الاثنين، 30 أبريل 2018

صراع الحكومة والنقابة.. أزمة تلِد أزمة





قاسم شعيب

عندما قررت نقابة التعليم الثانوي تعليق الدّروس والاستمرار في حجب الأعداد إلى أن توافق الحكومة على التفاوض معها، قال كثيرون أنها أدخلت البلد في أزمة كان بالإمكان تفاديها، لأنها فرضت على الاتحاد العام التونسي للشغل الذي تتبع له معركة خاسرة ليس ضد الحكومة فحسب وإنما أيضا ضد الرأي العام والأسر المعنية.
بعد أكثر من أسبوع من إضراب أساتذة التعليم الثانوي قرر اتحاد الشغل استئناف الدروس. لا شك في وجود مطالب محقة لدى هذه الفئة تتعلق أساسا برفع الرواتب وإعادة النظر في المنظومة التربوية..
وإنهاء الاتحاد الشغل الإضراب، تحت ضغط جزء من الرأي العام المدفوع من أحزاب السلطة بعد أن تعالت الأصوات الداعية إلى إنهائه، كان متوقعا. اختار الاتحاد الاستجابة لتلك المطالب انسجاما مع المصلحة العليا للتلاميذ الذين بات أولياؤهم يخشون سنة دراسية بيضاء. غير أن مرونة الاتحاد لن تعني التنازل عن مطالبه، بل ستكون بداية لمعركة طويلة.
لا يعاني أساتذة التعليم وحدهم من سوء الحالة المعيشية، بل إنهم في وضع أفضل بكثير مقارنة مع طبقات اجتماعية أخرى مثل نظرائهم المهندسين مثلا أو سائر موظفي الدولة، ولا حديث عن بقية القطاعات الأقل حظا مثل العمال والجنود والمعلمين العرضيين والاساتذة المتعاونين وكثير من الصحفيين والإعلاميين.. فضلا عن المعطلين عن العمل.
ينتج سوء المعاملة عادة تهاونا ومللا وشعورا بالظلم والاستغلال تؤثر كلها بشكل آلي على المردود. ولا أحد يمكنه اليوم أن ينفي التقصير لدى كثير من الأساتذة الذين أصبح بعضهم لا يقدم ما هو مطلوب منه، تماما مثل العاملين في أي قطاع آخر. غير أن الاهتمام بمطالبهم هو ما يمكنه إعادة لذّة العمل إليهم.
من الواضح أن البلاد تمر بأوضاع اقتصادية مزرية نتيجة السنوات السبع العجاف السابقة، غير أن تلك الأوضاع تبقى مسؤولية الحكومة قبل كل شيء. فقد كان دائما أمامها خيارات حقيقية لإنقاذ اقتصاد البلاد والتحرر من قبضة الإرهاب والمديونية والفساد المنتشر بين رجال الأعمال وفي أجهزة الدولة والتهرب الجبائي وتبديد المال العام وأقساط صندوق النقد الدولي الذي يربط أقساطه بعدم الزيادة في كتلة الأجور لتصبح البلاد عمليا تحت سلطته.
تضطر الدولة بسبب ذلك كله إلى الاقتراض من السوق المالية والبنوك الدولية لدفع الرواتب. وهو وضع لا يسمح للدولة بتقديم أية زيادات في الأجور. وحتى لو استجابت الحكومة وقدمت تلك الزيادات في الأجور، فإن ارتفاع كلفة المعيشة والتضخم المستمر سيمتص تلك الزيادات لتصبح بلا جدوى.
ليست مشكلة الاقتصاد التونسي اليوم مشكلة جزئية يمكن معالجتها وإصلاحها في كل مرة بل هي مشكلة منظومة وصلت إلى نهايتها. أمكن إسقاط النظام السياسي الاستبدادي عشية 14 جانفي - كانون الثاني 2011، غير أن المنظومة السياسية التي جاءت بعد ذلك كانت عرجاء بعد أن استلمت السلطة نُخب تربَّت داخل النظام المعرفي والاجتماعي والاقتصادي الذي كان معتمدا. وهو ما عنى استمرار الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية على ما هي عليه. بل أنها زادت سوءا بعد تجميد البنوك الأوروبية حسابات الدولة التونسية بمزاعم شتى وتراجع الانتاج في مختلف القطاعات.
أما الجانب الثاني الذي يمثل مطلبا نقابيا فهو إصلاح المنظومة التربوية ومناهج التعليم. تم ربط هذه المنظومة بالخيار النيوليبرالي الذي انتهجه الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي عندما أصدر في حزيران- يونيو 1992 قانوناً يسمح للمستثمرين بإنشاء مؤسسات تربوية وتعليمية خاصة.
كان عدد منتسبي التعليم الخاص قبل ربع قرن لا يتجاوز العشرة آلاف على أقصى تقدير. لكنه اليوم يتجاوز 170 ألفاً من جملة مليونَي تونسي يتابعون الدراسة، أي بنسبة تقارب العُشر. وكل المؤشرات تؤكد أنّ الظاهرة ما زالت تتعاظم.
كان التعليم العمومي مصونا قبل وصول زين العابدين بن علي إلى السلطة. وبعد وصوله ساءت منظومة التعليم الرسمي نتيجة خيارات نيو ليبرالية. ومع انتشار التعليم الخاص من الحضانة إلى الجامعة  تم ضرب مبدأ المساواة، وبدأ إنتاج النخب على أساس طبقي، وتراجعت مكانة المدرّس، إلى انتهى الأمر إلى تردي التعليم عبر تسليع المعرفة والشهادات..
كانت نسب التمدرس ومحو الأمية، إلى وقت قريب، جيدة. وكان التعليم يحتلّ مراتب عالمية متقدّمة في جودته. فالتعليم العمومي في تونس مجاني وموحّد وتمتد مؤسساته على كامل تراب البلاد. لكن بعد انتشار التعليم الخاص منذ بداية التسعينات ساءت أوضاع التعليم العمومي وأصبحت جودة التعليم حكرا على الأثرياء، وجزء من الطبقة الوسطى.
يشعر التونسيون اليوم أن التعليم العمومي مستهدف. فهناك إهمال للمدارس والجامعات لا تخطئه العين. وبعضها لا يتوفر حتى على الأقلام والأوراق والآلات الناسخة.. بينما تتوفر المدارس والجامعات الخاصة في المقابل على أفضل طواقم التدريس وأدوات العمل.
لا تطالب نقابة التعليم بالتخلي عن التعليم الخاص ولكنها تطالب بالاهتمام بالتعليم العمومي الذي يمثل الملجأ الوحيد للطبقة المتوسطة والفقيرة لتعليم أولادهم. وهي تشعر أن الحكومة تتعمد إهمال المدارس والجامعات العمومية وإفساد التعليم خدمة للقطاع الخاص لأسباب لا تعلن عنها الوزارة، ولكن النقابة تقول إنها إملاءات صندوق النقد الدولي كما جاء على لسان الكاتب العام للجامعة العامة للتعليم الثانوي لسعد اليعقوبي ومساعده فخري السميطي.
تخشى نقابة التعليم تغوّل التعليم الخاص وتكريسه طريقا سريعة نحو "المستقبل الباهر" وإعادة إنتاج الفوارق الطبقية، بل وتعميقها عندما تصبح الثروة والوظائف المهمة وإنتاج النخب مقتصرة على طبقة واحدة.
ليست هذه هي المرة الأولى التي تصطدم فيها إحدى نقابات اتحاد الشغل بالحكومة، ولا يبدو أنها ستكون الأخيرة مادامت المنظومة الاقتصادية والرؤية السياسية لم تتغير، فمعاناة تونس لا تتحدد في مشاكل تفصيلية هنا أو هناك بل تتحدد بالأساس في المنظومة الحاكمة.

الثلاثاء، 24 أبريل 2018

هل انتقلت سينما ابن سلمان إلى حي الخزامي؟






قاسم شعيب


هلَّل كثيرون لقرار ولي العهد السعودي إعادة افتتاح دور للسينما لأول مرة منذ عقود بعد أن أدى تمرد جهيمان العيتيبي عام 1979 الى إجراءات متشددة كان أحدها إغلاق تلك الدور. وتم تصوير الأمر على أن خطوة جديدة على طريق الإصلاحات المزعومة التي ينفذها محمد بن سلمان.
غير أن سينما ابن سلمان انتقلت، فيما يبدو، من الشاشة الكبيرة إلى أرض الواقع. وعملية الاغتيال التي تعرض لها رئيس المجلس السياسي اليمني صالح صماد والمجزرة التي ارتكبت بحق مدنيين يمنيين في حفل زفاف ربما جاءت لإبعاد الأنظار عما حدث في حي الخزامي في الرياض قبل أيام.
لا يبدو أن محمد بن سلمان سيتوقف عن تصفية منافسيه وخصومه في الداخل وافتعال قضايا فساد من أجل فتح الطريق نحو العرش أمامه والتمكن من تسديد فاتورة صعوده الى العرش السعودي. جال ابن سلمان بين بريطانيا وأمريكا وفرنسا وعقد الصفقات المليارية الجديدة ولا شك أن ذلك يشكل ضغطا كبيرا على ميزانية البلد ما يجعل الحل الأسهل بالنسبة إليه مواصلة ابتزاز الأمراء والأثرياء السعوديين دون التوقف عن فرض الضرائب على المواطنين.
وبسبب تلك الضغوط، يوجد احتمال قوي يؤكد أن ما حدث في حي الخزامي في الرياض أين يوجد القصر الملكي لم يكن حقيقيا بل كان مفتعلا من أجل تبرير عدة إجراءات قد تشمل لاحقا إيقافات جديدة وعمليات ابتزاز ومساومة. لكن ذلك لا يلغي احتمال أن يكون ما حدث حقيقي ويعكس غليانا واسعا داخل العائلة الحاكمة ورغبة في التخلص من ولي العهد الذي أهانها وأبرز عيوبها بشكل غير مسبوق ليس أمام الرأي العام المحلي فحسب، بل حتى أمام الجمهور العربي والإسلامي الذي انخدع بالخطاب الذي استمر النظام السعودي في ضخِّه عبر الإعلام والمساجد والكتب والدوريات لعقود طويلة..
من المبكر الجزم بحقيقة ما حدث. غير أن الرواية الرسمية لا تبدو متماسكة. قالت الشرطة السعودية إنها تعاملت مع طائرة درون غريبة كانت تمر في حي الخزامي. غير أن الفيديوهات المسربة لا تظهر الطائرة بل توضح تبادلا كثيفا لإطلاق النار استمر حسب شهود لساعة كاملة. كما أن تنوع الأسلحة المستخدمة يكشف هو الآخر أن الأمر كان محصورا بعملية كانت تجري على الأرض. وإذا كان أحدث أنواع طائرات الدرون لا تتجاوز سرعته الـ100 كم في الساعة ومدة التحليق نصف ساعة، فإنه لا معنى لاستمرار إطلاق النار الكثيف لقرابة الساعة، خاصة وأن القوات التي تحرس القصر تتمتع بمهنية واحترافية عالية وسرعة في الرد كما هو مفترض.
قد تكون هناك طائرة درون بشكل عرضي أو جزء من تصوير المنطقة لمساعدة المهاجمين لكن إطلاق النار ليس له علاقة بها، بل كان تبادل نيران من طرفين. وبحسب مصادر فإن الهجوم وقع بسيارات تحمل مدفع 50 ملم والرد كان عشوائيا. وسرعان ما اختفى المهاجمون دون أن تتضح هويتهم ولا الهدف من الهجوم.
وسواء كانت العملية مفتعلة، كما نرجح، أو حقيقية، فإن محمد بن سلمان بات يواجه أزمة مفصلية لا يجد لها حلا سوى ممارسة المزيد من الإيقاف والابتزاز ومصادرة الأموال بتهم الفساد وفرض مزيد من الضرائب على الناس.  
استطاع محمد بن سلمان في وقت وجيز أن يحقق "إنجازات" مهمة دون أن يقصد ذلك. فقد كشف أمام الجميع فساد العائلة الحاكمة والمليارات التي جمعها الأمراء السعوديون بطرق غير مشروعة وملتوية غالبا. وعرّى المؤسسة الدينية التي فهم الجميع أخيرا أنها مجرد غطاء لتبرير سياسات آل سعود. وقد رأينا كيف أصبح المشايخ الوهابيون التابعون لـ"هيأة العلماء" يفتون بما كانوا يحرمونه في السابق ولعل آخر تلك الفتاوى ما يتعلق منها بالسينما..
كان ابن خلدون يقول: "الملك يبليه الترف ويذهب به". و"عندما يستبد الأبناء بالحاشية.. يلجأ كبار الحاشية والمقربين إلى الترف والدعة كما يسعون إلى جمع المال بطرق شتى.. وهنا تقل العصبية الحامية للدولة، فيلجأ الملك إلى جدع أنوف العشيرة والأقارب.. بمصادرة ممتلكاتهم وإلى القتل والإهانة..". ويبدو أن ما قاله ينطبق هذه الأيام على الحكم السعودي..




الأربعاء، 18 أبريل 2018

هل أصبحت الحرب الشاملة بين المحور الشرقي والتحالف الغربي مسألة وقت؟






لم يكن العدوان الغربي، الذي استهدف سوريا فجر الرابع عشر من أفريل- نيسان، مستبعدا، بل كان متوقعا. كان هناك ضجيج كثيف قبل تنفيذه ومناورات أطلقها ترامب عبر تويتر هدد فيها مرة وتوعد واستبعد الضربة مرة أخرى قبل أن يهاجم..
لا شك أن تنسيقا عالي المستوى حدث بين الأمريكيين والبريطانيين والفرنسيين قبل الهجوم. غير أنه ليس واضحا إن كان الروس في الصورة. وكل ما قيل هو أن الفرنسيين أخبروهم بالعملية أثناء الهجوم. لم يكن الاعتداء بحجم التهديد بل إنه كان محدودا واستعراضيا. وبعد أن أخذ السوريون احتياطاتهم لم تكن الضربات مؤثرة ولم يكن هناك ضحايا. واقتصر الأمر على الخسائر المادية.
لم يتراجع الأمريكي عن توعّده، ولكن أيضا لم يشن الحرب التي توقعها الكثيرون. وهناك احتمالان ممكنان لذلك لا يلغي أحدهما الآخر بل إنهما قد يكونان مقصودان معا.
الاحتمال الأول هو تنفيذ مناورة عسكرية غربية يشترك فيه الأمريكي مع حلفائه الأوروبيين لمزيد من التنسيق وتبادل الأدوار. أراد الغربيون تجربة أسلحة جديدة ومعرفة مدى فعاليتها. وهذا الأمر يمكن أن نفهمه من كلام ترامب الذي تحدث عن صواريخ جديدة وذكية يريد استخدامها في سورية.
وبحسب وسائل إعلام أمريكية تم استخدام قاذفات بي 1. وشاركت سفينة حربية أمريكية واحدة على الأقل بالبحر الأحمر في العدوان. واستخدمت صواريخ من طراز "توماهوك". أما بريطانيا فقد استخدمت أربع طائرات من طراز تورنادو راف في الاعتداء على سوريا. كما استخدمت صواريخ ضد مبنى عسكري يقع على بعد 24 كيلومترا غربي حمص. أما فرنسا فاستخدمت طائرات رافال لاستهداف منشآت تابعة للحكومة السورية.
لم نعرف حقيقة الصواريخ التي اتخدمها الغربيون سوى ما قيل عن الصواريخ الأمريكية إنها صواريخ توماهوك. بينما تسربت بعض المعلومات حول استخدام فرنسا صواريخ موجّهة جديدة اسمها DMCN كلفة الصاروخ الواحد 2.86 مليون يورو.
أما الاحتمال الثاني فهو ممارسة المزيد من الابتزاز لدول الخليج وخاصة منها المملكة السعودية من أجل دفع فواتير مضاعفة لتكلفة الضربات. قدر خبراء عسكريون تكلفة الضربات العسكرية التي شنتها الدول الثلاث ضد أهداف سورية، بنحو 240 مليون دولار.
تبقى الميزانية العسكرية للولايات المتحدة، أكبر ميزانية عسكرية في العالم وتصل إلى نحو نصف تريليون دولار في بعض السنوات.  وتكلفة الاعتداء تعتبر محدودة جدا مقارنة بإجمالي حجم الموازنات العسكرية للدول الثلاث المشاركة في القصف من ناحية، ومقارنة بالنفقات العسكرية إبان الحرب في الخليج ضد العراق، من ناحية أخرى، والتي تكلفت نحو 6 تريليونات دولار.
لكن ترامب كان قد استبق الهجوم العسكري، بتوجيه رسالة إلى دول الخليج أعلن خلالها عن أمله في أن تموّل تكلفة وجود القوات الأمريكية في سوريا، والتي طالب خلالها مستشاريه بترتيب انسحاب قواته خلال ستة أشهر وفقا لـ"سي إن إن".
وقد أكدت صحيفة غازيتا الروسية ذلك حين قالت إن الولايات المتحدة ألزمت السعودية بدفع ثمن العملية العسكرية الأمريكية على الأراضي السورية، وفقاً لما ورد في تصريحات الرئيس الأمريكي في 3 أفريل نيسان الجاري.
لم يكتف الأمريكيون بإجبار السعوديين على دفع فاتورة الاعتداء على سوريا، بل إنهم يطلبون منهم الآن المشاركة في وجود عسكري بري على الأراضي السوري بحجة محاربة الإرهاب.
لم تكن الضربة حفظا لماء الوجه كما قال بعضهم، بل إننا نميل الى رأي غورباتشوف آخر رؤساء الاتحاد السفياتي المنحل الذي قال فيه إن الضربة بمثابة مناورة إحمائية لضربات حقيقية قادمة. كانت الضربة العدوانية على الأرجح تمهيدا لإعادة رسم خريطة النفوذ في سوريا وهو ما فاجأ الروس والإيرانيين.. لن يتوقف الأمريكيون وحلفاؤهم عن استفزاز الروس إلى أن يقع الاشتباك الذي يريدونه.
وفي كل الأحوال، يحتاج السوريون وحلفاؤهم إلى إيقاف الاعتداءات الأمريكية والغربية والإسرائيلية. ومن دون رد قوي وحقيقي يواجه ضربة بضربة وصاروخا بصاروخ فإن أمريكا وإسرائيل والغرب سيتمادون في اعتداءاتهم إلى أن تحين اللحظة ويصبح فيها ممكنا توجيه الضربة الأخيرة.
من الممكن أن تكون هناك خشية من ردة فعل الأمريكيين والإسرائيليين تمنع السوريين وحلفاءهم من الرد في عمق الأراضي المحتلة أو في قواعد المعتدين التي تنطلق منها طائراتهم وصواريخهم، والاكتفاء بإطلاق مضادات. غير أن الحقيقة هي أن الروس يصرّحون أن الممنوع في سوريا هو الاعتداء على قواعدهم فقط. بل إن التنسيق الروسي الإسرائيلي لم يتوقف يوما، وهو الذي يمنع من الرد المتكافئ. لكن هذا كله قد يصبح من الماضي وقد يقرر الروس تغيير كل شيء والرد الذي يقلب المشهد كله.
بعد الغارات التي شنت على مطار تيفور في حمص توعّد الجنرال قاسم سليماني بالرد وأبلغ الإيرانيون الروسَ أنهم لا يقبلون تعديل "قواعد اللعب" في سوريا. يحمل الإسرائيليون التهديد الإيراني على محمل الجد ولعلهم قرأوا جيدا الرسالة التي وجهها أمين عام حزب الله عندما تعمّد قراءة بعض السطور بعناية من ورقة بين يديه، في خطابه قبل الأخير..

والأسابيع أو الأشهر القادمة كفيلة بتوضيح الصورة..


الخميس، 12 أبريل 2018

مأزق ترامب.. ابتلاع الهزيمة أو الحرب المجنونة





قاسم شعيب


انتقل الرئيس الأمريكي بسرعة كبيرة من الإعلان عن سحب قواته من سوريا إلى الإعلان عن توجيه ضربة لها. كان واضحا أن الإعلان الأول مجرد مناورة لابتزاز حلفائه وجعلهم يدفعون تعريفة الوجود الأمريكي في سوريا. لكن ترامب، الذي طالب، في تغريدة له أمس الأربعاء على تويتر، الروس بالاستعداد لصواريخه الجديدة والذكية، كما وصفها، بدا، اليوم، متراجعا في تغريدته الثانية، التي قال فيها أن الهجوم على سوريا قد يكون قريبا وقد يكون بعيدا جدا.
من غير الممكن الاعتماد على تغريدات الرئيس الأمريكي على تويتر لمعرفة ما سيفعله الأمريكيون. فترامب رجل مزاجي وهو لا يتخذ قرارات الحرب بنفسه. فهي جزء من إستراتيجية كبرى لم تبدأ اليوم بل تمتد إلى عقود ماضية. تتحرك الإدارات الأمريكية المتتابعة وفق خطة مرسومة قد يتم تغيير آجالها وتكتيكاتها غير أنها لا تتغير في جوهرها. انتهت المرحلة السابقة التي حارب فيها الأمريكان الروس في أفغانستان بالقاعدة والطالبان وحركات "الجهاد" الأفغاني.. وبدأت المرحلة الجديدة التي أصبح العدو الجديد فيها هو المقاومات العربية والإسلامية سواء كانت دولا أو منظمات، بدعم من حلفائهم الروس.
طوال الأزمة السورية المفتعلة كنا نقول إن الهدف هو تدمير بلد عربي آخر. وهذا الهدف يحتاج حربا داخلية ووقتا حتى يتحقق. جزء كبير من هذا الهدف أصبح واقعا. ويبدو أن الانتقال إلى مرحلة أخرى قد بدأ الآن. منذ نهاية الصيف الماضي، وبعد هزيمة داعش أو سحبها من التداول، حسم الأمريكيون أمرهم بالدخول في مرحلة جديدة تستبدل الأصيل بالوكيل.
معالم المرحلة الجديدة هي محاولة تغيير القيادة في سوريا والإتيان بقيادة جديدة لإتمام "مشروع الأردن الكبير" الذي يبقى هدفا مرحليا في طريق الهدف الأمريكي الأكبر وهو "إسرائيل الجديدة".
اختزال المشهد في شخص الرئيس الأمريكي ليس دقيقا لأننا نعرف أن من يحكم ويقرر الحرب والسلم في أمريكا هي المؤسسة. ووزارات البنتاغون والأمن والمخابرات جزء أساسي منها. لا شك أنها تأخذ في الاعتبار الواقع الدولي المعقد ولا تستغني عن تقدير ردود الأفعال بالدقة اللازمة خاصة عندما يكون الطرف المقابل اسمه روسيا القوة الكبيرة التي تختلف عن الصنف الذي تعوَّد الأمريكان مهاجمته.
لا يبدو قرار العدوان محسوما، وقد يأخذ وقتا إذا تقرر. وما يجري الآن من إعداد واتصالات أمريكية مع الحلفاء الأوروبيين بشكل خاص يبدو أنه من أجل التنسيق وتحديد الأهداف وتصور مدى الحرب ووضع احتمالات الرّد الروسي وحلفائه.
