الجمعة، 24 نوفمبر 2017

الإعلام الديني.. وفخ التحريض الطائفي





قاسم شعيب

يختلف الإعلام الديني عن الإعلام الطائفي بشكل كبير. يعتمد الأول منهجا متوازنا يريد تعريف متابعيه بالدين الذي يدعو إليه بالطريقة التي لا تستفز أتباع الأديان والمذاهب الأخرى، بينما يسقط الثاني في خطاب تهييجي غرائزي هدفه الهجوم على عقائد الأديان والمذاهب الأخرى بأساليب غير علمية وغير عقلانية ومصحوبة غالبا بسيل من الأوهام والأساطير التي يتم تداولها حول الآخر.
لا جدال في أهمية الإعلام وقدرته الفائقة على تشكيل الوعي العام في زمن التكنولوجيات الرقمية. فالناس عادة يتأثرون بما يتلقونه من أفكار من خلال الفضائيات ومواقع التواصل والمنابر الإلكترونية وبقية الميديا. غير أن من يتابع ما ينشر يوميا يلاحظ بسهولة طغيان الانفعالات السلبية، ويتأكد من غياب أخلاقيات التواصل والتعايش والحوار.
لا يخطئ المتابع ملاحظة حدة الاستقطابات الدينية والمذهبية في منابر متعددة الخلفيات والاتجاهات والتي كثيرا ما تختفي تحت ستار ادعاءات امتلاك الحقيقة والنجاة الأبدية. تلك المعتقدات والأفكار قد تبدو لأول وهلة بريئة، غير أن الحقيقة تنكشف عندما تطرح أفكار أو عقائد مختلفة، أو عندما يتبين أن الكثير مما يطرح إنما يعكس أجندات سياسية أو ثقافية لا تهمها القضية المعرفية بقدر ما يهمها تجييش الناس لخدمة أهدافها.
أتاحت الشبكة العنكبوتية والبث التلفزيوني الفضائي والمنابر الإعلامية المختلفة مساحات واسعة من الحرية مكّنت الاتجاهات الدينية والمذهبية المختلفة من التعبير عن نفسها بأشكال مختلفة، لتنتقل من الانغلاق وسط المحيط الضيق إلى التفاعل مع العالم الأوسع. كثير منها صُدم أمام تنوّع المشهد الديني والثقافي. واكتشف أن اختلافه عنها ليس في فهمه للدين فحسب، وإنما أيضا في أسلوب الحياة ونمط التفكير.
تكاد الاتجاهات المذهبية والدينية المختلفة تتفق في الهدف. فهي جميعا تدعي أنها الدين الصحيح وأنها وحدها الممسكة بذيل الحقيقة وأن الاتجاهات الأخرى كفر أو ضلال أو انحراف. ولو توقف الأمر عند هذا الحد لكان الأمر عاديا. فكل الأديان تدعي الحقيقة لنفسها وهي ترى الآخرين على خطأ. لا يوجد استثناء في هذا الأمر. غير أن الخطورة تبدأ عندما ينتقل الأمر إلى استباحة المختلفين.. لا شك في وجود تيارات دينية متوازنة وهادئة، تمتنع عن تكفير المخالفين لها. غير أن التيارات التي تتبنى العنف في الخطاب والممارسة هي التي تمثل المأساة في المجتمعات الأكثر تخلفا.
يمكننا أن نقدم عدة أمثلة على هذا الإعلام الطائفي الذي يساهم في نشر الكراهية بين الناس في المنطقة العربية، منها قناة الناس وقناة الحياة وقناة فدك.. فالأولى قناة سلفية من بين شكبة واسعة تتحرك في الاتجاه ذاته. تعرّف قناة الناس، المملوكة لرجل الأعمال السعودي منصور بن كدسة، نفسها بأنها "قناة فضائية دينية، تهدف إلى عرض الإسلام النقي، ونشر الفكر الوسطي، والتصدي للأفكار المتطرفة والهدامة، والمحافظة على منظومة القيم والأخلاق". فهي، إذن، نبية الإسلام النقي الذي لطّخه الآخرون، وهي زعيمة الفكر الوسطي في مقابل الفكر المتطرف.
