق اليوم في سوريا للتخلص من الجيش السوريّ
وتقسيم البلد إلى ثلاثة دويلات هي علوستان وكردستان وسنستان، كما كان الأمر بالنسبة
إلى الجيش العراقي الذي تم إضعافه لتقسيم العراق الى كردستان وسنستان التي قد تدمج
مع نظيرتها السورية وشيعستان في الجنوب.. وكما حدث مع الجيش الليبي الذي تم تفتيته
لتقسيم ليبيا إلى ثلاثة دويلات هي طرابلس وفزان وبرقة.. وكما هو مخطط للجيشين المصري
والجزائري لتقسيم مصر والجزائر بالطريقة نفسها..
تقسيم الشرق العربي
ثم مغربه وصولا إلى عموم العالم الإسلامي، لاحقا، هو الوسيلة الفضلى لدى اليهود لحكم
مساحة جغرافية تمتد من النيل إلى الفرات. ولإعطاء شرعية دينية للدولة اليهودية التي
يريدون إعلانها لتكون هي المركز البديل عن الدولة الأمريكية.
لا نعتقد أبدا أن
المخططات الصهيونية لتقسيم العالمين العربي والإسلامي ستنجح. غير أنه من الضروري
الوعي بها. ورغم أن الحكومات والأنظمة القائمة متواطئة، في أغلبها، مع تلك المخططات،
إلا هذه الأرض لا تخلو من وجود أحرار قادرين على إفشالها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق