السبت، 26 مايو 2018

سجال أردغان ونتانياهو: مواقف حقيقية أم شيء من "المأذون به"؟






قاسم شعيب


"ليست القدس مجرد مدينة، وإنما هي رمز وامتحان وقبلة. وإذا لم نتمكن من حماية قبلتنا الأولى فلن نستطيع التطلع لمستقبل قبلتنا الثانية في أمان". هذا الكلام قاله الرئيس التركي رجب طيب أردغان في سياق حملته ضد حدث نقل السفارة الأمريكية إلى القدس والممارسات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين. وهو يقصد أن الكعبة هي أيضا في خطر إذا لم يستطع المسلمون حماية القدس.
لم يكتف أردغان بإطلاق التصريحات المنددة بالممارسات الإسرائيلية في القدس وغزة بل إنه سارع إلى طرد السفير الإسرائيلي في أنقرة بشكل مؤقت، واستضافة قمة "إسلامية" خرجت بمجموعة من القرارات رغم أنه لا توجد ضمانات حقيقية لتطبيقها. كثيرون يرون في تصريحات أردغان ومواقفه المعلنة التقاطا لذكرى النكبة وما حدث فيها من أجل استخدامها في حملته الانتخابية. غير أن آخرين يرون فيها انعكاسا لما يؤمن به الرجل الذي ظلّ مقيدا بإرث مؤسس الدولة التركية الحديثة مصطفى كمال أتاتورك.
عندما وصل حزب العدالة والتنمية إلى الحكم عام 2002 لم يتغير شيء في واقع العلاقات التركية مع الكيان الصهيوني الذي اعترفت به تركيا منذ عام 1949 وأقامت معه حلفا سريا في الخمسينات ثم خرج إلى العلن في التسعينات. لم يتحدث أردغان في سنوات حكمه الأولى عن القدس وفلسطين ولاذ بالصمت. بل إنه زار تل أبيب وأرسل قواته مع الناتو إلى أفغانستان وهو ما جعل أوباما يبدي أعجابه بالنموذج التركي الذي ينبغي تعميمه في الشرق الأوسط.
كان أردغان في البداية يأمل بقوة في عضوية الاتحاد الأوروبي فذهب إلى الفاتيكان لتوقيع طلب انضمام بلاده لهذا الاتحاد مرسلا بذلك إشارة تفيد أن نهجه سيكون مخالفا لنهج سلفه نجم الدين أربكان الذي اضطره الجيش إلى الاستقالة لعدة أسباب أوضحها توجهاته الدينية ومعاداته لإسرائيل وسعيه لتشكيل كتلة اقتصادية للدول الإسلامية..
تعاملت تركيا مع إسرائيل منذ اعترافها بها باعتبارها حليفا. لكن ذلك لم ينسحب على حرب  67 وغزوها لبنان سنة 82 حيث أدانت كلتا الحربين. كانت العلاقات الثنائية في أوجها ولم يكن من السهل على أردغان القطع بشكل فوري مع تل أبيب حتى لو أراد ذلك. بل إنه قرر الانفتاح التجاري معها رغم بعض القيود على التعاون العسكري المفتوح.
لكن أول خروج لأردغان عن الخط المرسوم منذ أتاتورك كان بعد حرب غزة 2008. حينها قال لن نصمت بعد الآن. وكان انسحابه من مؤتمر دافوس سنة 2009 بعد وصفه لشمعون بيريز بقاتل أطفال، وحادثة سفينة مرمرة التي تسببت بقطع العلاقات عام 2010، مناسبات أخرى لرفع سقف الموقف التركي الجديد.
غير أن ذلك كله قد يكون من "المأذون به" مادامت حركة التجارة والسياحة مستمرة بين إسرائيل وتركيا، وما دامت الصفقات الاقتصادية قائمة، ومنها صفقة تسويق تركيا لخط الغاز الإسرائيلي، وما دامت العلاقات الديبلوماسية مستمرة رغم قرار قطع العلاقات المؤقت آنذاك والذي استؤنفت عام 2013،  بل إن كل تلك التصريحات تصبح، حسب ظاهرها، موجهة للاستهلاك المحلي لكسب الجمهور في حملته الانتخابية الجارية الآن، ولا تعبّر عن مواقف حقيقية مادامت العلاقات على الأرض لم تتأثر كما عكست ذلك احتفالات السفارة الإسرائيلية في أنقرة بمرور 70 سنة على تأسيس الكيان المحتل.
بدأت العلاقات التركية الإسرائيلية بتحالف قوي على يد العسكر ثم انخفضت إلى تعاون ثنائي مع الحكومات اليمينية. وعندما جاء حزب العدالة والتنمية تأثرت تلك العلاقة بشكل ما وبدأ الإسرائيليون يتذمرون. بل إن أردغان دخل في سجال مع بيريز ثم نتانياهو ظن معه كثيرون أن أردغان على بعد خطوة من قطع علاقاته بكيان الاحتلال بشكل نهائي.
لم يستطع أردغان اتخاذ أي قرار ضد إسرائيل في حرب غزة 2008. وتم تبرير ذلك بوجود العسكر النافذ. لكنه بعد حادثة مرمرة 2010 وسقوط ضحايا أتراك قطَع العلاقات. غير أن فشل الانقلاب العسكري صيف 2016 وتخلص أردغان بعد ذلك من سطوة العسكر لم يترك له مبررا لاستمرار تلك العلاقات قوية بأوجهها المتعددة.
ورغم أن صادرات تركيا لإسرائيل تصل إلى ملياري دولار إلا أنها تمثل جزءا بسيطا من مجموع صادراتها التي بلغت العام الماضي 157 مليار دولار. وعادة ما يتم تبرير استمرارها بالربط التجاري الذي يجعل إسرائيل تتيح لتركيا "العمل التنموي" في الضفة وغزة إضافة إلى كسب ثقة اللوبيات اليهودية لترطيب العلاقات مع واشنطن وموسكو. وهذا يعني أن تركيا تلعب بالورقة التجارية لمصلحة الفلسطينيين!
يريد أردغان ربط نفسه بالقدس. والمسألة لا تتوقف عند حملته الانتخابية الجارية، بل تتجاوز ذلك على مدى أبعد يتعلق بتوجهات حزب العدالة والتنمية المعلنة والتي لا يمكن إسقاطها لأنها ستجعله يخسر الكثير من جماهيريته في الداخل. لم تتغير علاقة تركيا بإسرائيل منذ سبعة عقود. واستمرار العلاقات دون الوصول على قطيعة كاملة لن يعتبر براغماتية تركية ضرورية.
تأسست إسرائيل في محيط معادٍ، لم يكن لها فيه سوى حليفين هما تركيا وإيران. وإذا ما تطور الموقف التركي إلى مستوى الموقف الإيراني بعد سقوط الشاه، فقد تنقلب الصورة، أمام السباق العربي الذي لم يعد خافيا نحو إسرائيل. وتلك واحدة من المفارقات المؤلمة.