لكننا عندما نذهب إلى المضمون لا نجد في الغالب سوى خطاب تحريضي يكفر كل المختلفين. ففي مقطع على اليوتيوب مداخلة لحسام عقل في برنامج "سهرة خاصة"، أبدى فيها شماتة في وفاة المفكر المصري نصر حامد أبو زيد، معتبرا إياه شخصا كافرا وخارجا عن الدين لأنه يطعن في القرآن والسنة، ولا ينبغي حضور جنازته.
 مثل هذا الخطاب هو في حقيقته اغتيال معنوي يمهد للاغتيال الجسدي الذي شهدت مصر أمثلة عنه. فقد كان هناك عدة كتّاب وأدباء تعرضوا للقتل أو الاعتداء مثل فرج فودة ونجيب محفوظ وحسن شحادة الذي تم سحله حتى الموت في عهد الرئيس المخلوع محمد مرسي.
وفي المقابل نجد قناة تعتبر نفسها شيعية اسمها فدك وتبث من لندن، ويديرها الشيخ الكويتي ياسر الحبيب. ترفع هذه القناة شعارا مغريا يقول: "قناة عصرية تخاطب الملايين بلغة علمية موضوعية وبمضمون عقائدي أصيل وجريء لا يعرف المجاملة على حساب الحق". وتؤكد أن أهدافها هي: "تنقية التراث الإسلامي من العقائد الفاسدة والأفكار المغلوطة للعودة بالأمة إلى منهاج النبي وخلفائه الشرعيين..".
غير أنها في الواقع لا تتردد في استخدام أسلوب الاستفزاز. ورغم أنها لا تهاجم المخالفين لها، إلا أنها لا توفر رموزهم. فهي مثلا لا تتوقف عن مهاجمة بعض الصحابة مثل الخليفة عمر بن الخطاب والسيدة عائشة. بل إنها لم توفر حتى بعض الشخصيات التي لها احترامها بين الشيعة أنفسهم مثل محمد بن الحنفية وعقيل بن أبي طالب. وهي، أحيانا، تظهر فتيات وشباب من مصر والمغرب العربي يعلنون تشيعهم عبر القناة، وهو ما يسهم في إثارة ردود فعل غاضبة. لا شك أن ما تقوم به هذه القناة لا يفعل شيئا سوى تأجيج الغرائز الطائفية ورفع منسوب الشتائم المتبادلة ليس فقط بين أتباع المذاهب المختلفة من عامة الناس، بل حتى داخل المذهب الواحد.
المثال الآخر هو قناة الحياة وهي قناة تبث من واشنطن وتتبع المذهب الإنجيلي وتعمل بالشراكة مع منظمة «جويس ماير التبشيرية» الأمريكية، ويعد القمص زكريا بطرس أبرز وجوهها. ترفع هذه القناة شعارا يقول: "لتنال الحياة الأبدية اتبع يسوع المسيح". لا شك أنه شعار يرسخ ادعاءات امتلاك الحقيقة الدينية. وفي الحقيقة هذا هو شأن الدين. إذ لا معنى لدين لا يثق أنه يمتلك الحقيقة سواء كان ذلك هو الواقع أم لا.
مشكل هذه القناة في تركيزها على مهاجمة الإسلام ونبيه من خلال طرح قضايا تاريخية ودينية بأساليب مغلوطة وغير علمية، واستنادا إلى روايات تاريخية ودينية ضعيفة ومهملة. وهي تحاول ممارسة بعض الإسقاطات لتذهب، مثلا، إلى اعتبار الإسلام سببا لوجود ظاهرة داعش بسبب ما سميَّ فتوحات إسلامية. بينما الحقيقة أن تلك الفتوحات، لو تأكدت صحة الروايات التاريخية حولها، لم تكن بالضرورة ملتزمة بأحكام الإسلام كما يؤكد مؤرخون وفقهاء.
يحتاج الإعلام الديني اليوم إلى التطهّر من فخ الطائفية الذي كان ولا يزال، في أغلب الحالات، نتاجا لأجندات سياسية خفية.


















