الخميس، 24 مايو 2018

بلديات تونس: لماذا ينبغي للطبقة السياسية أن تقلق؟






قاسم شعيب


ربما كان مجرد إجراء الانتخابات البلدية بعد سبع سنوات من التعطيل شيئا إيجابيا. لكن المؤكد أن تلك الإيجابية كانت ستتضاعف لولا الهوة العميقة، التي حفرتها سنوات من الممارسة السياسية العقيمة، بين الشعب والطبقة السياسية.
من الواضح أن الانتخابات البلدية تختلف عن الانتخابات التشريعية والرئاسية، بسبب طابعها المحلي والإمكانيات الواسعة لتشكيل القوائم المستقلة ذات الطابع المحلي الكامل، حيث يمكن لأبناء حي أو تجمع سكني أو عائلة كبيرة أو رجل أعمال تشكيل قائمة انتخابية. والعدد الكبير للقوائم المستقلة يعكس هذه الحقيقة. ورغم نسبة الإقبال الضعيفة، إلا أن نجاح التجربة الديمقراطية المحلية، يمكنه أن يكون حافزا لاستعادة الثقة في العملية الانتخابية.
لم يتجاوز عدد الناخبين 1.8 مليون ناخب أي ثلث أصوات المسجلين البالغ عددهم أكثر من خمسة ملايين، وخمس مَن يحِقّ لهم الانتخاب وهو ثمانية ملايين ناخب. لم تكن هذه الانتخابات تحمل طابعا سياسيا مباشرا، لكن نتائجها كانت ذات دلالة سياسية كبيرة تعكس موقفا شعبيا من الطبقة السياسية.
كان حجم المقاطعة كبيرا حيث لم يشارك ثمانون بالمائة على الأقل من الناخبين. وهو ما جعل انتصار حركة النهضة الذي أعلنته انتصارا بطعم الهزيمة بعد أن تراجعت كتلة الأصوات المؤيدة لها إلى 400 ألف فقط، بينما كان قرابة 1.4 مليون صوت في 2011، وهو ما يعني أنها خسرت في سبع سنوات مليون صوت.
لكن نداء تونس هو الآخر تلقى هزيمتين. الأولى حلوله ثالثا بعد المستقلين والنهضة، والثانية خسارته لعدد كبير من كتلته الانتخابية التي تراجعت من 1.2 مليون صوت عام 2011 إلى 350 ألف صوت في هذه الانتخابات أي أنه خسر هو الآخر 850 ألف صوت.
لم تكن النتائج مفاجأة، فالجميع تقريبا توقع فوز النهضة والنداء. ورغم أن المنافسة بين الحزبين تبقى حقيقية، إلا أن ذلك لا يلغي التوافق بينهما بعد "المصالحة التاريخية" التي أنجزها الباجي قايد السبسي وراشد الغنوشي في أوت - أغسطس 2013 في باريس، وهو ما أكده رئيس حركة النهضة إثر صدور النتائج الأولية.
وهذا التوافق بين الحزبين لابد أن يكون له تأثيره الكبير على قوائم المستقلين الفائزة. فمن المتوقع أن يفقد الكثير منها وزنه بسبب التنسيق المتوقع بين النداء و النهضة، لأن ذلك التنسيق سيعيد توزيع الأغلبية في أكثر المجالس البلدية، لتصبح تحت سلطة الثنائي الحاكم.. وسيعني ذلك انتقال التنسيق من المستوى الحكومي والبرلماني إلى المستوى المحلي. وهذا سيطرح أسئلة حول موقف بقية الأحزاب وبشكل أساسي التيار الديمقراطي والجبهة الشعبية حول إمكانية دخولها في حوارات مع الحزبين الفائزين.
من الواضح أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية التي أنتجتها الخيارات الحكومية كانت حاسمة في مقاطعة أكثر الناس لصناديق الاقتراع ومعاقبة الطبقة السياسية، وفي نتائج الانتخابات. غير أن الكثير من الخيارات الأخرى ساهمت في هذا التراجع الكبير وأهمها تخلي حركة النهضة عن الكثير من قناعاتها القديمة حول التحرر والعدالة الاجتماعية والقيم الدينية وفلسطين والتطبيع.. وهو ما أبعد عنها جزء كبيرا من قاعدتها الشعبية. فالمسألة لا تتعلق فقط بأدائها السياسي والاقتصادي. وكذلك انشقاق نداء تونس على نفسه أكثر من مرة ليخرج من رحمه الكثير من الأحزاب وهو ما أضعفه إلى حد كبير، فضلا عن تحوّل الحزب إلى ما يشبه الاقطاع السياسي حيث يرأس نجل الرئيس الحزب بعد التخلص من أهم القيادات المؤسِّسة. وتخلِّيه عن كل الوعود التي وزّعها قبل الانتخابات السابقة والتي لم ينفذ منها شيئا.
رسّخت الانتخابات تزعّم الحزبين الحاكمين للمشهد السياسي وهما النهضة والنداء. وهذا الأمر لابد أن يزعج بقية الأحزاب التي لا تريد رؤية ذلك. لم تأت حركة النهضة أوّلا، بل كان ذلك نصيب المستقلين على اختلاف توجهاتهم. وهذا يعني أن الناخبين باتوا يفضّلون المستقلين على الأحزاب بعد فشل تجاربهم في الحكم حتى الآن على الأقل.
ترتبط الديمقراطية في الأنظمة الليبرالية بالمال بشكل واضح. ولا مجال لفوز حزب ضعيف في تمويله مهما كانت وجاهة رؤيته وسلامة توجهاته. وقد رسّخت هذه الانتخابات قوة المال، الذي تملكه حركة النهضة وحزب النداء، في تسيّد المشهد السياسي. لكن المال نفسه لم يقنع أكثر الناس فكانت نسبة المقاطعة قياسية وفاضحة بالنسبة لتجربة "ديمقراطية" ناشئة.
لم ينجح الإعلام في غسل عقل القاعدة الشعبية الواسعة ولم يُغْرِها المال، وقدم الناس موقفا واضحا من الطبقة السياسية، أكدوا من خلاله أنهم لا يعطون صكوكا على بياض لأي كان.. كان الإنذار الذي تلقته الطبقة السياسية قويا، وقد فهم الجميع الرسالة. غير أنه لا شيء يشير إلى قدرتهم على مراجعة خياراتهم بعد أن تورطوا جميعا في المشي في المسار الذي رسمته البنوك الدولية بكل ملحقاته الاقتصادية والاجتماعية وحتى التشريعية والثقافية.
وإذا لم تستخلص الطبقة السياسية الحاكمة الدرس قبل الاستحقاق الانتخابي القادم سواء التشريعي أو الرئاسي، فإن المقاطعة ستتواصل، وربما ستتوسع أكثر. وهذا ما يمكن أن يسمح بظهور قوة سياسية جديدة كما حدث في بلدان أخرى، وهو ما سيشكل منعرجا حاسما ومحددا لمستقبل التوافق الحاكم.


ليست هناك تعليقات: