الثلاثاء، 26 يوليو 2016

الإرهاب صناعة مخابراتية غير متقنة.. ومحاربته أكذوبة




قاسم محمد

عاني العراق منذ الغزو الأمريكي في 2003، ولايزال، من الإرهاب الأعمى الذي يحصد في كل مرة عشرات الأرواح.. ثم توسّع بعد ذلك ليشمل سوريا وليبيا وتونس ومصر والأردن ودول أخرى في آسيا وأفريقيا. الذين زرعوا الإرهاب ورعوه حتى قوي واشتد عوده يوسعون مجاله اليوم بأشكال غير تقليدية. دهس وطعن وذبح ورصاص.. عمليات بسيطة ومتكررة لا تحتاج إلى إجراءات معقدة ولا يمكن للشرطة الانتباه إليها بسهولة. تلك هي الأساليب الجديدة التي ابتكرها الإرهاب لنفسه ليملأ قلوب الناس رعبا.
هذه الأساليب الجديدة قد تبدو، في ظاهرها، بسيطة لكنها، في الحقيقة، سريالية تعتمد عنصر المفاجأة ويصعب توقع فاعليها. لم يعد الإرهابي شخصا ملتحيا أو مظهِرا لبعض التديّن، بل أصبح إنسانا من عمق المجتمع يعيش كل تلاوين الحياة الغربية التي لا تتوقف ممارسة اللذة الحرام فيها عند حدود. والعمليات الإرهابية ليست موجهة في الغالب إلى مؤسسات الدول المحروسة جيدا بل إلى أماكن يرتادها الناس مثل المطاعم والملاعب والساحات ووسائل المواصلات.. لكن ذلك قد يتطور ويتوسع ليشمل أساليب جديدة قد لا تتوقعها أجهزة الامن الأوروبية، ونقاط استهداف جديدة قد لا تخطر لها على بال.
يتركز الإرهاب الآن في مركز أوروبا: فرنسا والمانيا وبلجيكا.. وهو ما يوحي بتحويل القارة العجوز كلها إلى ساحة قتل وتخريب. هو يستهدف الآن البنية الاجتماعية لتفكيكها وتخريبها ليصبح كل فرد متهم وكل مواطن مثير للريبة بقطع النظر عن دينه وعنصره. ومن الممكن أن يتوسع لاحقا ليستهدف البنية السياسية. يصبح مسؤولو الدولة ومراكزها ومؤسساتها نقاط استهداف ليتم بذلك ضرب الدولة برمتها وليس فقط المجتمع. شي واحد لا نتوقع ضربه هو المؤسسات الاقتصادية الكبرى والشركات الضخمة. فصانع الإرهاب لا يمكنه أن يطمز عينه بإصبعه!
حتى الآن لم تتبن داعش كل العمليات الإرهابية ولم تتهم أجهزة الأمن دائما داعش. كانت هناك دائما وصفة للقاتل الذي لا تتبناه داعش أو يُزعم لها ذلك. وتلك الوصفة الجاهزة تقول: القاتل يعاني حالة اكتئاب أو هو مختل عقليا أو مصاب باضطرابات نفسية. أي أن القاتل إذا كان من أصول عربية فهو إسلامي في كامل قواه العقلية حتى وإن كان مختلا ومدمن مخدرات ولا علاقة له بالدين. أما إذا كان من أصول أوروبية أو غير عربية، فإنه يصبح مريضا نفسيا! فالهدف هو الايغال في تشويه الإسلام وليس فقط خدمة مخططات "النظام العالمي الجديد" الاستراتيجية.
من غير المتوقع أن يُفلِت اليمين المتطرف الفرصة. هو يعيش على إثارة النزعات الشوفينية والعنصرية لكسب ودّ الناس إلى جانبه. وصعوده اليوم في أكثر من دولة أوروبية ليس صدفة. لم يعد اليمين واليسار بالقوة نفسها التي كانت لهما. وهما يواجهان في كل انتخابات منافسة شرسة يفرضها اليمين المتطرف. وإذا تواصل الارهاب على وتيرة أسرع فإن الناس سيصطفون تلقائيا وراءه لتصبح أوروبا كلها يمينية متطرفة. كل تلك الشعارات المضللة حول حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية تتراجع اليوم بقوة في أوروبا نفسها. لم تكن قِيَمًا محترمة في دول "الهامش". ولكنها اليوم تتراجع أيضا في دول "المركز" التي بدأت هي أيضا تعلن حالة الطوارئ وتمدد وتكرر التمديد كما هي حالة فرنسا!.
لا نعتقد أن الإرهاب يفتعله أفراد فيما يعرف بالذئاب المنفردة، ولا هو مرتبط فقط بجماعات إرهابية قد تتبناه في بعض المرات. الإرهاب عمل مخابراتي تنكشف خيوطه احيانا وتطمر أحيانا أخرى . آخر تلك الفضايح، طلب الحكومة الفرنسية من السلطات في نيس باتلاف كل صور العملية الارهابية. ماذا يعني ذلك غير وجود أدلة تدين جهات داخل وزارة الداخلية الفرنسية. وتلك الجهات التي تخترق وزارات الأمن والداخلية عبر العالم لا شك أنها تتبع سيدا واحدا، مايسترو واحدا..
حتى الآن رفضت الولايات المتحدة تعريف الإرهاب. فهذا لا يخدم مصالحها. وعدم تعريف الإرهاب يعني إمكانية الصاق التهمة بمن هو برئ منها وتبرئة الإرهابي الحقيقي. في غياب التعريف يفتقد المقياس لدى أجهزة الأمن والوزرات المعنية. وهذا ليس غريبا بعد أن أصبحت أمريكا الدولة الأولى المصنعة للإرهاب. كتب G.chengu جي شينغو الباحث في جامعة هارفارد .” تماما مثل القاعدة، تنظيم الدولة الاسلامية (ISIS) صُنع في أمريكا باعتباره أداة إرهاب تم تصميمها لتقسيم واحتلال الشرق الاوسط الغني بالنفط ولمجابهة نفوذ ايران في المنطقة“. وأضاف: ”مدير وكالة الامن الوطني NSA  أيام الرئيس ريغن الجنرال William Odem وليم اودم صرح “بأي مقياس كان، استخدمت الولايات المتحدة الارهاب بين 1978 وسنة 1979. كان مجلس الشيوخ بصدد تمرير قانون ضد الإرهاب الدولي، وفي كل صيغة تم تعريف الإرهاب بها، كان رأي المحاميين أن الولايات المتحدة ستكون ممارسة له“.. ويضيف الباحث من هارفارد: ”وفي السبعينات استعملت وكالة المخابرات الأمريكية CIA  الإخوان المسلمين في مصر حاجزا ضد تمدد الفكر الماركسي في الجماهير العربية. واستعملت "شركة إسلام في اندونيسيا ضد سوكارنو. وساعدت الجماعة الاسلامية في باكستان ضد ذو الفقار على بوتو. وأخيراً وليس آخراً استعملت القاعدة ضد الاتحاد السوفياتي"..
وعندما يستهدف الإرهاب المنظم أوروبا فإن الهدف يصبح أكبر.. نقطة الجذب فيه مصالح الولايات المتحدة والقوى الخفية التي تحكم قبضتها عليها..



الاثنين، 18 يوليو 2016

تركيا.. ولغز الانقلاب الفاشل







في بداية الانقلاب العسكري في تركيا، تقاسم المعسكرات المتصارعان في العالم العربي الفرح والحزن. من كان مؤيدا لأردغان كان حزينا وخائفا. ومن كان معارضا له كان فرحا مستبشرا. غير أن المشهد سرعان ما انقلب حين بدت علامات الفشل تبدو على الانقلابيين. وهنا ظهرت فكرة المسرحية.
ما وقع في تركيا إما إنه فعلا مشهد تمثيلي أو أنه انقلاب أحمق سيء التنظيم أو أنه فخ وقع فيه الانقلابيون. ليست لدينا أية أدلة على أنه مسرحية خاصة وأنّ الفكرة خرجت من معارضي أردغان المحبطين. ومن الصعب الجزم بشيء مادمنا نفتقر إلى الأدلة القطعية. إن حجم القوة التي تم تحريكها من الانقلابيين، حيث شارك ثلاثة جيوش اضافة الى سلاح الجو، وخطورة المغامرة لو كانت الحركة مسرحية، يضعف هذا الاحتمال، دون أن ينفيه. كما إن موقف المعارضة والطبقة السياسية لم يتحدث عن مسرحية، ولا نتصور أنها غبية أو حمقاء حتى يمر عليها فيلم أردغان لو كان كذلك. فلا شك أنها متابعة لكل شاردة وواردة ولا شك أن كلا منها يملك خيطا للمعلومة في أجهزة الدولة..
لكن يبقى احتمال أن تكون أجهزة الدولة قد تفطنت للمخطط الانقلابي واستدرجت الانقلابيين للتنفيذ بعد الاستعداد له لاستثماره بعد إجهاضه، حتى لو كان ذلك بمشاركة جهات خارجية كما يقال عن تدخل طيران الأطلسي أو الطيران الإسرائيلي إلى جانب أردغان، فهذا ممكن في التكتيك السياسي.
وفي كل الأحوال لو كان انقلابا حقيقيا، فإنه كان انقلابا أحمق. أو إنه، بالأحرى، وقع في الفخ بحسب فرضية الاستدراج. لم يتم اعتقال الرئيس ولا رئيس الوزراء ولا رئيس المخابرات ولا الأمن ولا أية شخصية مؤثرة داخل النظام سوى ما قيل عن رئيس الأركان. ومن الممكن أن يكون أردغان غادر منتجعه قبل القبض عليه بسبب حصوله على معلومات عن حصول انقلاب، أو أنه كان على علم بالمخطط مسبقا، والأمر نفسه ينطبق على بقية المسؤولين الكبار من رئيس الوزراء إلى قادة الأمن والمخابرات.
كما أنه لم تتم السيطرة على شبكة الاتصالات وبقيت شبكة الهواتف والانترنت ومواقع التواصل من فيسبوك وتويتر وواتس آب وسكايب تعمل. بل حتى السيطرة على القنوات التليفيزيونية كانت جزئية. وهو لغز آخر من ألغاز هذا الانقلاب.
نقطة التحول في مسار الانقلاب، سواء كان مفبركا أو حقيقيا، هو دعوة أردغان الناس من خلال هاتفه الآي فون الذي بثته قناة سي ان ان التركية، إلى الخروج إلى الشوارع. لا شك أن أردغان يملك قاعدة شعبية واسعة، فهناك 5200000 منخرط في حزب العدالة حسب إحصاء 2011، أمّنت له الوصول إلى السلطة والاستمرار فيها حتى اليوم وهو ما استغله، فاستجابت تلك القاعدة، التي صدقت زعيمها، وملأت الشوارع ومنعت دبابات الجيش من مواصلة تقدمها والسيطرة على المراكز الأساسية في الدولة.
ما يثير الدهشة هو وقوف الأحزاب المعارضة لأردغان ضد الانقلاب بما في ذلك حزب الشعب الجمهوري. وربما كان ذلك يعكس تفضيلا للنظام العلماني الديمقراطي رغم سيئاته على النظام العسكري الذي خبره الأتراك جيدا بسبب تجارب الماضي أو النظام الديني الذي يمكن أن ينشأ باعتبار انتماء الضباط الانقلابيين لفتح الله غولن.
لم يتردد أردغان في استغلال ما حدث من أجل تنفيذ اعتقالات واسعة في صفوف الجيش وضباطه وداخل الجهاز القضائي. حيث تم اعتقال أكثر من 6000 ضابط وفصل 3000 قاض. وإذا كان اعتقال الضباط مفهوما، فإن فصل القضاة والتنكيل بكثير من المعتقلين لا يعكس سوى رغبة في انتهاز الفرصة والانتقام من المعارضين. لا شك أن حكومة أردغان كانت تملك قوائم من "المغضوب عليهم والضالين" الذين كانت تتحين الفرصة لعزلهم. لكن أن يحدث ذلك تزامنا مع الانقلاب العسكري بتهمة التواطئ معه فهو ما يضاعف تلك الشكوك حول حقيقة الانقلاب.
لكننا من ناحية أخرى، لا نستطيع إلا أن نقرأ ما حدث ضمن الرؤية الاستراتيجية العامة التي نتبناها. لاشك أن أمريكا تريد اليوم زراعة الفوضى في البلاد العربية والإسلامية. فالقوة الكبرى التي تقود العالم، لا يمكنها أن تصرح في كل مرة بما تخطط له وتفعله، بل إنها كثيرا ما تسارع إلى نفي التهمة عن نفسها، رغم أن الكثير من مخططاتها بات مكشوفا بسبب تصريحات يلقيها مسؤولون كبار في أجهزة المخابرات أو حتى من بعض السياسيين.