الجمعة، 3 نوفمبر 2017

قَرْن من الألم الفلسطيني.. وماي تتباهى!





قَرْن من الألم الفلسطيني.. وماي تتباهى!


لم تُبدِ رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي أي ندم، ولم تقدم أي اعتذار وهي تتحدث في برلمان بلادها عن مرور قرن من الزمان على وعد وزير الخارجية البريطاني حينها، آرثر بلفور للورد ليونيل وولتر دي روتشيلد، أبرز قادة الحركة الصهيوينة بإنشاء وطن لليهود على أرض فلسطين. بل على العكس من ذلك، تعهدت بالاحتفال بمئوية ذلك الوعد المشؤوم ودعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو برفقة 150 شخصاً آخراً لحضور الاحتفال وكرّرت افتخارها بذلك وتعهدت بمواصلة العمل مع الإسرائيليين أمام مشهد الاهتراء العربي غير المسبوق.

تيريزا ماي أعلنت أنها ستحتفل بوعد بلفور وتدعو نتنياهو للمشاركة (أ ف ب)

سبق أن اعتذر البريطانيون عن أخطائهم بسبب مشاركتهم في تجارة الرقيق ودورهم في المجاعة الإيرلندية، لكنهم، عندما يتعلق الأمر بوعد بلفور، فإن الفخر يأخذ مكان الاعتذار رغم فداحة الجريمة.
لم يكن الدور البريطاني بتلك القوة، وهو يؤسس لكيان صهيوني في فلسطين، لولا نجاح اليهود، مبكراً، في اختراق بريطانيا وأوروبا عامة وتطويعها، كلها، لخدمة مشروعهم رغم الحقد التاريخي الذي يحمله الأوروبيون ضدهم بسبب موقفهم من المسيح، ثم بسبب ممارساتهم التي أدت إلى طردهم من أوروبا في القرن 13 قبل أن يعودوا إليها في القرن 15.
كان هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية يميل إلى تحميل ألمانيا مهمة المساعدة في احتلال فلسطين وتسليمها لليهود بسبب انتمائه إليها كما قال، غير أن الواقع رجح كفّة بريطانيا.
نجحت الصهيونية في اختراق أوروبا دينياً وسياسياً. ومن دون ذلك ما كان لحلمها أن يتحقق. من الممكن الحديث عن تحالف صهيوني - غربي، ناتج عن التقاء مصالح.
غير أن ذلك التحالف لا يستقيم لو لم يحقق اليهود ما يكفي من القوة التي مكنتهم من صناعة مذاهب فلسفية ودينية والإطاحة بأنظمة وحكومات، من خلال ثورات بَدَت شعبية، لتصعيد أنظمة أخرى متحالفة معهم، والسيطرة على بنوك وشركات ومؤسسات وأسواق.
مثَّلت البروتستانية مفصلاً مركزياً في تغيير نظرة المسيحيين لليهود، بدَت تلك الحركة مذهباً إصلاحياً دينياً قاده مارتن لوثر وجون كالفن من داخل الكنيسة من أجل إلغاء تقاليد كاثوليكية اعتبرت سبباً في واقع التخلف الذي عانت منه أوروبا في القرون الوسطى مثل صكوك الغفران ومعاداة العلم ووساطة رجال الدين وأولوية العهد الجديد على العهد القديم. غير أنه تبيّن، لاحقاً، أنّ ما حدث لم يكن سوى عملية صناعة مذهب من داخل المسيحية يتبنّى المقولات الدينية اليهودية ويقدّمها على نصوص الإنجيل.
تم ربط الإيمان بالمسيحية بالإيمان بعودة اليهود إلى الأرض المقدسة. وبعد إدخال الكالفينية إلى أنجلترا توسعت البروتستانتية وتأسست الكنيسة الانغليكانية التي انتشرت لاحقاً في كل أنحاء العالم بشكل غير متوقع..
استطاع اليهود أن يكونوا مؤثرين بقوة في الثقافة الأوروبية الحديثة. والدور الذي لعبوه في صناعة تلك الثقافة لا ينحصر في ما قام به علماء ومفكرون وفلاسفة يهود، بل يشمل أولئك الأفراد غير اليهود الذين رعوهم وتلك المؤسسات التي موّلوها، ولا يزالون، لنشر أفكارهم وثقافتهم. يملك اليهود اليوم أكبر وكالات الأنباء وأوسع وسائل الإعلام انتشارا وأشهر مؤسسات الإنتاج السنيمائي وأفضل الجامعات والمؤسسات البحثية.. ومن خلالها جميعا ملكوا أغلبية العقول.