الخميس، 24 مايو 2018

جعجعة في البيت الأبيض!





قاسم شعيب


قد لا يكون التصعيد الأمريكي ضد إيران وصل إلى ذروته بخطاب وزير الخارجية الجديد بومبيو الذي حدد فيه 12 شرطا لتجنب عقوبات غير مسبوقة قال إن بلاده تنوي فرضها على طهران. فهذه الشروط، التي لا يمكن لإيران الاستجابة لها، تبدو مقدمة لشيء يتجاوز مجرد فرض حصار غير مسبوق.
تصب الشروط الأمريكية المعلنة في "الإستراتيجية الأمريكية الجديدة" التي وضعت تغيير النظام في إيران هدفا رئيسيا لها وفي ظرف وجيز أسرع بكثير من الوقت الذي أخذه ما حدث في العراق وليبيا.
لم يتأخر الرئيس الإيراني حسن الروحاني في الرد على التهديدات الأمريكية وخاطب الأمريكيين "من أنتم حتى تقرروا بخصوص إيران والعالم؟". وقالت الصحافة الإيرانية إنها أضغاث أحلام وأن الشروط الـ12 هي في الحقيقة 12 خطأ. لكن الرد اللافت هو تصريح وزير الخارجية جواد ظريف الذي قال إن الإدارة الأمريكية واقعة تحت ضغط لوبيات تريد إثارة الفتن. وهو ما يعني أن ما تفعله الإدارة الأمريكية ليس إلا إملاءات سمِّيت بالإستراتيجية الأمريكية الجديدة.
ويمكن اختصار تلك الإستراتيجية الجديدة في النقاط التالية:
§       أولا: التخلي عن برامج الصواريخ البالستية في مرحلة أولى ثم تدمير مخازن إيران وترسانتها العسكرية لاحقا.
§       ثانيا: وقف دعم ما سماه بومبيو "الإرهاب" والمقصود حزب الله في لبنان وحركة حماس وحركة الجهاد في فلسطين والحشد الشعبي في العراق. والتوقف عن التدخل في القضايا الداخلية لهذه البلدان.
§       ثالثا: الانسحاب الكامل من سورية وإنهاء الوجود العسكري على أراضيها.
من غير الممكن أن تقبل إيران بهذه الشروط التي تعلم الإدارة الأمريكية أنها مرفوضة مسبقا. فهي شروط لا تعني شيئا غير استفزاز طهران وخدمة المصالح الإسرائيلية من خلال منع الدعم الذي طالما تلقته حركات المقاومة من إيران سواء كان دعما ماليا أو عسكريا.
أعلن الأوروبيون أنهم لا يقبلون بنقض الاتفاق النووي وفرض عقوبات مشددة على إيران. وهذا يبدو مفهوما بحكم المصالح الاقتصادية الواسعة للأوروبيين فيها. غير أن هناك شكوكا حول مصداقيتهم أو على الأقل قدرتهم على مقاومة ضغوط إدارة ترمب. فالاتفاق النووي هو اتفاق مع أمريكا بنسبة تسعين في المائة. والشركات الأوروبية لها مصالح مع أمريكا أكبر من مصالحها في إيران ولا شك أنها تفضل السوق الأمريكية الأوسع على السوق الإيرانية.
وضع وزير الخارجية الأمريكية أوروبا في الزاوية وأصبح هامش المناورة بالنسبة لها ضعيفا بشكل كبير. وقد بدأت الشركات الأوروبية بالفعل في جدولة مغادرتها لإيران ووفق الموقع الإلكتروني لغرفة التجارة الإيرانية، فقد قررت شركات كبيرة مثل توتال وآني وسيمنز وإيرباص وأليانتس وساجا ودنييلي ومايرسك استعدادها لمغادرة إيران. وهذا يؤثر بلا شك على العلاقات الاقتصادية الإيرانية الأخرى مع أوروبا لاسيما بيع النفط الذي لا يتجاوز 20% من الصادرات الإيرانية لهذه المادة. 
تخشى إيران انصياع الأوروبيين للتهديد الأمريكي وانضمام الاتِّحاد الأُوروبي للعُقوبات تَفرِضها واشنطن، وهذا ما عبر عنه وزير الخارجيّة جواد ظريف بعد لقائه مع المَبعوث الأوروبي للطَّاقة ميغيل أرياس كانيتي في طِهران حين قال إنّ "تعهدات أوروبا بإنقاذ الاتفاق النووي غير كافية ويجب القِيام بخطوات إضافيّة، لأن الدعم السياسي ليس كافيا".
