قاسم شعيب
يختلف الإعلام الديني
عن الإعلام الطائفي بشكل كبير. يعتمد الأول منهجا متوازنا يريد تعريف متابعيه بالدين
الذي يدعو إليه بالطريقة التي لا تستفز أتباع الأديان والمذاهب الأخرى، بينما يسقط
الثاني في خطاب تهييجي غرائزي هدفه الهجوم على عقائد الأديان والمذاهب الأخرى بأساليب
غير علمية وغير عقلانية ومصحوبة غالبا بسيل من الأوهام والأساطير التي يتم تداولها
حول الآخر.
لا جدال في أهمية
الإعلام وقدرته الفائقة على تشكيل الوعي العام في زمن التكنولوجيات الرقمية. فالناس
عادة يتأثرون بما يتلقونه من أفكار من خلال الفضائيات ومواقع التواصل والمنابر الإلكترونية
وبقية الميديا. غير أن من يتابع ما ينشر يوميا يلاحظ بسهولة طغيان الانفعالات السلبية،
ويتأكد من غياب أخلاقيات التواصل والتعايش والحوار.
لا يخطئ المتابع
ملاحظة حدة الاستقطابات الدينية والمذهبية في منابر متعددة الخلفيات والاتجاهات والتي
كثيرا ما تختفي تحت ستار ادعاءات امتلاك الحقيقة والنجاة الأبدية. تلك المعتقدات والأفكار
قد تبدو لأول وهلة بريئة، غير أن الحقيقة تنكشف عندما تطرح أفكار أو عقائد مختلفة،
أو عندما يتبين أن الكثير مما يطرح إنما يعكس أجندات سياسية أو ثقافية لا تهمها القضية
المعرفية بقدر ما يهمها تجييش الناس لخدمة أهدافها.
أتاحت الشبكة العنكبوتية
والبث التلفزيوني الفضائي والمنابر الإعلامية المختلفة مساحات واسعة من الحرية مكّنت
الاتجاهات الدينية والمذهبية المختلفة من التعبير عن نفسها بأشكال مختلفة، لتنتقل من
الانغلاق وسط المحيط الضيق إلى التفاعل مع العالم الأوسع. كثير منها صُدم أمام تنوّع
المشهد الديني والثقافي. واكتشف أن اختلافه عنها ليس في فهمه للدين فحسب، وإنما أيضا
في أسلوب الحياة ونمط التفكير.
تكاد الاتجاهات المذهبية
والدينية المختلفة تتفق في الهدف. فهي جميعا تدعي أنها الدين الصحيح وأنها وحدها الممسكة
بذيل الحقيقة وأن الاتجاهات الأخرى كفر أو ضلال أو انحراف. ولو توقف الأمر عند هذا
الحد لكان الأمر عاديا. فكل الأديان تدعي الحقيقة لنفسها وهي ترى الآخرين على خطأ.
لا يوجد استثناء في هذا الأمر. غير أن الخطورة تبدأ عندما ينتقل الأمر إلى استباحة
المختلفين.. لا شك في وجود تيارات دينية متوازنة وهادئة، تمتنع عن تكفير المخالفين
لها. غير أن التيارات التي تتبنى العنف في الخطاب والممارسة هي التي تمثل المأساة في
المجتمعات الأكثر تخلفا.
يمكننا أن نقدم عدة
أمثلة على هذا الإعلام الطائفي الذي يساهم في نشر الكراهية بين الناس في المنطقة العربية،
منها قناة الناس وقناة الحياة وقناة فدك.. فالأولى قناة سلفية من بين شكبة واسعة تتحرك
في الاتجاه ذاته. تعرّف قناة الناس، المملوكة لرجل الأعمال السعودي منصور بن كدسة،
نفسها بأنها "قناة فضائية دينية، تهدف إلى عرض الإسلام النقي، ونشر الفكر الوسطي،
والتصدي للأفكار المتطرفة والهدامة، والمحافظة على منظومة القيم والأخلاق". فهي،
إذن، نبية الإسلام النقي الذي لطّخه الآخرون، وهي زعيمة الفكر الوسطي في مقابل الفكر
المتطرف.