لكن القوة المالية اليهودية لم يتوقف تأثيرها عند صناعة الثقافة الأوروبية والغربية الحديثة، بل إنها امتدت إلى عمق السياسة. لم تكن العلاقة الأوروبية اليهودية التي نُسجت خيوطها منذ القرن الخامس عشر فعلاً منعزلاً ولا مجرد نزوة. بل إن ما حدث، منذ وعد بلفور، كان امتداداً لمسار نجح فيه اليهود في دعم الثورة في انجلترا وإيصال كرومويل إلى الحكم، وهو ما مهّد بقوة لوعد بلفور بعد فشل محاولة نابليون الذي أراد أن يكون سبّاقاً في مساعدة اليهود على إنشاء كيان لهم في فلسطين، والذي كان هو الآخر ثمرة للثورة الفرنسية التي مكّنت اليهود من تحقيق مساواة مواطنية افتقدوها قبل ذلك في فرنسا عندما كان اليهودي يعامل معاملة العبيد.
ورغم أن الدور الأوروبي تراجع لمصلحة الدور الأمريكي الذي أصبح الأقوى، بعد الحرب العالمية الثانية، بقيت أوروبا الجار الأقرب اقتصادياً وسياسياً لإسرائيل في محيط معاد.
استمرت تهمة معاداة السامية فيها جاهزة لكل معارض للصهيوينة. وحتى السباقات الرياضية والفنية المختلفة لم تجد إسرائيل مكاناً للمشاركة فيها سوى الإطار الأوروبي.
عزّز القرب الجغرافي التعاون الاقتصادي بين الشريكين الحليفين. فالاقتصاد الإسرائيلي الذي يعتمد على التجارة الخارجية يحتاج إلى أسواق خارجية. والشواطئ الأوروبية هي الأقرب لإسرائيل. وقد ساعد النفوذ المالي والاقتصادي اليهودي الكبير في أوروبا على تقوية تلك العلاقات التي توجت أكثر من مرة باتفاقيات للتعاون والشراكة سنوات 1970 و1975 و1991 و1995.. والتي أعطت للإسرائيليين معاملة تفضيلية في منتجاتها الزراعية والصناعية. وفي 2008 ذهبت 33% من صادرات إسرائيل إلى أوروبا.
بعد الحرب العالمية الثانية وصعود الولايات المتحدة، تراجع موقع الأوروبيين سياسياً وأصبحوا، بدورهم، تابعين للموقف الأميركي باستثناء حالات نادرة. عملت إسرائيل على الاحتفاظ بعلاقات قوية مع واشنطن وبروكسيل في وقت واحد غير أنها كانت تقدم علاقتها مع الأمريكيين. فهناك تعيش اللوبيات الصهيوينة الأقوى وتنتصب الشركات اليهودية الأضخم.
تراجع الدور الأوروبي إلى مجرد مجلى للصّحون. وقد عبّرت عن ذلك أطروحة روبرت كيجان بعمق حين تحدث عن فردوس كانط الأوروبي مقابل أسبرطة واشنطن.
 تدرك تل أبيب طبيعة الصراع الناعم بين الاتحاد الأوروبي وأمريكا لكنها تفهم أن القوة مع واشطن. يبدو ذلك واضحاً من خلال انتهاكات إسرائيل لحقوق الفلسطينيين التي لا يمكن لأوروبا سوى إظهار الرفض والتنديد بها دون الجرأة على اتخاذ أية خطوات عملية، فذلك هو المقدار المسموح به لسياسيين جاء بهم رأس المال. بل إن الأوروبيين لا يترددون في استخدام حق الفيتو كلما تعلق الأمر بإدانة سلوك إسرائيلي.
كانت بوصلة المواقف الأوروبية مرتبطة بالمواقف الكلاسيكية الإسرائيلية، تطور الموقف، تبعاً لتطور الموقف الإسرائيلي نفسه، من اعتبار القضية الفلسطينية مجرد قضية لاجئين إلى قضية شعب له حقوق سياسية في تقرير المصير، فأُقيمت مفاوضات أوسلو التي أنتجت سلطة شكلية في الضفة وغزة. غير أن ذلك لم يكن سوى محاولة بائسة لإسكات أصوات كثيرة لم تقبل، يوماً، ظلما يتعرض له شعب بأكمله.