ومع ذلك يبق أمام إيران علاقاتها مع الصين وروسيا والكثير من البلدان الأخرى ومنها الآسيوية.. فالصادرات النفطية يذهب 70% منها إلى الصين وحجم التبادل التجاري الصيني الإيراني يبلغ ستين مليارا من الدولارات. وليس من مصلحة الصين السكوت على المحاولات الأمريكية إلحاق الضرر بعلاقاتها الاقتصادية مع إيران.
لكن ما يجب أن تحسب له طهران حسابا هو الغموض الروسي الذي عكسه تصريح الرئيس الروسي بعد لقائه الرئيس السوري عن ضرورة انسحاب كل القوات الأجنبية والبدء بعملية سياسية في سوريا. فهو لم يستثن إيران. وهذا ما أكده المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى سوريا، ألكسندر لافريننييف، الذي قال إن تصريح بوتين "يخص كل المجموعات العسكرية الأجنبية، الموجودة على أراضي سوريا، بمن فيهم الأمريكيون والأتراك وحزب الله والإيرانيون".
لكن فيصل المقداد نائب وزير الخارجية السوري رد بالقول إن "هذا الموضوع غير مطروح للنقاش، ولا يمكن أن نسمح لأحد بطرحه". وعلل المقداد ذلك بكون إيران دخلت بدعوة من القيادة السورية، فهو يميز بين وجود شرعي للقوات الروسية والإيرانية ووجود غير شرعي للقوات التركية والأمريكية. ولذلك أكد أن "انسحاب أو بقاء القوات المتواجدة في سوريا بدعوة من الحكومة هو شأن يخص الحكومة السورية". وهذا كله قد يعكس وجود خلاف سوري روسي حول الوجود العسكري الإيراني، مما يطرح تساؤلات حول حقيقة النوايا الروسية تجاه إيران.
ومع ذلك كله من الممكن الفصل بين موقف الروس من استمرار الوجود الإيراني في سوريا، وموقفهم من التهديدات الأمريكية. وبالفعل فقد أعلنت روسيا عن انحيازها لإيران في مواجهة الولايات المتحدة وقالت إن المحاولات الأميركية لاعتبار إيران تهديدا عالميا كبيرا على المنصات الدولية غير مجدية.
أما الثلاثي الخليجي الذي تقوده السعودية فقد اصطف خلف التهديدات الأمريكية. فهو لا يستطيع سوى الاستجابة للخطوات الأمريكية. وليس غريبا أن يسارع تبعا لذلك إلى تأييد العقوبات الأمريكية ضد قيادات "حزب الله".
بل إنها تفعل أكثر مما هو مطلوب منها بعد أن تحوّلت إيران إلى عدو أخذ مكان "إسرائيل" التي تبرع وزير خارجية البحرين بإعطائها الحق في قتل الغزاويين في مسيرات العودة الأخيرة بدعوى الدفاع عن النفس.
يريد الأمريكيون تخويف الخليج بإيران من أجل تسهيل ارتمائه في الحضن الصهيوني فوق الطاولة بعد أن استمر الأمر لعقود تحتها. وقد تكون العقوبات الأمريكية خطوة إضافية لتحويل السعودية والإمارات والبحرين بشكل خاص إلى ساحات لحرب متوقعة على إيران، بعد أن لعبت أدوارا مشابهة في العراق وسوريا.
يفهم الإيرانيون حقيقة النوايا الأمريكية في تغيير النظام والتي لم تعد خفية بعد أن قال مستشار الأمن القومي جون بولتون إن إيران لن تحتفل بعيد ثورتها الأربعين. وهم يعرفون أن الحرب الأمريكية قد بدأت في سوريا من خلال الاعتداءات الإسرائيلية. أما ردودهم فإنها تحاول التريث من أجل تبيُّن حقيقة مواقف حلفائها الصينيين والروس.
يقرع الأمريكيون طبول الحرب بعد أن تخلص ترمب من "الحمائم" في حكومته وجاء بوجوه شرسة وعنصرية وكارهة للإسلام والمسلمين ومستعدة لفعل أي شيء من أجل مخططات الصهيونية العالمية في تغيير خرائط المنطقة وتحويل إسرائيل من كيان صغير ومعزول إلى دولة كبيرة ومندمجة في المنطقة. لكن المؤكد أن إيران سيكون لها رأي آخر.