فكما تم استهداف أنظمة موالية في السابق بسبب انتهاء صلاحيتها، فإنه لا شيء يمنع فعل الشيء نفسه مع أردغان وحكومته. أشرنا في مقال سابق إلى تصريح رئيس المخابرات الامريكية السابق جيمس وولسي سنة 2003 الذي قال فيه: "ان الولايات المتحدة مقبلة على الحرب العالمية الرابعة (اعتبر الحرب الباردة حربا عالمية ثالثة). أما الهدف هذه المرة فهو العالم الإسلامي وصولا إلى إعادة رسم خارطته". و"هذه الحرب هي ضد ثلاثة أعداء: نظام الملالي في إيران والأنظمة الفاشية في كل من العراق وسوريا، والمتشددين الإسلاميين في كل مكان". فالعالم الاسلامي، إذن، كله مستهدف بأنظمته وتياراته..
وبعد ما سمي بـ"الربيع العربي" ووصول حركة "الاخوان المسلمين" إلى السلطة في كل من تونس ومصر والمغرب، تبيّن أن التعايش مع هذه الحركة غير ممكن، بينما اعتبر تيار تدعمه إسرائيل داخل دوائر الحكم في أمريكا، أن الحركات والتيارات في أفغانستان وباكستان وسوريا والعراق اليمن.. كلها منبثقة عن "الإخوان المسلمين".
ثمة قرار بالتخلص من "الإخوان المسلمين". وتركيا ليست استثناء. فرغم أن أردغان فعل كل شيء تقريبا من أجل إرضاء أمريكا وإسرائيل، رغم فترة الجفاء الظاهري، إلا أن الهدف الأمريكي أكبر من ذلك بكثير. فهو يريد تفكيك العالم الاسلامي كله وإعادة رسم الخرائط. وليس ذلك ممكنا دون إدخاله في حالة من الفوضى واللاستقرار تمهيدا لإعادة احتلاله.
لقد أعلن فتح الله غولن، الذي اتهمه أردغان بالضلوع في تدبير الانقلاب وطالب الحكومة الأمريكية بتسليمه، براءته من الانقلاب واحتمل فبركة أردغان له. لكننا نعلم أن غولن المقيم في بنسلفينيا يحتفظ بعلاقات قوية مع المخابرات المركزية الأمريكية كما جاء في مقال للواشنطن بوست التي نقلت عن مصادر استخباراتية بأن وكالة المخابرات الأمريكية عملت في جمهوريات الاتحاد السفياتي السابق في آسيا الوسطى بالتعاون مع مدارس فتح الله غولن التي وفرت الغطاء لـ 130 عنصرا للعمل هناك. كما أن غولن يحتفظ بعلاقات قوية مع الحركة الصهيونية. وقد بدأ العمل ضد أردغان بعد حادثة السفينة مرمرة. وليس مستحيلا أن تكون أمريكا قد استخدمته لتنفيذ هذا الانقلاب الذي شاركت فيه الجيوش التركية الثلاثة باستثناء الجيش الأول.
خطأ أردغان الأكبر هو تدخله في سوريا ودعمه للمجموعات الإرهابية التي سهل لها الدخول ونقل الأسلحة والتمويل عبر الحدود. كان ذلك لأسباب مركبة. فمن جهة يحمل الإخوان المسلمون حقدا قديما ضد النظام السوري منذ أحداث حماه في بداية الثمانينات، ومن جهة أخرى كان التدخل التركي والتسهيلات التي قدمها للمجموعات الإرهابية في سوريا استجابة للطلب الأمريكي وتجاوبا مع مخططاتها.
انتقلت تركيا من صفر أعداء إلى صفر أصدقاء. فهي اليوم منبوذة من دول الجوار وليست مقبولة أوروبيا. ولا شك أنها وقعت في الكمين الذي نصبه الأمريكان لها عندما دفعوها إلى استهداف الطائرة الروسية ثم سحبوا أنفسهم وتركوا أردغان يواجه الغضب الروسي منفردا.
والاستدارة الاردغانية اليوم نحو روسيا وإبداء الرغبة في إصلاح الأخطاء مع سوريا، من الممكن أن تكون غير مقبولة أمريكيا. فالهدف الأمريكي في سوريا هو مواصلة الحرب إلى حين استكمال تدمير البلد إرضاءً لإسرائيل. والدعم التركي للمجموعات المسلحة ضروري لاستمرار ذلك.
فشل أردغان في الاحتفاط بصداقات الخارج، لكنه يزداد اليوم غرورا ويشن أوسع عمليات اعتقال وانتهاك للكرامة البشرية ضد معارضيه من المشاركين في الانقلاب بشكل خاص. وهو الآن يريد اعادة حكم الاعدام لتنفيذه ضدهم. لن يكون مفاجأ أن يؤدي ذلك إلى ردود فعل عكسية لتنتشر العمليات الانتقامية ضده على أوسع نطاق. فالمعتقلون لديهم انتماءات ايديولوجية وقومية وقبلية وحزبية ومن غير المحتمل أن يسكتوا جميعا على الإهانات التي يتعرضون لها اليوم.
بل ربما كان ما يفعله أردغان اليوم كمين آخر نصبه الأمريكان من أجل إدخال تركيا في فوضى واسعة تنتهي بالتخلص منه، وإغراق البلد في مزيد من الدماء. إن ما يجري في العالم الاسلامي اليوم يحركه مايسترو واحد هو الامبراطورية الأمريكية. لقد وضعوا الهيمنة على المسلمين وثرواتهم وبلدانهم هدفا استراتيجيا لهم. بل إن تلك الهيمنة تريد السيطرة على العقول أيضا من خلال العبث بالإسلام نفسه في عقائدة وأحكامه تحت عناوين مخادعة مثل الجهاد والحداثة والديمقراطية والعولمة..

