الأربعاء، 24 أكتوبر 2018

الراقص أردغان!





قاسم شعيب


بعد أن رفع أردغان سقف التوقعات عاليا قبل خروجه إلى الناس بخطاب عن قضية الصحفي السعودي جمال خاشقجي، صُدِم الكثيرون بخطاب فارغ لا يتضمن جديدا. كرّر أردغان ما سربته الصحافة والإعلام على مدى أيام ولم يفعل أكثر من التلميح إلى تورّط جهات رسمية سعودية أساسية.
لم يكن ذلك غريبا بالنسبة للرئيس التركي الذي لا يمكنه تجاوز السقف الأمريكي الذي حَدّد مسبقا الحد الأعلى لتلك التصريحات بعد وصول مديرة المخابرات الأمريكية على عجل إلى أنقرة بعد أن غادرها وزير الخارجية بلدها بومبيو. فلابد أن تنسيقا جرى لتحديد النقاط التي يمكن أن تقال والنقاط التي لا ينبغي أن تقال.
لا يبدو أن أردغان قادر على اتخاذ مواقف جذرية. بل إن قضية خاشقجي ربما مثلت فرصة بالنسبة له لابتزاز السعودية. والابتزاز يتطلب الاحتفاظ ببعض الأوراق أو كلها وعدم إلقائها. من الواضح أن المخابرات التركية كانت على علم مسبق بالعملية وقد جهزت كل ما تحتاج لتوثيق العملية وتركها تأخذ مجراها دون تدخل. أما كيف عرفت المخابرات التركية بذلك فهناك طرق كثيرة. ولعل وجود التركية خديجة التي رافقت خاشقجي إلى القنصلية وقالت إنها خطيبته يمثل أحد مفاتيح اللغز. اتهمت خديجة بالولاء لفتح الله غولن الذي تخرجت من إحدى مدارسه واشترطت عليها السلطة التركية الانضمام الى حزب العدالة والتنمية لإطلاق سراحها. ثم انضمت لاحقا إلى الاستخبارات الخارجية التركية. والمعقول أن تكون خديجة قد أوقعت خاشقجي في فخها وكانت مكلفة بمهمة مرافقته لكشف تفاصيل عملية التصفية التي دبرتها المخابرات السعودية له من أجل الحصول على إثباتات للعملية. والمعقول أيضا أن يكون قد جرى ذلك بتنسيق كامل مع الاستخبارات الأمريكية.
برّر بعض المقربين من أردغان عدم اتهامه ولي العهد السعودي مباشرة بالعملية بأن المعلومات التي لديه لا تزال معلومات استخباراتية تجسسية تحتاج إلى تحقيق قضائي. وليس ممكنا له استباق عمل القضاء. هذا الكلام سيكون وجيها لو كان حقيقيا ويطبق على القضايا المشابهة مثل اتهام غولن وأنصاره بتنفيذ انقلاب فاشل واعتقال الآلاف من الناس بتهم لا يمكن أن تثبت مثل المشاركة في الانقلاب بينما يعرف الجميع أن الانقلابات هي عادة من تدبير جماعة محدودة العدد.
لم يكن عدم اكتمال التحقيقات هو سبب عدم توجيه الاتهام للرسميين السعوديين. بل إنه كان ممكنا في هذه الحالة نشر التسجيلات التي قال الإعلام التركي إنها تثبت تورط سعود القحطاني وولي العهد في العملية. لكن ذلك لم يحدث. وهذا ما أراح ولي العهد السعودي الذي خرج اليوم مشيدا بأردغان ومتحدثا عن تركيا الشقيقة بدل تركيا العصملية!
يقول الإعلام السعودي أن المتهم بري حتى تثبت إدانته. سيتطلب الأمر مقدارا من الغباء حتى يقول صاحبه هذا الكلام بعد أن اعترف الرسميون السعوديون بالجريمة. لا توجد في السعودية مؤسسات من أي نوع. فلا دستور ولا برلمان ولا انتخابات ولا شفافية ولا رقابة ولا قضاء مستقل ولا إعلام ضاغط ولا حريات ولا عدالة، بل كل ما يوجد هو فقط فرد أو أفراد يحكمون بشكل مزاجي ومطلق ولا رقيب عليهم في كل ما يفعلون. ويبدو أن أردغان الذي طار إليه خالد الفيصل وقدم له حزمة من الإغراءات لإسقاط القضية قد خضع لذلك رغم أنه صرح أنه لا يقبل الرشوة السياسية. من المرجح أنه قال ذلك لإبعاد الشبهة بعد أن علم الرأي العام التركي بمجي الأمير السعودي.
تمر بتركيا منذ سنوات عواصف متتالية. فمن الأزمة السورية انتقلت إلى الأزمة مع الروس ثم ظهرت أزمة الانقلاب فأزمة القس الأمريكي وعقوبات ترمب. ووصلنا أخيرا إلى أزمة الصحفي خاشقجي. وفي كل تلك الأزمات برهن أردغان أنه لاعب سياسي ماهر ولكن دون قيم وأخلاقيات. فهو يعد ويخلف، يبيع ويشتري، مبديا استعداده لفعل أي شي فقط لضمان مصالح قد تكون شخصية أكثر منها وطنية.
يعزف ترمب فيرقص أردغان فيُعجَب بذلك ابن سلمان!