بلديات تونس: لماذا ينبغي للطبقة السياسية أن تقلق؟






قاسم شعيب


ربما كان مجرد إجراء الانتخابات البلدية بعد سبع سنوات من التعطيل شيئا إيجابيا. لكن المؤكد أن تلك الإيجابية كانت ستتضاعف لولا الهوة العميقة، التي حفرتها سنوات من الممارسة السياسية العقيمة، بين الشعب والطبقة السياسية.
من الواضح أن الانتخابات البلدية تختلف عن الانتخابات التشريعية والرئاسية، بسبب طابعها المحلي والإمكانيات الواسعة لتشكيل القوائم المستقلة ذات الطابع المحلي الكامل، حيث يمكن لأبناء حي أو تجمع سكني أو عائلة كبيرة أو رجل أعمال تشكيل قائمة انتخابية. والعدد الكبير للقوائم المستقلة يعكس هذه الحقيقة. ورغم نسبة الإقبال الضعيفة، إلا أن نجاح التجربة الديمقراطية المحلية، يمكنه أن يكون حافزا لاستعادة الثقة في العملية الانتخابية.
لم يتجاوز عدد الناخبين 1.8 مليون ناخب أي ثلث أصوات المسجلين البالغ عددهم أكثر من خمسة ملايين، وخمس مَن يحِقّ لهم الانتخاب وهو ثمانية ملايين ناخب. لم تكن هذه الانتخابات تحمل طابعا سياسيا مباشرا، لكن نتائجها كانت ذات دلالة سياسية كبيرة تعكس موقفا شعبيا من الطبقة السياسية.
كان حجم المقاطعة كبيرا حيث لم يشارك ثمانون بالمائة على الأقل من الناخبين. وهو ما جعل انتصار حركة النهضة الذي أعلنته انتصارا بطعم الهزيمة بعد أن تراجعت كتلة الأصوات المؤيدة لها إلى 400 ألف فقط، بينما كان قرابة 1.4 مليون صوت في 2011، وهو ما يعني أنها خسرت في سبع سنوات مليون صوت.
لكن نداء تونس هو الآخر تلقى هزيمتين. الأولى حلوله ثالثا بعد المستقلين والنهضة، والثانية خسارته لعدد كبير من كتلته الانتخابية التي تراجعت من 1.2 مليون صوت عام 2011 إلى 350 ألف صوت في هذه الانتخابات أي أنه خسر هو الآخر 850 ألف صوت.
لم تكن النتائج مفاجأة، فالجميع تقريبا توقع فوز النهضة والنداء. ورغم أن المنافسة بين الحزبين تبقى حقيقية، إلا أن ذلك لا يلغي التوافق بينهما بعد "المصالحة التاريخية" التي أنجزها الباجي قايد السبسي وراشد الغنوشي في أوت - أغسطس 2013 في باريس، وهو ما أكده رئيس حركة النهضة إثر صدور النتائج الأولية.
وهذا التوافق بين الحزبين لابد أن يكون له تأثيره الكبير على قوائم المستقلين الفائزة. فمن المتوقع أن يفقد الكثير منها وزنه بسبب التنسيق المتوقع بين النداء و النهضة، لأن ذلك التنسيق سيعيد توزيع الأغلبية في أكثر المجالس البلدية، لتصبح تحت سلطة الثنائي الحاكم.. وسيعني ذلك انتقال التنسيق من المستوى الحكومي والبرلماني إلى المستوى المحلي. وهذا سيطرح أسئلة حول موقف بقية الأحزاب وبشكل أساسي التيار الديمقراطي والجبهة الشعبية حول إمكانية دخولها في حوارات مع الحزبين الفائزين.