لكن هل تنجح أمريكا في ذلك؟ ربما هي تنجح اليوم في إثارة الفوضى وتعميم الحروب. غير أنها ستفشل، بلا شك، كما يؤكد اريك هوبسباوم مؤرخ القرن كما يسميه بعضهم. فما تريده أمريكا يفوق قدراتها المتراجعة اقتصاديا وعسكريا. 

الثلاثاء، 12 يوليو 2016

الحرب الأمريكية على الإسلام






هل هي حقا الحرب على الإسلام؟ لن ننفي ذلك بشكل مطلق بعد أن قال هنتنغتون إن العدو الجديد للغرب بعد سقوط الشيوعية هو الاسلام. وبعد أن اعتبر برنارد لويس أستاذ هنتنغتون أن "الصراع مع الإسلام هو صراع حضارات وأنه صراع تاريخي مؤكد مع التراث اليهودي المسيحي للحضارة الغربية ومع تراثها العلماني وتوسعهما معا"، وهو ما ردده مفكرون وكُتّاب أمريكيون كُثر.. غير أن ذلك ليس كل شيء بكل تأكيد. الاسلام في نظر الغرب طاقة جبارة إذا استطاع المسلمون أن يحملوها في داخلهم فسيشكلون أكبر خطر عليهم. ولأجل ذلك كان العمل منذ ثلاثة عقود على إنتاج "إسلام آخر" للمسلمين كما قال جيمس وولسي رئيس الاستخبارات الأمريكية السابق:" سنصنع لهم إسلاما يناسبنا".
إن موجة الكُتّاب الذين أصبحوا فجأة متخصصين في الإسلاميات ليست اعتباطية، بل إن وراءها مخطط. كل أولئك الذين ينظِّرون لتأويل القرآن ونسبية الحقيقة وتاريخية النص الديني والقراءة المعاصرة والإسلاميات التطبية وروح الحداثة.. هم في الحقيقة جزء من العدَّة الأمريكية لصناعة "إسلام جديد" يناسب الأمريكان. أما النزعات السلفية، التي تتغذى على فكر ابن تيمية وابن عبد الوهاب، فإنها ليس جديدة وهي تعمل منذ تأسيس المملكة السعودية. لقد صنع البريطانيون الفكر الوهابي منذ أكثر من 100 سنة. لكنه لم يعد يستقطب إلا العوام. أما المثقفون والطلبة والنّخب الأكاديمية المؤثرة فإنها تحتاج إلى نوع آخر من الإسلام وهو ما تم تأمينه على مدى ثلاثة عقود من الزمن.
عندما نجد كتَّابا يعتبرون القصص القرآني أساطير والمحرمات الإسلامية تاريخية والمثلية السدومية جائزة وتناول الخمور لا مشكلة فيه والربا حلال، وعندما يصبح النبي مجرد رجل عبقري والوحي ايحاء نفسي وشريعة الإسلام غير صالحة وأصول الدين خرافات.. لا يمكننا إلا أن نتوقع وجود جهات تدفع الكثير من المال لترويج أفكارها وإظهارها أمام الناس في شكل مفكرين كبار وفلاسفة حتى أن بعضهم تحول إلى مفتٍ يسأله الناس عن شؤون دينهم فيجيب. والمفارقة هي أن يجد الأمريكيون في بعض اليسار العربي ضالّتهم. فأكثر الذين يسمّون أنفسهم اليوم مفكرين ويشتغلون على نصوص الإسلام هم يساريون متحوّلون إلى النيوليبرالية. قلة منهم منحدرة من أصول سلفية أو صوفية او إخوانية..
بل إننا نرى اليوم ماهية الإسلام الذي أصبحت تقدمه بعض حركات "الإسلام السياسي" التي باتت تتبنى نسخة مخففة تتوخى الذرائعية وتبرر للتبعية وتشرع للتطبيع وتتبنى الرأسمالية الجشعة وتقبل العلاقات الشاذة والسلوكات المنحرفة على نحو ما نرى لدى أردغان الذي يقدم نموذجا لما يريده الغرب؛ طلاءً دينيا لنظام رأسمالي ليبرالي يبيح الربا والزنا والخمور والتطبيع مع الصهيوني.. أصبح كل شيء مبررا تقريبا، ولم يعد هناك شيء اسمه حرام لا في السياسة ولا في الاجتماع ولا في الحياة الخاصة. إننا نتذكر تصريحات رئيس حركة النهضة التونسية حول السدومية المثلية مثلا. ونتذكر تصويت كتلته لصالح تخفيض أسعار الخمور المستوردة..
لا يستهدف الغرب الإسلام فحسب. لكن تخريب العقول، الذي يتم مرة باختراع نزعات سلفية وأخرى بصناعة تيارات ليبرالية او حداثوية تتبنى قراءات تقصي الدين من الحياة، مدخل أساسي لتحقيق بقية الأهداف. يريد الغرب ثرواتنا وأرضنا، ويريدنا أن نبقى تابعين خاضعين. والمدخل الأساسي لذلك هو عقولنا. لا يمكننا أن نتجاهل الدعم السخي لمنظمات المجتمع المدني في بلاد العرب والمسلمين، ولا يمكننا أن نتجاهل دعمهم للأحزاب الموالية لهم والعمل على إيصالها إلى سدة الحكم لتكون هي المسهل لتنفيذ مخططاتهم.