الميادين

الأربعاء، 1 نوفمبر 2017

الوهابية والعلمنة ويخت سيرين




الوهابية والعلمنة ويخت سيرين

   قاسم شعيب
اسم شعيب

يسابق محمد بن سلمان الزمن لإعلان نفسه ملكاً قبل حدوث أية منغصات. وهو يفعل كل شيء من أجل حرق المراحل وتحقيق أهدافه. ولعل أخطر الخطوات التي يريد إنجازها التخلّص من الكهنوت الوهابي الذي حكم المملكة منذ تأسيسها والانتقال إلى دولة علمانية بالشكل القائم في دول عربية أخرى.

الوهابية والعلمنة ويخت سيرين
يريد أمير البلاط السعودي الانتقال من الدولة الدينية إلى الدولة العلمانية كما هو مطلوب منه، ليس لأن الملك كان خاضعاً لسلطة رجال الدين، فهذا لا واقع له لأن المؤسسة الدينية كانت دائماً تقدم فتاوى تحت الطلب، بل لأن المطلوب، اليوم، الانتقال إلى مرحلة جديدة يتم فيها التخلي عن إيديولوجية دينية متشددة لصالح أخرى ليبرالية مخففّة سماها "إسلاماً منفتحاً" بعد أن أدّت النسخة القديمة دورها التخريبي كما خُطّط لها. وهذا الانتقال يحتاج إلى جانبين. الأول نظري يتعلق بالأيديولوجية الوهابية. والثاني عملي يتعلق بالإجراءات التنفيذية للحكومة.
في الجانب النظري تحتاج عملية الانتقال إلى تصفية الإرث السلفي الوهابي في مستويين. الأول: هو التعليم. وبالفعل فقد تم تأسيس مركز لتنقيح ومراجعة مناهج التعليم. وهو قائم الآن، ويعمل القائمون عليه، تحت إشراف أميركي، على وضع كتب دراسية جديدة تدرّس في المدارس وتحل محل الكتب القديمة التي تروج للفكر الوهابي العنيف والتي تعارض "روح الإسلام".. كان التعليم ومناهجه الحاضنة الأولى لتفريخ الآلاف من المشوهين فكرياً وأخلاقياً والذين يمارسون القتل والذبح. وقد اعترفت وسائل إعلام سعودية أن 60% من منفذي العمليات الانتحارية في العراق هم سعوديون بينما أظهرت احصاءات أخرى أن السعوديين هم ثاني أكبر جنسية تشارك في الحرب السورية ضد الجيش النظامي. والعمل على تغيير المناهج الدراسية اليوم ليس بسبب اتّضاح دورها في تدمير عقول الكثير من الشباب والكوارث التي أنتجها ذلك، بل لأن مرحلة "الدعوشة" انتهت الآن ويريد الأميركيون الدخول في مرحلة جديدة كما قال الرئيس الأميركي ترامب.
والمستوى الثاني هو الثقافة. وقد كشف وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون أن من نتائج القمة التي عقدها ترامب مع القيادة السعودية في ماي الماضي، إنشاء مركز لمكافحة الخطاب الوهابي المتطرف وتغيير المناهج والإشراف على أئمة المساجد وتأهيلهم. وهو يشمل التخلص من الكتب السلفية والوهابية وبالأساس كتب ابن تيمية وابن عبد الوهاب وسائر شيوخ السلفية المؤثرين، مقابل إفساح المجال لكتب من نوع آخر بعيدة التوجهات السلفية. كما يشمل هذا المستوى السماح بافتتاح دور للسينما، وتنظيم حفلات موسيقية مختلطة، وتنظيف وسائل الإعلام من الخطاب السلفي الوهابي.
أما في الجانب الإجرائي، فهناك أولاً المؤسسات الحامية للوهابية. وثانياً الشخصيات المعارضة للتحوّل من أمراء ورجال دين وكتّاب ومثقّفين. وكلاهما تمّ التعامل معه بطرق مختلفة.