لا يتعلق سبب العدوان المعلن بالهجوم الكيمياوي المزعوم على مدينة دوما. بل إن ذلك الهجوم المفترض، سواء كان حقيقة أو تمثيلا، مجرد صناعة لتبرير الهجوم. فعلوا ذلك من قبل مع العراق وليبيا ويكررونه الآن مع سوريا. وكلام الرئيس الفرنسي عن ثبوت استخدام سلاح كيمياوي في دوما لا يعني شيئا سوى انضمام فرنسا على أمريكا في أي عدوان على سوريا.
لكن الإسرائيليين، على الجانب الآخر، مهتمون بتجنب أي تورط في الحرب، فطالما طلبوا ضمانات من الروس لمنع أي رد على غاراتهم على مواقع سورية أو حليفة. وخلال الحرب الطويلة هاجم الطيران الإسرائيلي مرارا وتكرار مواقع سوريا وآخرها الهجوم على مطار التيفور، ولم يتلق الرد المناسب حيث اقتصر الأمر في الغالب على إطلاق صواريخ اعتراضية مضادة، ولم يفكر أحد بالذهاب إلى الرد غارة بغارة وصاروخ بصاروخ. وهذا الأمر قد يكون مفهوما لأن الرد يعني فتح جبهة جديدة قد لا يكون توقيتها مناسبا. غير أن تبدّل قانون اللعبة في أي حرب لاحقة قد يورّط إسرائيل لتتلقى أقسى الضربات التي لم يسبق لها أن تلقتها.
اهتم السوريون والروس والإيرانيون بالتخلص نهائيا من بؤرة الغوطة الشرقيّة المزعجة. وخلال وقت قصير أمكن إخراج المسلحين وإعادة السيطرة الكاملة على دوما والمدن الأخرى. أدرك الأمريكيون أن السيطرة على الغوطة، المتميزة بطبيعتها العسكرية والعمرانية، تعني استعادة السيطرة على مناطق أكبر في عمق الجنوب السوري، في درعا والقنيطرة. وأكد ذلك حقيقة أن مجموعات المسلحين في الجنوب ليست قادرة على الصمود، ولا يمكن الرهان على دعمهم بعملية عسكرية مضادة. ولأجل ذلك فكّر الأمريكيون في إيقاف ذلك النجاح وافتعال ضربة كيماوية وإلصاقها بالجيش السوري من أجل تبرير عدوان منتظر. بدا الأمر لعبة أخرى يتقنها المكر الأمريكي.
لا يوجد خيار آخر أمام الأمريكيين لتحقيق أهدافهم الاستراتيجية المتعلقة بإسرائيل وافتكاك سوريا والسيطرة عليها سوى الذهاب إلى حرب شاملة. وتحقيق ذلك غير ممكن دون الاشتباك المباشر مع روسيا وإيران وقوى المقاومة. وهذا يستدعي دخول دول أخرى على الخط. فالأوروبيون لن يتأخروا عن الانضمام إلى الأمريكيين، والصينيون لن يبقوا على الحياد. أما الضربات الموضعية والعابرة فإنها لا تفيد الأمريكيين في شيء سوى حفظ ماء الوجه.
يجد الأمريكيون وحلفاؤهم من الأوروبيين والعرب اليوم أنفسهم أمام خيارات محدودة أحلاها مر؛ إما ابتلاع الهزيمة وطي الصفحة، أو شن الحرب الكارثية والمجنونة والشاملة والتي لا بد أن تذهب إلى أبعد مدى!