الثلاثاء، 23 أكتوبر 2018

هل وقع طارق رمضان في فخ أم أنه كان فعلا يمارس الإزدواجية؟






قاسم شعيب


لم يتردد الإعلام الغربي في إسباغ الألقاب الفخمة على الأكاديمي والباحث السويسري من أصل مصري طارق رمضان، فوصفته الواشنطن بوست بمارتن لوثر الاسلام واعتبرته تايم الأمريكية نجما إسلاميا وعدته من بين أهم مائة شخصية في العالم. بينما أطلق عليه آخرون ألقابا مثل مالكم إكس الأبيض ومارتن لوثر كينغ المسلم. ورغم أن الأخ الأكبر، كما يسميه عشّاقه، يلقَى الكثير من الحضوة في أوروبا والغرب وفي كثير من بلاد العرب، إلا أنه يواجه منذ فترة أوقاتا صعبة بعد ظهور امرأة فرنسية على إحدى شاشات التلفيزيون في فرنسا تتهمه بالتحرش والاغتصاب، ثم تلتها أخرى، ليرفعا معا قضيتين ضده وهو ما اضطره إلى طلب إجازة من جامعة اكسفورد التي يعمل بها، ورفع قضية مضادة ضد المرأتين، معتبرا نفسه مستهدفا بسبب خطابه. غير أنه لم يجد مفرا أخيرا، هذا الإثنين، من الاعتراف أنه كذب وأنه فعلا أقام علاقات جنسية مع المرأتين هند عياري وكريستال.
مستنير أم محافظ؟
يجد المتابعون لطارق رمضان ونشاطاته من هواة التصنيف صعوبة في فهم فكر الرجل وهل هو اصلاحي مستنير أم داعية محافظ، ليبرالي غربي أم إسلامي غربي.. يرفض رمضان كل تلك التصنيفات ويعتبر نفسه مسلما غربيا، فهو لا يقدم نفسه محافظا ولا إصلاحيا ولا ليبراليا ولا حتى إسلاميا. تحاشى رمضان كل ذلك وركّز اهتمامه على تقديم خطاب اعتبره كثيرون متوازنا. ولعل إلمامه الواسع بالواقع الغربي وامتلاكه لعدة معرفية تراثية جعلاه يفرض رأيه في أغلب حواراته كما فعل مع نيكولا ساركوزي الرئيس الفرنسي السابق وجان ماري لوبان زعيم الجبهة الوطنية الفرنسية السابق. وتلك القدرة جلبت له احترام الكثير من الشباب المسلم في الغرب وجعلت أفكاره نموذجا بالنسبة للكثيرين من أجل الجمع بين الانتماء الديني الذي يحملونه وثقافة العصر الذي يعيشونه.
ولد رمضان ونشأ في سويسرا في عائلة متشبعة بالفكر الإخواني، فجَدُّه لأمه هو مؤسس حركة الإخوان المسلمين حسن البنا وأبوه سعيد رمضان هو السكريتير السابق للبنا.. عمل أستاذا في عدة جامعات أوروبية، وهو الآن مدير مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق ومقره الدوحة. وعضو في الفريق الاستشاري لوزارة الخارجية البريطانية في حرية الدين والمعتقد. وهو أيضا مستشار وخبير لدى عدة لجان في البرلمان الأوروبي. من الواضح أن نشاطاته الفكرية والسياسية والخيرية وأسفاره إلى دول عديدة مثل البرازيل والهند وإفريقيا ومقابلته لشخصيات مؤثرة مثل الدالاي لاما والأم تيريزا ودوم إيلدر كامار مؤسس ما يعرف بلاهوت التحرر، مكنته كلها من اكتساب صيت وتأثير كبيرين.
مستقبل الإسلام الأوروبي
يتحدث رمضان كثيرا عن مستقبل الإسلام الأوروبي في مجموعة من المحاضرات والمؤلفات. وهو يركز على عدم وجود تناقض بين الإسلام والعلمانية المنفتحة. وقد انتقد الإجراء الفرنسي لمنع الحجاب في المدارس واعتبره خطوة إلى الوراء مناقضة لقيم الحرية والعدالة والأخوة التي تمثل جزءا من شعارات الثورة الفرنسية.
وعندما كان الغربيون يتحدثون عن صراع الحضارات كان رمضان يتحدث عن صراع التصورات. فما يوجد في الواقع ليس صراعا حضاريا بين الاسلام والغرب ولكنه صراع بين تصورات مغلوطة عن الآخر بسبب المسبقات التي لا تستند إلى معطيات موضوعية. ولأجل إنهاء ذلك الصراع لا بد من التوقف عن إطلاق الأحكام المستندة إلى أفكار مسبقة. واحترام كرامة الإنسان حيث يتعرض المهاجرون إلى نمط جديد من العبودية والاستغلال من خلال استخدامهم في تجارة المخدرات والبغاء والأعمال الشاقة..
ولم يتردد رمضان في كشف الدور الذي يلعبه اللوبي الثقافي الصهيوني في الغرب من على المنابر الاعلامية الفرنسية بعد أن عمل إيريك زمور اليهودي من أصل جزائري على التقليل من أهمية طروحاته، واعتبره المحلل السياسي انطوان صفير أخطر مفكر إسلاموي في الغرب يقف ضد اندماج المسلمين في الغرب ويقدم خطابا مزدوجا. وهو الأمر الذي أصرت عليه كارولين فورست عندما عنونت كتابها عن طارق رمضان بـ"الخطاب المزدوج لطارق رمضان". وهذه الكاتبة هي التي تتدّعي أنها شجعت الناشطة، هنده عياري، لرفع قضية ضد رمضان، وتتهم كل المسلمين في فرنسا، بمعاداة السامية.
وازدواجية الخطاب التي يُتّهم بها رمضان أكد عليها آخرون خلال محاكمة صهيب بالشيخ ومحمد سيفاوي اللذان قالا إن رمضان يمارس ازدواجية حيث إنه يقول أمام الإعلام الغربي شيئا ويصرح أمام أنصاره المسلمين بشيء آخر. لكن رمضان رفض ذلك وأكد أن أفكاره واحدة وخطابه يختلف باختلاف الجمهور، وأن الذين يتهمونه بالازدواجية يركزون على مصادره ويهملون تحليلاته، مشيرا إلى أن الازدواجية هي في الاستماع بسبب رؤية دغمائية تصر على نفي وجود إسلام منفتح.
الإسلام وقراءاته
يميز طارق رمضان بين الإسلام والإسلامية. فالأول هو الدين ذاته. والثانية هي فهم المسلمين له. والخلط بين الإثنين هو ما يسبب الفوبيا المنتشرة في الغرب من الإسلام. وهو يعتبر أن الاختلاف في فهم الاسلام شيء طبيعي. ورغم انقسام المسلمين إلى كتلتين كبيرتين إلا أنهما معا مسلمين مادام الجميع ينطق الشهادتين. واختلاف التيارات الدينية المعاصرة يؤكد أن أفكارها لا تمثل إلا وجهات نظر خاصة تتراوح بين التوازن والاعتدال والعنف والتطرف. والحَرْفيون الذي لا يفهمون عمق النصوص ويتمسكون بالمتشابه فيها دون المحكم هم الأكثر تطرفا والأكثر إثارة لهواجس الغربيين.
وبسبب تأكيده على سماحة الإسلام ودعوته إلى السلام، تعرض رمضان إلى حملات متشددين بعضهم من التيار الوهابي وآخرون أعضاء في جماعة الاخوان المسلمين. فقد أصر على أهمية التعايش مع المجتمعات والثقافات التي يعيش مسلمون بينها، واعتبر أن الجهاد اليوم وسط تلك المجتمعات لابد أن يركز على الكلمة والحوار والإقناع. وهذا يعني ضرورة توسيع جغرافية النص وإصلاح فهمه في واقع مختلف، فالهدف ليس التكيّف مع الواقع ولكن تغييره وهو ما يفرض الاستعانة بمناهج عمليّة وفلسفية وإنسانية جديدة. وهذا ما أوصله إلى إعادة النظر في مسائل الفقه والشريعة وسلطة العلماء من أجل تحرير النص من القراءة الأحادية الدينية لتصبح تلك القراءة حقا لكل من يملك معرفة في أي مجال من المجالات العلمية الطبيعية أو الإنسانية. وهذه الجغرافيا الجديدة لفهم النص تعتمد على علم المقاصد الذي يملك القدرة على توسيع فهمنا للنصوص.
كان طارق رمضان يمارس في أوروبا دورا مزدوجا يجمع بين الفكر والسياسة. لكن خطابه لا يُرضي جهات متعددة. فالتيارات المتشددة لا تقبل بما يطرحه، وتعتبره خروجا عن النص. وفي الوقت نفسه يمثل ذلك الخطاب إزعاجا كبيرا لبعض اللوبيات الثقافية التي لا يعجبها خطاب رمضان. وتبقى هناك تساؤلات: هل تمت الإطاحة برمضان عبر إغوائه؟ أم أنه كان فعلا يمارس ازدواجية بين خطاب إسلاموي وممارسة مناقضة لذلك الخطاب؟ هل فرض نفسه فعلا أكاديميا ومفكرا في الجامعات والمراكز العلمية الغربية؟ أم أن الإعلام الغربي وجِهات أكاديميّة وسياسيّة أخرى استخدمته على مدى سنوات لجمع المعلومات وفهم طريقة تفكير قسم كبير من المسلمين، وهم الآن يرون أن دوره انتهى؟ 