الخطوة الأولى كانت بصناعة إسلام يناسب الأمريكيين. والخطوة الثانية تمت بصناعة ثورات سموها ربيعا عربيا، كما صرح جيمس وولسي رئيس المخابرات الأمريكية السابق سنة 2006 حين كشف عن مخططات أمريكا لتفجير الشرق الاوسط وإعادة احتلاله. حينها قال وهو يتحدث عن العرب والمسلمين: "سنصنع لهم اسلاما يناسبنا ثم نجعلهم يقومون بالثورات فيتم انقسامهم على بعض لنعرات تعصبية ومن بعدها قادمون للزحف وسوف ننتصر". وهو كلام يوضح كلاما سابقا صدر عنه سنة 2003 يقول فيه: "إذا نجحنا في "تحرير العراق" سننتقل لسوريا وليبيا والآخرين ونضغط عليهم لمحاولة تغييرهم. آل سعود ومبارك سيأتون إليها ليقولوا نحن متوترين جدا جدا ونحن سنقول لهم: جيد GOOD نحن نريدكم متوترين، نحن نريدكم أن تعرفوا أنه الآن وللمرة الرابعة خلال المائة سنة هذه الدولة وحلفائها (يقصد امريكا) قادمون للزحف وسوف ننتصر...".
العبث بالإسلام والإطاحة بالأنظمة وتعميم الإرهاب ليست إلا مقدمات للاجتياح الذي تعد له أمريكا لإعادة احتلال الأرض العربية وتقسيمها على أسس جديدة. وعندما تقول هيلاري كلينتون: "إن الحرب الأهلية السورية جيدة لإسرائيل". فإن ذلك يعني أن استهداف سوريا بعد العراق وليبيا ودول أخرى بإشعال حروب داخلية ليس إلا مقدمة لشيء أكثر خطورة بكثير.
الإرهاب الذي أعقب "الربيع العربي"  مصنوع، مثله تماما. والهدف ليس الأنظمة بكل تأكيد. لقد كانت أغلب تلك الأنظمة، أو ربما كلّها، مطيعة ووفية لسيدها الأمريكي. غير أن المسألة الآن هي الدخول في مرحلة جديدة تتطلب ممارسات جديدة وتكتيكات مختلفة. إننا لا نحلل هنا ولا نقول مجرد تخمينات بل إننا نقل ما صرّح به أمريكيون في موقع القيادة. المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية جيمس وولسي ( James Woolsey)، الذي أتينا على ذكره قبل قليل، قال في محاضرة له في أفريل سنة 2003 في جامعة كاليفورنيا في لوس انجليس (UCLA): إن الولايات المتحدة مقبلة على خوض الحرب العالمية الرابعة (معتبراً الحرب الباردة حرباً عالمية ثالثة). أما الهدف هذه المرّة فهو العالم الاسلامي، وصولاً الى إعادة رسم خارطته وقال أن هذه الحرب ستكون حرب أجيال. وأضاف: "هذه الحرب هي ضد ثلاثة أعداء: نظام الملالي في ايران والأنظمة الفاشية في كل من العراق وسوريا، والمتشددين الإسلاميين في كل مكان".  وقال: "وسنقوم ببناء شرق أوسط جديد وسينقلب أمثال الحكام في بلاد مثل مصر والسعودية..".
وبالفعل فقد تم احتلال العراق وتفكيكه وإخضاعه للإرهاب اليومي. واليوم هم بصدد تدمير سوريا واستهداف حركات المقاومة في فلسطين ولبنان وأماكن أخرى. أما مصر فإنهم عبثوا بها وأوصلوا في النهاية أحد رجالهم المفضلين. لم تبق أمامهم سوى إيران التي يتحرشون بها الآن مستخدمين الأنظمة الوظيفية في الخليج التي تقودها السعودية. سنكون مكابرين لو أنكرنا النجاح الذي يحققه الأمريكي في تحويل خطته إلى واقع. قالوا قبل أكثر من عقد أنهم سيصنعون لنا ثورات ويدمرون دولا ويعممون الإرهاب. وها هم ينفذون مخططاتهم بالدقة المطلوبة.
إن الصراع بين الاسلام والغرب بات اليوم صراعا حضاريا. وهو ليس صراعا بين الإسلام والمسيحية التي توارت إلى الخلف منذ انتصار الحداثة وقيمها لأن الغرب بات اليوم بعيدا عن المسيحية في غالبيته كما بين آخر احصاء اجرته مؤسسة غالوب الدولية. حيث قال إن نسبة غير المتدينين والوثنين تزيد عن نصف شعوبها. فالنسبة في بريطانيا هي 66% ، وفي المانيا 54% ، وفي هولندا 66% ، وتصل في السويد الى 76% ، وفي كندا 53% .. الصراع اليوم هو بين الغرب بحمولته الوضعية والغرائزية ونظامه الرأسمالي الجشع والإسلام بمحتواه القيمي والإنساني ونظامه الاقتصادي والاجتماعي العادل. ولا خيار أمام المسلمين سوى الانتصار في هذا الصراع.