لكننا عندما نذهب
إلى المضمون لا نجد في الغالب سوى خطاب تحريضي يكفر كل المختلفين. ففي مقطع على اليوتيوب
مداخلة لحسام عقل في برنامج "سهرة خاصة"، أبدى فيها شماتة في وفاة المفكر
المصري نصر حامد أبو زيد، معتبرا إياه شخصا كافرا وخارجا عن الدين لأنه يطعن في القرآن
والسنة، ولا ينبغي حضور جنازته.
مثل هذا الخطاب
هو في حقيقته اغتيال معنوي يمهد للاغتيال الجسدي الذي شهدت مصر أمثلة عنه. فقد كان
هناك عدة كتّاب وأدباء تعرضوا للقتل أو الاعتداء مثل فرج فودة ونجيب محفوظ وحسن شحادة
الذي تم سحله حتى الموت في عهد الرئيس المخلوع محمد مرسي.
وفي المقابل نجد
قناة تعتبر نفسها شيعية اسمها فدك وتبث من لندن، ويديرها الشيخ الكويتي ياسر الحبيب.
ترفع هذه القناة شعارا مغريا يقول: "قناة عصرية تخاطب الملايين بلغة علمية موضوعية
وبمضمون عقائدي أصيل وجريء لا يعرف المجاملة على حساب الحق". وتؤكد أن أهدافها
هي: "تنقية التراث الإسلامي من العقائد الفاسدة والأفكار المغلوطة للعودة بالأمة
إلى منهاج النبي وخلفائه الشرعيين..".
غير أنها في الواقع
لا تتردد في استخدام أسلوب الاستفزاز. ورغم أنها لا تهاجم المخالفين لها، إلا أنها
لا توفر رموزهم. فهي مثلا لا تتوقف عن مهاجمة بعض الصحابة مثل الخليفة عمر بن الخطاب
والسيدة عائشة. بل إنها لم توفر حتى بعض الشخصيات التي لها احترامها بين الشيعة أنفسهم
مثل محمد بن الحنفية وعقيل بن أبي طالب. وهي، أحيانا، تظهر فتيات وشباب من مصر والمغرب
العربي يعلنون تشيعهم عبر القناة، وهو ما يسهم في إثارة ردود فعل غاضبة. لا شك أن ما
تقوم به هذه القناة لا يفعل شيئا سوى تأجيج الغرائز الطائفية ورفع منسوب الشتائم المتبادلة
ليس فقط بين أتباع المذاهب المختلفة من عامة الناس، بل حتى داخل المذهب الواحد.
المثال الآخر هو
قناة الحياة وهي قناة تبث من واشنطن وتتبع المذهب الإنجيلي وتعمل بالشراكة مع منظمة
«جويس ماير التبشيرية» الأمريكية، ويعد القمص زكريا بطرس أبرز وجوهها. ترفع هذه القناة
شعارا يقول: "لتنال الحياة الأبدية اتبع يسوع المسيح". لا شك أنه شعار يرسخ
ادعاءات امتلاك الحقيقة الدينية. وفي الحقيقة هذا هو شأن الدين. إذ لا معنى لدين لا
يثق أنه يمتلك الحقيقة سواء كان ذلك هو الواقع أم لا.
مشكل هذه القناة
في تركيزها على مهاجمة الإسلام ونبيه من خلال طرح قضايا تاريخية ودينية بأساليب مغلوطة
وغير علمية، واستنادا إلى روايات تاريخية ودينية ضعيفة ومهملة. وهي تحاول ممارسة بعض
الإسقاطات لتذهب، مثلا، إلى اعتبار الإسلام سببا لوجود ظاهرة داعش بسبب ما سميَّ فتوحات
إسلامية. بينما الحقيقة أن تلك الفتوحات، لو تأكدت صحة الروايات التاريخية حولها، لم
تكن بالضرورة ملتزمة بأحكام الإسلام كما يؤكد مؤرخون وفقهاء.
يحتاج الإعلام الديني
اليوم إلى التطهّر من فخ الطائفية الذي كان ولا يزال، في أغلب الحالات، نتاجا لأجندات
سياسية خفية.