من الواضح أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي أنتجتها الخيارات الحكومية كانت حاسمة في مقاطعة أكثر الناس لصناديق الاقتراع ومعاقبة الطبقة السياسية، وفي نتائج الانتخابات. غير أن الكثير من الخيارات الأخرى ساهمت في هذا التراجع الكبير وأهمها تخلي حركة النهضة عن الكثير من قناعاتها القديمة حول التحرر والعدالة الاجتماعية والقيم الدينية وفلسطين والتطبيع.. وهو ما أبعد عنها جزء كبيرا من قاعدتها الشعبية. فالمسألة لا تتعلق فقط بأدائها السياسي والاقتصادي. وكذلك انشقاق نداء تونس على نفسه أكثر من مرة ليخرج من رحمه الكثير من الأحزاب وهو ما أضعفه إلى حد كبير، فضلا عن تحوّل الحزب إلى ما يشبه الاقطاع السياسي حيث يرأس نجل الرئيس الحزب بعد التخلص من أهم القيادات المؤسِّسة. وتخلِّيه عن كل الوعود التي وزّعها قبل الانتخابات السابقة والتي لم ينفذ منها شيئا.
رسّخت الانتخابات تزعّم الحزبين الحاكمين للمشهد السياسي وهما النهضة والنداء. وهذا الأمر لابد أن يزعج بقية الأحزاب التي لا تريد رؤية ذلك. لم تأت حركة النهضة أوّلا، بل كان ذلك نصيب المستقلين على اختلاف توجهاتهم. وهذا يعني أن الناخبين باتوا يفضّلون المستقلين على الأحزاب بعد فشل تجاربهم في الحكم حتى الآن على الأقل.
ترتبط الديمقراطية في الأنظمة الليبرالية بالمال بشكل واضح. ولا مجال لفوز حزب ضعيف في تمويله مهما كانت وجاهة رؤيته وسلامة توجهاته. وقد رسّخت هذه الانتخابات قوة المال، الذي تملكه حركة النهضة وحزب النداء، في تسيّد المشهد السياسي. لكن المال نفسه لم يقنع أكثر الناس فكانت نسبة المقاطعة قياسية وفاضحة بالنسبة لتجربة "ديمقراطية" ناشئة.
لم ينجح الإعلام في غسل عقل القاعدة الشعبية الواسعة ولم يُغْرِها المال، وقدم الناس موقفا واضحا من الطبقة السياسية، أكدوا من خلاله أنهم لا يعطون صكوكا على بياض لأي كان.. كان الإنذار الذي تلقته الطبقة السياسية قويا، وقد فهم الجميع الرسالة. غير أنه لا شيء يشير إلى قدرتهم على مراجعة خياراتهم بعد أن تورطوا جميعا في المشي في المسار الذي رسمته البنوك الدولية بكل ملحقاته الاقتصادية والاجتماعية وحتى التشريعية والثقافية.
وإذا لم تستخلص الطبقة السياسية الحاكمة الدرس قبل الاستحقاق الانتخابي القادم سواء التشريعي أو الرئاسي، فإن المقاطعة ستتواصل، وربما ستتوسع أكثر. وهذا ما يمكن أن يسمح بظهور قوة سياسية جديدة كما حدث في بلدان أخرى، وهو ما سيشكل منعرجا حاسما ومحددا لمستقبل التوافق الحاكم.


الأحد، 20 مايو 2018

بوتين ونتانياهو... والكعكة السورية






قاسم شعيب

عندما قرر بوتين الدخول إلى سوريا بدعوة من القيادة السورية كما قيل ويقال كان ذلك لثلاثة أشهر بشكل معلن. ولا شك أن ذلك لم يحدث بل استمر الروس حتى الآن رغم أنهم أعلنوا قبل سنتين أنهم سينسحبون ثم تبين أن المهمة لم تنجز وأن ما قيل كلام ليل.
أكثر من مرة صرح قادة الجيش الروسي أنهم تمكنوا من تجربة أنواع كثيرة من أسلحتهم الجديدة.. تلك الأسلحة لا شك أنها جُرِّبت في اللحم السوري الحي ولم تستثن اللحم المدني المر الذي لا ناقة له ولا جمل في كل ما حدث ويحدث سوى أن المسلحين والإرهابيين اتخذوا أحياءهم السكنية معقلا وحاضنة طوعا أو كرها..
العلاقات الروسية السورية قديمة وتعود إلى حقبة الاتحاد السفياتي. ولا شك أن التحالفات الدولية أمر قائم ومفهوم. ولكن عندما يكون هناك طرف آخر يفترض أنه عدو يقيم معه الروس أفضل العلاقات وينسق معه ضرباته على المواقع العسكرية السورية أو الإيرانية الحليفة فحينها لابد ان يطرح السؤال: مع من يقف الروسي؟..
كيف يمكننا أن نتصور للحظة حاكما يدّعي الوقوف مع سوريا في حربها ضد داعش والارهاب بينما لا يتردد في الذهاب الى حائط المبكي ويضع على رأسه تلك القبعة ويتبادل الزيارات الدورية لتنسيق المواقف والعمليات التي لا يعلم تفاصيلها الا الله... وبعض مخلوقاته؟.. ماذا سيكون موقفنا منه؟ سنقول طبعا إن الأمر مريب أو سنقول مباشرة إنه خائن ويجب طرده.. إلا إذا كان السوري نفسه يلعب تحت الطاولة أو بلا حول ولا قوة!..
يعلم الجميع علاقة أبو تين بيهود بلاده وكيف أوصلوه إلى الحكم.. لكن الإضافة هي علاقاته التي تصف بما فوق الفوق مع الصهاينة. آخر ما أكد هذا الكلام زيارة نتانياهو المجللة بالبهرجة وألوان الطيف.. احتفال رسمي مهيب واستقبال من الميتا خيال وتصريحات نتانياهوية مستكبرة ومادحة لجلالة الرئيس أبو تين..
الاتفاق بين روسيا وإسرائيل صار واضحا. سنترك لكم أمر قصف المواقع الإيرانية والسورية واللبنانية ولكن لا تقتربوا من المواقع الروسية. وكونوا على ثقة، لن نسلّم السوريين اس 300 ولا فاس 500 ولا أي سلاح يصنع التوازن العسكري..
إخراج إيران من سوريا مصلحة روسية إسرائيلية مشتركة. فإيران هذه جيء بها من أجل أن تكون الضد المكافئ للحركات الإرهابية المسلحة المدعومة أمريكيا وخليجيا بعد أن بدأ يميل ميزان الغلبة لصالحها. فالأمر لا يتعلق بإسقاط النظام السوري ولا قيادته بل يتعلق بسوريا الدولة والكيان والشعب. كان المطلوب تدمير سوريا ولأجل تحقيق ذلك كان لابد من قوتين متوازنتين حتى تستمر الحرب تماما كما حدث في الحرب العراقية الإيرانية التي أكد هنري كيسنجر أن الأمريكان أرادوا إطالتها وأن لا يخرج منها أي طرف منتصر.. أما إسقاط النظام فمؤجل إما لأنه لم يكن ممكنا طوال السنوات الماضية أو لأنه يفي بالغرض ولا داعي لتغييره..
تريد إسرائل الآن إخراج إيران من سوريا لأنها لا تأمن وجودها العسكري على تخومها، أو لأنها قامت بما كان مطلوبا منها دون أن تعي بذلك والآن انتهت مهمتها. ويريد الروس أن يتخلصوا من شريك في الكعكة السورية.. لم يبق أمام إيران سوى خيارين لا ثالث لهما: إما مواصلة تلقي الضربات الإسرائيلية دون رد جدي ورادع والاستسلام والمغادرة تبعا لذلك. أو الرد القوي والدخول في حرب لن تكون ضد إسرائيل وحدها بلا شك.. وهذا هو مأزق إيران التي استدرجت وكانت شبه مجبرة على الدخول للدفاع عن حليفها حتى وإن اضطرت لتركيب مبررات دينية وأمنية صدقها معشر الأنصار..
يريد الصهاينة إخراج إيران لتحقيق هدفين غير معلنين. فالأمر لا يتعلق بتهديد إيران للأمن الإسرائيلي بل يتعلق بأمرين آخرين في غاية الخطورة. الأول هو الاستفراد بسوريا حيث أن الروسي مضمون ولا يمكنه منع الصديق والحليف الصهيوني من إطلاق العنان لغرائزه المجنونة في الشام. والثاني يتعلق بإرسال إيران للخليج من أجل توريطها في حرب جديدة ضد السعوديين وحلفائهم الواضحين او المعتمين.. أما الهدف من وراء ذلك فهو ضرب الخليجيين بالايرانيين وتفكيك الجميع...
يميل المراقبون السياسيون، إلى استبعاد حروب جديدة في الشام والخليج. غير أن إسرائيل وقادة الصهينونية لا يفكرون سياسيا كما يظنون بل يفكرون دينيا. فالدين هو الذي يحرك إسرئيل وأمريكا. والاسم المشترك الذي يسكن العقول هناك هو "المسيح".
يأمل الصهاينة في خروج ملكهم المتوّج على كرسي الهيكل في القدس المحتلة ليحكم العالم ألف سنة كما يزعمون. ويأمل الإنجيليون في الغرب والأرتودكس في الشرق في عودة المسيح الحقيقي ليباشر إنقاذ الانسانية...
وحدهم العرب والمسلمون صدقوا الكذبة وتخلوا عن دينهم وأصبحت قصة المهدي المتواترة في كتبهم الدينية خرافة.. وحدهم العرب باتوا بلا دين بعد أن نجح الغرب في تشليحهم كل شيء: دينهم وعروبتهم ونفطهم وعقولهم وحتى رجولتهم!



إصلاحات بطعم كريستين!




قاسم شعيب



رفعت الحكومة التونسية شعار "الإصلاحات الكبرى" وجعلت منه عنوانا لآخر ندواتها، في اعتراف ضمني بوجود خلل كبير في الإدارة الاقتصادية والاجتماعية لمشاكل البلد الذي يواجه صعوبات اقتصادية متنوعة.
على مدى السبعة أعوام الماضية مرت تونس بثلاث مراحل متداخلة أحيانا. المرحلة الأولى كانت مرحلة الفوضى واللا استقرار عندما كثرت الإضرابات والاعتصامات والعمليات الإرهابية التي شلّت حركة الإنتاج ودفعت الكثير من المصانع والشركات إلى الإغلاق لترتفع نسبة البطالة وتتراجع قيمة الدينار وتنكمش السياحية.. الأمر الذي فاقم عجز الميزانية والميزان التجاري. والمرحلة الثانية هي اندفاع الحكومات المتعاقبة لطلب القروض من البنوك الدولية لتغطية العجز في الميزانيات. ولا شك أن تلك البنوك لا تقدم قروضها إلا بشكل مشروط.
أما المرحلة الثالثة فهي قرار الحكومة تقليص الدعم للمحروقات ورفع الأسعار بشكل دوري ورفع سن التقاعد وتخفيض سعر الدينار وبيع بعض المؤسسات الكبرى بعد أن ساءت خدماتها. فبحسب بيان الصندوق الدولي يتعيّن تخفيض دعم الطاقة من خلال إقرار زيادات في أسعار الطاقة المحلية بشكل دوري لضمان انخفاض عجز الميزانية. وهناك ضرورة لتجميد الأجور ورفع سن التقاعد وإجراء إصلاحات بارامترية إضافية في معاشات التقاعد لاحتواء العجز في نظام الضمان الاجتماعي.
هذه المرحلة لم تبدأ اليوم، بل انطلقت منذ سنتين بإجراءات أخرى مثل خفض عدد الموظفين من خلال إيقاف الانتدابات في الوظيفة العمومية، ثم خفض الأجور العمومية من خلال التخفيض في قيمة الدينار تجنبا لأية ردة فعل اجتماعية إذا تم خفض تلك الأجور بشكل مباشر.
يسمي رئيس الحكومة هذه المرحلة بـ"الإصلاحات الكبرى" التي أعلنت الجبهة الشعبية واتحاد الشغل عن مقاطعة ندواتها وجلساتها وقالا إنهما لا يريدان أن يكونا شاهدي زور على "إملاءات صندوق النقد الدولي" الذي ترأسه كريستين لاغارد.
"حزمة الإصلاحات" التي يطالب بها المقرضون لخفض العجز، ليست إلا خطوة أخرى تؤدي بالضرورة إلى محاصرة الناس في معيشتهم اليومية وقبولا آخر بشروط وتوصيات لا تخدم مصالح البلاد ولا حتى الحكومة نفسها.
تشير البيانات الأخيرة لصندوق النقد الدولي حول تونس بعد زيارة قامت بعثة من صندوق النقد الدولي يقودها بيورن روتر في النصف الأول من أفريل - نيسان الجاري إلى تحسن النمو الاقتصادي، تدفعه جودة الموسم الزراعي، وزيادة الاستثمار، والتعافي المبكر الذي تشهده الصادرات. غير أن نسبة المخاطر التي يتعرض لها الاقتصاد الكلي ارتفعت. فالتضخم ارتفع بسرعة مسجلاً 7.6% في شهر مارس، وتغطية الاحتياطيات الدولية لا تزال أقل من 90 يوماً من الواردات، والدَّيْن العام والخارجي بلغا 71% و 80% من إجمالي الناتج المحلي، على التوالي. وهو ما أثر على عمليات سداد الديون، حيث قدرت نفقات خدمة الدين خلال الفترة المتراوحة بين 2008 و2018 بنسبة 19 في المائة من ميزانية الدولة، وهو ما يشكل أكبر باب للنفقات العامة في تونس.
ورغم الأرقامِ المعلنة، تصرُّ حكومة الشاهد على اعتبار الالتجاء إلى صندوق النقد الدولي ضرورة لا مفر منها، وتقول إنها هي التي ذهبت إليه ولم يأت إليها. لا فرق بين أن تذهب الحكومة إليه أو أن يأتي هو إليها مادامت الحكومة نفسها قد أصبحت مرتهنة لتوصياته المتكررة ولا تستطيع اتخاذ القرارات الضرورية والموجعة في الداخل لتصحيح الخلل.
يهمل الاقتصاديون الرسميون هذه الانتقادات ويغرقون في تفاصيل لا تزيد عن كونها تفسيرا نظريا لخطوات تنوي الحكومة اتخاذها. من الواضح أن تلك النخبة، التي تحضر بكثافة في وسائل الإعلام المختلفة، واقعة تحت رحمة الخطوط الحمر المفروضة. ولا شك أن ذلك يُرضي صندوق النقد الدولي الذي لا يريد أن يخسر حريفا لو تمّ التوجه إلى حلّ مشاكل البلاد الاقتصادية بشكل ذاتي من خلال تأميم الثروات الطبيعية ومحاربة الفساد والتهريب وإطلاق المشاريع الكبرى.
يعترف المختصون أن الوضع الاقتصادي بات حرجا، وأن السيناريو اليوناني لن يكون بعيدا إذا لم تتدارك الحكومة أخطاءها. فاحتياطي العملة الأجنبية لم يعد يغطي واردات البلاد لأكثر من 89 يوما، بينما يستمر تدهور الدينار أمام العملات الأجنبية.
تضع "الإصلاحات الكبرى" رئيس الحكومة أمام خيارين متناقضين أحلاهما قد يكلّفه قصر القصبة. فهو من جهة مطالب بإرضاء البنوك الدولية وتطبيق "توصياتها"، ومن جهة أخرى يحتاج إلى تلبية مطالب الشارع الذي بدأ فعليا في التحرك ضد تلك الخطوات.