الأربعاء، 6 يوليو 2016

إسلام النبي وإسلام أبي سفيان












تاريخ الإسلام الذي نقراه اليوم ليس إلا نسخة مزورة من إسلام الوحي، تماما كما كانت جمهورية أفلاطون نسخة مزورة عن مفهوم الجمهورية نفسه. فكما أقصت النسخة الأموية للإسلام الإنسان، فكذلك كان شان جمهورية أفلاطون التي اعتبرت النساء والعبيد والعسكر وعامة الناس مخلوقات اقل إنسانية او بلا إنسانية من الأساس. جمهورية أفلاطون كانت جمهوري للاستبداد والمشاعية الجنسية واحتقار الفنون.
امبراظورية معاوية لم تكن مختلفة. لقد افسد معاوية الوعي والتاريخ عندما تابع الروم والفرس والتقاليد السلطوية القديمة وقرر أن يكون ملكا يفسد ولا يصلح، يقتل ولا يحيي، يكفر ولا يؤمن.. وحتى اليوم لا يزال المسلمون أسرى الثقافة الأموية من حيث أنهم يتوهمون إتباع النبي.
قد يكون من الظلم للإسلام الحديث عن إسلام أموي او إسلام تاريخي في مقابل إسلام الوحي. لكن عزاءنا أن هذا التمييز ليس إلا تمييزا إجرائيا ومنهجيا. فالإسلام في النهاية واحد وما فعله السلاطين الأمويون والذين جاؤوا بعدهم ليس إلا سطوا على الإسلام ومحاولة للعبث به وتزوير مفاهيمه وقيمه.
ليس ما نراه اليوم في الجوامع والمساجد وفي الزوايا والمعابد إسلاما. هو دين آخر لا يشبه الإسلام ولكنه بعد أن سرق عباءته واستنسخ لحيته، ظن الناس انه هو. وحتى نعرف حقيقة هذا الإسلام الأموي يكفي أن نراقب كهنته في طريقة تفكيرهم وهم الذين يؤمون الصلاة ويعتلون المنابر ويلبسون العمائم ويكفرون الناس ويفتون للسلطان.
مشكلتنا اليوم ليست مع التاريخ ولكنها مع الناس الذين يؤمنون بهذا التاريخ ويصدقون الذين زوروه من اجل قصورهم وجواريهم وولائمهم. ليست مشكلتنا مع التاريخ ولكنها مشكلة مع بساطة الناس وثقتهم التي لم يعرفوا لمن يعظونها. الحقيقة وحدها هي التي انتهكت واغتصبت ومثل بها وهي لا تزال على قيد الحياة.
ليس الإسلام أن نملأ مساجد يحتل منابرها كهنة مهنتهم الدجل، وإنما الإسلام أن نؤم الحقيقة التي في داخلنا والحقيقة التي جاء بها النبي ص. لقد صنعوا لنا عقيدة وفقها وأخلاقا ليست هي عقيدة النبي ولا فقه النبي ولا أخلاق النبي. قالوا إنها هي نفسها الوحي الذي في القرآن. وصدقهم البسطاء في الوقت الذي كان أحرى بهم أن يكذبوهم حتى لو صدقوا، فالكاهن لا يصدق إلا من اجل أن يكذب.
وبينما كان المسجد ومنبره مكانا لتعلم الحرية، أصبح مع كهنة البلاط مكانا لتعلم العبودية. حاصروا الناس من كل جانب وزينوا لهم الظلم والجهل والفقر وقالوا إن ذلك هو قدر الله وقضائه ولا راد لقضاء الله. اخبروهم أن الزهد والرضا والتسليم قيم إسلامية، وان الثورة والرفض والمقاومة ممارسات شيطانية لا يليق بمرتكبها إلا الجحيم.. لقد أرادوا قتل الإسلام من خلال قتل القيم التي هي جوهره. قلبوا كل شيء هو جميل فيه حتى أصبحنا لا نرى شيئا إلا وهو مكلل بالبشاعة المغلفة بالدين.
غير أن خداع الناس لن يستمر حتى النهاية. تأبى الحقيقة أن تظل أسيرة، قدرها أن تنتفض وتثار لكرامتها المغتصبة. وفي يوم ما سيجد الناس الطريق السالك إلى هذه الحقيقة. الناس اليوم يعودون إلى أنفسهم. هم ينفضون أيديهم من دين الكهنة الذي شربوا منه وذاقوا كدره طويلا. يريدون اليوم أن يشربوا الحقيقة التي في القلب. فقد أدركوا أخيرا أن من يعود إلى قلبه لا يظل ولا يشقى. فالقلب هو بقية الله في الإنسان. "استفت قلبك ولو افتاك الناس وافتوك"، تلك هي حكمة النبي.