السبت، 20 أكتوبر 2018

اعترافات ما بعد منتصف الليل!






قاسم شعيب


أخيرا اعترفت السلطة الرسمية السعودية بمقتل الصحفي جمال خاشقجي في قنصليتها بأسطنبول في بيان صدر بعد منتصف ليل الجمعة/ السبت. لكنها قالت إنه قتل في شجار بينه وبين أشخاص هناك، وقامت بإقالة مستشار ولي العهد سعود القحطاني ونائب رئيس الاستخبارات أحمد العسيري ولاة آخرين وكلّف الملك ولي عهده إعادة هيكلة جهاز المخابرات. لم يصدِّق المتابعون تلك الرواية المليئة بالثقوب والثغرات. وفهم الجميع أن تلك الإقالات والإجراءات لم تكن إلا محاولة للتغطية على الفضيحة التي لا تُغَطّى.
في البداية قال ولي العهد ابن سلمان إن خاشقجي غادر القنصلية. والآن يعترف أن مواطنه قتل في القنصلية ولكنه قال إنه توفي خلال شجار بينما يعلم الجميع الآن أن 15 ضابطا من المخابرات والحرس دخلوا القنصلية قبيل وصول خاشقجي. سنصدق إنه قتل خلال شجار ولكن بمعنى شجار مفتعل هاجمت فيه المجموعة وخنقت الرجل إلى أن أسلم الروح ليتم بعد ذلك تقطيعه.
يعكس الموقف السعودي المرتعش مقدار الاضطراب الذي وقع فيه نتيجة ما يبدو لنا فخّا كبيرا نجحت المخابرات الأمريكية في نصبته بإحكام ليس لولي العهد السعودي فحسب بل للرئيس الأمريكي أيضا.
أثارت رواية الشجار الكثير من السخرية مثلما أثارت رواية المنشار الكثير من الاشمئزاز. فنحن أمام دولة لا يعرف الملك فيها ماذا يجري حوله بينما يكذب ولي عهده ويكذب إعلامه ويكذب ذبابه الالكتروني ثم يتراجعون ليعترفوا بما كانوا ينفونه.
كان لابد بالنسبة لولي العهد من كبش فداء أو أكثر. فهو غير قادر على تحمل مسؤولية ما حدث. ولأجل ذلك تم اعتقال 18 شَخْصًا اتهموا بالتورط في الجريمة بينما أقيل خمسة آخرون أبرزهم اللواء أحمد عسيري، نائِب رئيس المُخابرات، وسعود القحطاني، المُستشار الإعلاميّ المُقرَّب لمحمد بن سلمان.
يعرف الرسميون الدوليون أن جريمة بهذه الطريقة لا يمكن تنفيذها دون علم الرئيس أو الملك. وفي حالة السعودية لا يمكن تنفيذها دون علم ولي العهد الحاكم الفعلي للبلاد في ظل تدهور الصحة العقلية للملك.
تواجه العائلة الحاكمة شبح النهاية. ومن كان مطّلعا على فلسفة التاريخ يعرف أن تسلط المتهورين والمجرمين على الحكم يعني النهاية. فالتهور الذي يبديه ولي العهد السعودي دون أي مقدار من الحكمة والتروي يعني أن مواقف أخرى مشابهة أو أكثر بؤسا يمكن أن تصدر عنه.
تواجه العائلة السعودية الحاكمة خطر النهاية. ولا يبدو أنها قادرة على النجاة من المصير المحتوم هذه المرة ليس فقط بسبب تهور ولي العهد، بل وبالأساس، بسبب تفكك الأسرة الحاكمة وانتشار الفقر وتوسع القمع وارتفاع منسوب الظلم السياسي والاجتماعي وتركز الحكم في يد واحدة بشكل استبدادي كما لم يحدث من قبل.. فمعروف عن الملك سلمان الذي كان أمير للرياض لعقود تجبره وغلظته. وقد انتقل معه ذلك بعد أن أصبح ملكا وورَّثه لنجله ولي العهد.
أراد الرسميون السعوديون إغلاق ملف خاشقجي باعترافهم بقتله في القنصلية بأسطنبول غير أنه لا شيء يشير إلى ذلك. بل إن المطالب الآن تتجه إلى ضرورة الكشف عن مصير جثته، فيما يبدو سيناريو محبوكا جيّدا للضغط على ابن سلمان وجعله يقول كل شيء ويعترف بكل شيء ولكن على مراحل.
قال ابن سلمان إن خاشقجي غادر القنصلية. وربما قصد أن الرجل غادر مقطّعا وملفوفا في أكياس بلاستيكية. ولأجل ذلك لن يصمت صوت الإعلام الذي يصدر أصواتا من واشنطن ونيويورك ومدن أمريكية أخرى ويجد له صدى في الاعلام العربي والأوروبي مادامت هناك حلقات أخرى لم تبث من المسلسل الدرامي.
لم يثر اغتيال أي معارض سعودي أو غير سعودي مثل هذا القدر من الاهتمام الإعلامي والدولي. ومن غير الممكن أن يكون ذلك بسبب أهمية الصحفي خاشقجي. وهذا يعني أن قتله كان عملية مصنوعة تماما لغايات سوف تبدأ بالظهور تباعا خلال الأيام والأشهر القادمة.
يحلو لبعضنا مقارنة ما حدث في 11 سبتمبر 2001، عندما تعرض مبنى مركز التجارة العالمي للانهيار وما يحدث اليوم. من الممكن أن تكون المقارنة وجيهة. فتلك كانت عملية مخابراتية أمريكية مموِّهة بمكر شديد لتبرير الهجوم على أفغانستان والعراق. وهذه قد تكون عملية لتبرير هجوم آخر ولكن بعنوان مختلف.
أمكن للمملكة السعودية في الماضي تجاوز أزمة 11 سبتمبر من خلال المال وصفقات الأسلحة، لكن أزمة خاشقجي قد لا تسمح بالشيء نفسه إذا كان الهدف هذه المرة أبعد من الابتزاز المالي ويصل إلى حد إسقاط النظام القائم من خلال جرّه لحروب مع جيرانه في المنطقة، تمهيدا لإعادة تشكل جغرافيتها السياسية وفق مخططات ما بات يعرف بصفقة القرن التي لم يتم الإفصاح عن تفاصيلها حتى الآن.
وصف ترمب الاعتراف السعودي بقتل خاشقجي بـ"أنّها خُطوة أُولى جيّدة، وما حَدث غير معقول". والخطوة الأولى لا بد أن تتبعها خطوات أخرى. وتلك الخطوات تبقى مبهمة ولكن يمكن أن نخمن ما هي. إنها لا تتعلق بإعادة هيكلة حكم الأسرة السعودية بل بدفعها نحو اللامعقول. فأمريكا لا تبحث عن إنقاذ هذه العائلة بل عن تحقيق أهداف الحركة الصهيونية التي تخدمها والتي تفكر فيما هو أبعد من المال.. أقصد الأرض والمقدسات الإسلامية. نتذكر كلام غولدا مائير في مارس عام 1968 م حين وقفت في خليج نعمة جنوب سيناء، وقالت: إنني أشم رائحة أجدادي في خيبر ويثرب وتيماء وصحراء فآران.. نَتَذكر ونُذكّر... "فإن الذكرى تنفع المؤمنين".