بدأ ابن سلمان بقوات المطاوعة أو هيأة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وهي "شرطة دينية" كانت تابعة لوزارة الداخلية التي كانت بيد نايف بن عبد العزيز وورّثها لابنه محمد قبل عزله. ورغم ذلك العزل فإن نايف كان قد بنى معهم علاقات قوية، ومن الطبيعي أن يقفوا ضد محمد بن سلمان في أي نزاع قادم. نقل ولي العهد الجديد بعض صلاحيات الهيأة إلى الشرطة وألغى أخرى. وبذلك خلخل أحد الأذرع الأمنية لحكم آل سعود الذي طالما تمتع دوره بشرعية دينية. وهي مغامرة قد ترتد عليه. وفي السياق نفسه، ينوي ولي العهد التخلي عن لقب خادم الحرمين، وحلّ هيئة العلماء والاحتفاظ فقط بمفتي للمملكة كما هو الحال في بقية الدول العربية.
تبدو الدولة، التي طالما وصفت بمملكة الصّمت، على صفيح ساخن. يخشى محمد بن سلمان أية معارضة للمشروع الذي ينفذه، ولا يريد أيّة أصوات مزعجة توقف طموحه الجامح. وهو لذلك يحتاج إلى كسر الكثير من البيض لصناعة عجّته التي لا يمكنها أن تستوي دون ذلك. سلّة البيض السعودي، التي تحتاج كسراً قبل أن تفقّس، تضم الكثير من الأمراء مثل محمد بن ناف وتركي بن بندر وعبد العزيز بن فهد وسعود بن سيف وسلطان بن تركي الذين تم اعتقالهم.. والدعاة المحسوبين على ما سمي "تيار الصحوة" مثل سلمان العودة وعوض القرني، وحتى كتّاباً وإعلاميين ومسؤولين من مستويات مختلفة مثل الشاعر زياد بن حجاب بن نحيت والكاتب مصطفى الحسن ورجل الأعمال عصام الزامل. وكذلك قضاة وأكاديميين مثل القاضي في المحكمة الجزائية في الخبر، خالد الرشودي، وعميد كلية حوطة سدير، يوسف المهوس.
تم اعتقال أمراء ورجال دين بارزين دفعةً واحدة بينما مُنع كتاب ومغرّدون من الكتابة والتغريد.. ورغم احتجاز الكثير من "الأمراء الصغار" في الأسرة الحاكمة، فإن الخوف الأكبر يأتي من "الأمراء الكبار".
يتبنّى محمد بن سلمان حلولاً انشطارية. فكل قرار يتّخذه يتسبّب في انقسام داخل العائلة الحاكمة وفي المجتمع بين مؤيد ومعارض. قد يبدو هذا طبيعياًَ أمام خطواته المتسارعة للتخلص من سلطة الكهنوت الوهابي، غير أن ذلك يعكس خللاً في البنية السياسية للدولة والتركيبة الاجتماعية للشعب الذي طالما عايش الاستبداد والقمع باسم الدّين.
لم تكن الحرّيات شيئاً معترفاً به في المملكة المترامية، وكان هناك قليل من الآراء المختلفة، من داخل العائلة، يسمح لها  بالتعبير عن نفسها. انتفى ذلك اليوم ولم يعد هناك أي صوت مخالف مقبولاً. بل إن الصمت ذاته أصبح جريمة اعتقل بسببها دعاة، فالمطلوب هو التعبير عن مواقف مؤيدة لولي العهد، وليس الاكتفاء بالصمت.
هذه الخطوات، إضافة إلى أسباب أخرى تتعلق بالصراع على السلطة داخل العائلة الحاكمة، جعلت محمد بن سلمان يعيش منعزلاً بين يخته "سيرين" وقصوره. أصبح أكثر رعباً واضطراباً ولم يعد يظهر بكثرة. فهو يشعر أن أكثر آل سعود ضده وأنه مستهدف بقوة.
ولعل أحدث تعبير عن تلك المعارضة تعرّض قصر السّلام في جدّة إلى هجوم قُتِل فيه عنصران من الحرس الملكي والأرجح أن أبناء الملك فهد والملك عبد الله والأمير نايف الذين يشكلون تحالفاً ضد الملك سلمان وابنه هم من يقف وراءه لإيصال رسالة.
تبدو العائلة السعودية اليوم في مفترق طرق. فقد حكمت لعقود طويلة بقبضة حديدية وسط صحراء الفكر الوهابي، لكنها، اليوم، وهي تحاول تغيير المسار، وصلت إلى مستوى من التصدع الداخلي غير المسبوق، ينذر بالانفجار في أي لحظة.
يستعجل ابن سلمان استواء طبخته لكن ذلك قد يؤدي إلى احتراقها!

الميادين