الثلاثاء، 5 يوليو 2016

أردغان والإخوان.. وعورة عمرو بن العاص





قاسم محمد


وقف عامود جلعاد في مؤتمر هرتسيليا لسنة 2013 متحدثا عن بداية تشكل الحلف "السني الصهيوني" الذي يشترك في موالاة أمريكا بشكل مطلق، بما أن أعضاءه جميعا يعيشون تحت الحماية الأمريكية، وإسرائيل نفسها ليست استثناء. حينها اعتبر جلعاد "حركة الإخوان" خارج هذا المحور الذي كان يضم مصر والخليج.
بعد الاتفاق التركي الإسرائيلي وتطبيع العلاقات من جديد انضمت تركيا إلى هذا الحلف، لكن تركيا لا يبدو أنها انضمت منفردة بل إنها جرّت وراءها حركة الإخوان كلها بشكل علني وسافر هذه المرة. حتى حركة حماس التي طالما قدمت نفسها حركة مقاومة باركت الخطوات التركية واعتبرتها خدمة للقضية الفلسطينية!
اعتقد رجب طيب أردغان أنه بات محاصرا من الجهات كلها: روسيا، ايران، العراق، سوريا، اوروبا.. وقرر أن يفك هذا الحصار بالارتماء في الحضن الصهيوني والاعتذار من روسيا. هذا الارتماء قد يفسره أيضا شعور السلطان العثماني أن أمريكا نصبت له فخا لتوريطه مع الروس ثم سحبت نفسها. لقد اعطته ضوءا أخضر لإسقاط الطائرة الحربية الروسية ثم لاذت بالصمت لتتركه يواجه أخطر أزمة سياسية مع روسيا. بل إن أمريكا رفضت تصنيف حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني منظمة إرهابية، وهو ما دفع أردغان الى توجيه السؤال للأمريكيين: "هل أنتم معنا أم مع التنظيم الإرهابي؟". شعر أردغان أنه كان لعبة أمريكية فقرر الهروب إلى الأمام.
توكأ أردغان على القفزة الاقتصادية التي حققتها تركيا واعتمد على خطاب شعبوي لمغازلة الأتراك والعرب بعد الهجوم الصهيوني على سفينة "مرمرة"، وقدم حزبه الهجين نموذجا للأخونة السياسية التي تحتفي بالعلمنة واقتصاد السوق والليبرالية الفجة.. حتى أنه سمح بشاطئ للعراة..
واستطاع أن يحول حزبه إلى رافعة سياسية خاصة به بعد أن نجح في التخلص من أهم شخصيتين ساهمتا معه في تأسيس الحزب وهما عبد الله غول وداوود أوغلو ومعهما الكثير من الخصوم السياسيين من داخل الحزب ومن خارجه. وقبل ذلك وبعده نجح في الإمساك بالقضاء والسيطرة على الجيش وهو يطمح لتغيير الدستور ليصبح الحاكم بأمره ويتوج بالسلطة المطلقة.
وهذه النجاحات النسبية، بالمنطق الأردغاني، جعلته يطمح إلى التمدد خارج حدود تركيا. ففتح أبوابها لكل شذّاذ الأرض لتتحول تركيا إلى أكبر معكسر لتدريب الدواعش والإرهابيين وإرسالهم الى سوريا. كان ذلك إشباعا لرغبة توسعية، لكنه من ناحية أخرى كانت محاولة لإرضاء الأمريكي الذي سعى منذ البداية إلى تحقيق الحلم التوراتي في تدمير سوريا. بل إنه يحاول الآن تجنيس السوريين اللاجئين في تركيا ليكون ذلك ورقة إضافية قد تساعد في تحقيق حلم التوسع.
لا يمكن لأردغان التنصل من أصله الإخواني مهما تلا على مسامعنا آيات الولاء للغرب وأنظمته. بل إنه بات واضحا اليوم أن حركة الإخوان تأسست بدعم استخباراتي بريطاني. ولذلك تبدو الممارسة السياسية للإخوان فارغة من أية قيم أو مبادئ. فهي لا تستلهم فقط ممارسات معاوية بن أبي سفيان، بل استمرت وفيّة لأفكار الرعاة المؤسسين. وبسبب ذلك لا تبدو براغماية اردغان وانتهازيته مجتثة من أصولها. تبين أن شعارات تحرير القدس ودعم القضية الفلسطينية والدفاع عن قضايا الامة والدعوة الى العدالة الاجتماعية كان مجرد أدوات للتجارة الداخلية. وبيانات التأكيد لخطوة أردغان التطبيعية التي صدرت عن إخوان مصر وحركة حماس تؤكد ذلك.
أصبح أردغان معاوية العصر، بحسب توصيف بعض الكتاب. فبالنسبة له لم يجد المسكين من العرب والمسلمين إلا الصد ومن حقه باعتباره "حاكما شرعيا" أن يناور في العلاقات الدولية. وكما كان معاوية داهية في تعامله مع الروم البزنطيين من أجل ترتيب البيت الداخلي ومواجهة "الفتنة"، فكذلك أردغان في تحالفه مع الصهاينة. وبالنسبة لهذا البعض فإن النظام العلماني هو أقرب نظام ينصح به القرآن! وليس من مصلحة أردغان التمسك بالقيم والمبادئ على حساب مصلحة بلاده.
إن هذا التوجه لا يعكس سوى ثقافة سلطانية تبرر للحاكم أخطاءه مهما كبُرت. فحتى المصلحة التركية التي يتحدثون عنها لا شيء يدل على أنها ستتحقق. ذلك أن مد اليد إلى الصهاينة يشبه إدخال اليد إلى جحر مليء بالأفاعي. وإذا كان أردغان وحزبه لا يعتبرون إسرائيل عدوا، فإن الصهاينة لا يمكنهم إلا التعامل مع الآخرين من موقع العداء مهما تلونوا.
وأمثال هؤلاء الكتّاب تزدحم بهم الساحة. فهم منتفخون لا يرون الواقع بمقياس القيمة والمبدأ، بل بمعيار المصلحة الضيقة التي تنتهي إلى سراب. هم لا ينظرون إلى الأفق البعيد ولا يحسبون حسابا لمآلات الأمور حتى لو تخليْنا عن معيار القيم وحسَبنا المسألة فقط على أساس المصلحة.
كشف الأتراك، أخيرا، ومعهم الإخوان عن دورهم الداعم لإسرائيل والمتواطئ معها ضد مصالح الأمة في محاولة لإنقاذ أنفسهم من نهاية حتمية، تماما كما كشف عمرو بن العاص يوما عورته لإنقاذ نفسه من موت محقق. لكن ما يتجاهله الإخوان هو أنهم لا يزيدون عن كونهم مجرد أداة، من بين أدوات أخرى، يحركها الغرب لإفساد الناس وبيع الأرض ونشر الفوضى وتشجيع الإرهاب وترسيخ الطائفية وشرعنة التقسيم. وهو ما يعني أن تركيا والحركة الإخوانية باتا يمثلان تهديدا استراتيجيا لمصالح الأمة وقيمها.