الثلاثاء، 16 أكتوبر 2018

اغتيال خاشقجي.. هل كان فخا أمريكيا له ما بعده؟






قاسم شعيب


بعد أحداث سقيفة بني ساعدة المعروفة، رفض سعد بن عبادة الاعتراف بشرعية الحاكم الجديد وبيعته وخرج إلى الشام. لم يمر وقت طويل حتى تعرض ابن عبادة إلى كمين وتم اغتياله. قيل حينها إن الجن قتلته!.. وأغلق الملف. حوادث الاغتيال السياسي كثيرة ومن يدبرها عادة هو المتضرر من الضحية. عادة ما يكون ذلك الضحية معارضا شرسا أو منشقا يملك أسرارا خطيرة يخشى الحاكم إفشاءها. والحالة الثانية هي حالة الصحفي جمال خاشقجي. فقد عمل الرجل لسنوات مستشارا إعلاميا للأمير تركي الفيصل وصديق للأمير الوليد بن طلال. لكنه ليس الأول الذي تتم تصفيته من المعارضة السعودية فقد سبق لناصر آل سعيد صاحب كتاب "تاريخ آل سعود الدمويين"، أن اعتقل في بيروت عام 1979 بمساعدة ياسر عرفات ورميت جثته في صحراء السعودية.
ساهم خاشقجي في فترة الثمانينيات في "الجهاد الأفغاني". وكان مقرباً من التيار السلفي في صيغته الليبرالية المتأثرة بمهاجري الإخوان المسلمين المصريين في السعودية. ومآخذه على السياسات الجديدة لابن سلمان ليست فكرية بالأساس، بل تكاد تكون شخصية بعد منعه من التغريد والكتابة في صحيفة الحياة. ومن الممكن أن تكون بقدر ما سياسية بسبب رفضه للطريقة التي يسعى من خلالها ولي العهد إلى التخلص من رموز التيار الصحوي الذي هيمن بعد حادثة جهيمان العتيبي عام 1979.
لم يعلن خاشقجي انشقاقه عن النظام السعودي ولكنه خير المغادرة وتوجيه انتقادات خفيفة حول السياسات الجديدة لبلاده. لم يكن شرسا ضد النظام ولم يقل شيئا يقوله عادة المعارضون الكبار لأنظمة الحكم الشمولية. غير أن ذلك لم يشفع له. ويبدو أن هناك خليطا من الخوف منه والحقد عليه عجل بنهايته. يخشى البلاط السعودي إفشاء الأسرار التي يحملها رجل كان قريبا من مخابرات البلد وهي أسرار عائلية كما هي أسرار دولة، ويحقد عليه لأنه منشق، والمنشق عن مثل تلك الأنظمة خائن يستحق القتل في عرفها.
أثبتت الصور والفيديوات أن خاشقجي دخل القنصلية السعودية في اسطنبول ولا يوجد دليل واحد على أنه خرج. دخل ولم يخرج. ولم تستطع الحكومة السعودية تقديم أية إجابات عن مصير الرجل. نقلت وكالات الأنباء أخبارا كثيرة عن تعذيب خاشقجي في القنصلية وقتله وتقطيع جسده بمنشار الكتروني. عندما خرجت الرواية لأول مرة كانت صادمة ومقززة. وشعر الجميع أننا أمام نظام متوحش بلا حدود. تقول الرواية إن 15 شخصا قريبين من ولى العهد ابن سلمان دخلوا الى القنصلية قبيل وصول خاشقجي وحققوا معه وعذبوه قبل قتله وتقطيع جسده. ثم ظهرت روايات لاحقة حول وضع الجسد المقطع في حقائب دبلوماسية وتهريبه إلى السعودية. كانت هناك روايات حول متابعة ابن سلمان بنفسه للعملية وأنه شاهد الصور عبر دائرة بث مباشر.
خيرت السلطات التركية تسريب ما تملكه من معلومات قطرة قطرة عن طريق الإعلام ودون تأكيد رسمي. وفي كل مرة تسند وكالات الأنباء تصريحا لمسؤول تركي سواء كان أمنيا أو سياسيا، لكن لم يتم إصدار بيان ولم توجه الحكومة التركية اتهاما صريحا للدولة السعودية. هذا السلوك جعل الكثيرين يستنتجون أن صفقة ما كانت تأخذ مسارها بين تركيا والسعودية برعاية أمريكية.
رجح الرئيس الأمريكي في البداية قتل خاشجي وتوعد بعقاب شديد للدولة السعودية إذا ثبت ذلك. لكنه بدأ لاحقا يتراجع ليقول لنا إن "مجموعة مارقة" قد تكون هي من ارتكب الجريمة. صفقة ما لابد أنها دفعت ترمب إلى تغيير مسار تصريحاته التي تأكد أنها كانت فقط للضغط على ابن سلمان لتقديم ما هو مطلوب منه للفلفة القضية واتهام مارقين أو شيء من هذا القبيل بارتكاب الجريمة حيث لا مجال لنفيها.
دخل خاشقجي القنصلية ولم يخرج. وهو ما يعني أنه قتل خاصة بعد أن دخل فريق تحقيق تركي القنصلية وقال إنه وجد أدلة على قتل الرجل فيها. يبقى على أجهزة المخابرات اختراع قصة محكمة لتبرير عملية القتل. وزير الخارجية الأمريكي بومبيو طار إلى السعودية ليس لمعرفة ما حدث كما ادعى ترمب بل لتنسيق التصريحات وضبط الرواية الرسمية عن مقتل الصحفي السعودي.
السؤال الذي يبقى معلقا الآن في انتظار تطور سلسلة الأحداث هو ماذا وراء مقتل خاشقجي؟ وكيف سيكون تأثير ذلك على سلوك ابن سلمان؟ لا شك أن أمريكا اختارته ليكون وليا للعهد كما صرح ترمب ذات مرة. وهي لم تفعل ذلك إلا بعد دراسة شخصيته والاتفاق معه على جملة من الشروط. لا يمكن لابن سلمان أن يكون قد تصرف في قضية خاشقجي دون ضو أخضر أمريكي. وهذا هو الفخ الذي وقع فيه. تريد أمريكا إدخال الخليج كله في فوضى وهذا الأمر ليس ممكنا دون حرب. ولا يمكن الدفع في اتجاهها دون ابتزاز متواصل لا هدف له سوى افقارها. وعندما تصبح المملكة السعودية عاجزة عن تأمين الطلبات المالية الأمريكية، فإنها لن تجد مفرا من خيار الحرب من أجل تأمين القدرة على الدفع.
تبدو اليوم العين مفتوحة على الكويت التي زارها ابن سلمان قبل أيام من اختفاء خاشقجي وطلب من أميرها تسليمه مناطق حدودية مشتركة هي موضوع خلاف من أجل استغلال حقلين نفطيين ضخمين فيها وهما حقل الخفجي ومنطقة الزُّور والخيران أو دفع 300 مليار دولار سنويا للسعودية. رفض أمير الكويت الابتزاز ونقلت عنه تسريبات تقول "إن هذا  "الخبل" -ويقصد ابن سلمان- طامع في ثرواتنا ويريد تدمير بلاده وبلادنا بسبب ذلك "الوسخ" ابن زايد".
كلام الأمير الكويتي صادر عن معرفة بما يفكر فيه ابن سلمان الذي قال إنه يريد توحيد الجزيرة العربية ولو بالقوة من أجل مواجهة "أطماع إيران التوسعية". ولاشك أن ذلك هو ما تريده الولايات المتحدة من أجل إغراق السعودية والخليج كله في حرب جديدة قد لا تخرج منها هذه المرة أبدا قبل إعلان نهايتها. سبق لترمب أن تحدث عن مرحلتين في التعامل مع "البقرة السعودية". الأولى هي الحلب والثانية هي الذبح حين يجف الضرع. ويبدو أنه ماض في تنفيذ مخططه.