الأحد، 8 أبريل 2018

ابن سلمان وفوبيا إيران







قاسم شعيب

يمعن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب في استغلال هوسَ ولي العهد السعودي بالوصول السريع إلى العرش لعقد الصفقات المليارية، وانتزاع المواقف السياسية العلنية تجاه "إسرائيل" وإيران.. لا يتردد ابن سلمان في الاستجابة لترمب. بل إنه مستعد للذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك حتى لو تعلق الأمر بافتعال حرب ضد إيران لا تخدم أحدا سوى المحرّضين عليها.
قال محمد بن سلمان إن هناك سياسيين "أسوأ من هتلر" وكان يقصد المرشد الأعلى لإيران الذي "يحاول احتلال العالم بأسره" حسب قوله. مثل هذا التصريح يوحي أن الحاجة باتت ضرورية لافتعال حرب في المنطقة للتخلص من "الخطر الإيراني" المزعوم، تماما كما حدث عشية الحرب العالمية الثانية عندما تحالف الغربيون ضد هتلر. بل إن تهديدات سابقة كانت واضحة عندما تحدث ابن سلمان عن نقل المعركة إلى الأراضي الإيرانية أو حتى اللجوء إلى الحل العسكري بعد أن اتهمها بدعم جماعة أنصار الله في اليمن.
صفقات الأسلحة الضخمة التي وصلت إلى 110 مليار دولار خلال جولة ابن سلمان في الولايات المتحدة قد تعني أن الأمريكيين لا يريدون سوى ابتزاز السعوديين والتهويل بالحرب لدفعهم إلى عقد مثل هذه الصفقات. ولكنها قد تعني أيضا أنهم يريدون فعلا دفع ولي العهد السعودي للتورط في حرب جديدة.
لا يخطئ المراقب حقيقة التوتّر الطائفي المفتعل والمتزايد الذي تعيشه المنطقة. ومع وجود دولتين كبيرتين في المنطقة تختلفان سياسيا ودينيا، ليس مستبعدا اندلاع مواجهة جيوسياسية حتمية بينهما. فهناك شرق أوسط واحد وعالم إسلامي واحد، غير أن المتنافسين الإثنين لا يريد أي منهما زعامة الطرف الآخر ولا يقبل بها.
احتاج الأمريكيون إلى خلق مبرراتِ لعقد صفقات سلاح غير مسبوقة مع السعوديين، ودفعهم إلى تمويل تنظيمات وجماعات لتخريب المنطقة. وهم لأجل ذلك عملوا على شيطنة إيران وحلفاءها في المنطقة لتبرير ذلك. ليس مستبعدا تفجُّر الوضع في المنطقة أكثر مما حادث إذا أصر البيت الأبيض على ابتزاز محمد سلمان ودفعه لمغامرة ضد إيران بطريقة ما. فما يريده البيت الأبيض هو إعادة تشكيل الشرق الأوسط ولا يمكن أن يحدث ذلك دون افتعال فوضى وحروب بدأت في العراق وامتدت إلى سوريا ولا يبدو أنها ستتوقف هناك.
ما تكتبه الصحافة الإسرائيلية والأمريكية هذه الأيام يصب في هذا الاتجاه. ففي هآرتس كتب شلومو أفينري: إن "الحكم الاستبدادي الجديد قد يتطور إلى مواجهة عسكرية مع إيران، تُهزّ فيها السعودية، ونحن نأمل أن لا يتطور إلى حرب شاملة في المنطقة تصل إلى إسرائيل".. بل إنه ذهب إلى حد الحديث عن "حرب عالمية إسلامية" قريبة!
لا شك أن اندلاع نزاع مسلح مباشر بين السعوديين والإيرانيين يعوقه غياب حدود برية مشتركة بينهما، ونقص الخبرة العسكرية والروح المعنوية في الرياض حيث لا يرغب الحكام السعوديون في تعريض حياتهم الباذخة للخطر. لكن ذلك قد لا يكون عائقا حقيقيا.
ليست الحرب حاجة سعودية، بل هي حاجة أمريكية ليس فقط من أجل نشر الفوضى وافتعال الحروب وتوسيع سوق بيع السلاح، بل أيضا من أجل إضعاف المملكة وربما تفكيكها.. ولأجل ذلك يحاول الأمريكيون الدفع بقوة نحوها، خاصة بعد أن أحاط ترمب نفسه بحكومة حرب.
لا أحد يتمنى الحرب. غير أن القوى الحاكمة في واشطن ترى فيها مصدرا لقوّتها، فنحن لا نكاد نرى أمريكا هادئة بلا حروب تشنّها في هذه المنطقة أو تلك من العالم منذ الحرب العالمية الثانية إما بشكل مباشر أو من خلال وكلاء. واندلاع حرب واسعة في المنطقة لن يُبقي أحدا خارجها. بل إن الروس والأمريكان سيصطف كل منهما خلف حليفه. ولعل الغزل الذي أطلقه ابن سلمان تجاه إسرائيل خلال زيارته إلى الولايات المتحدة لا يستهدف فقط تحصيل رضا اللوبي الصهيوني في واشنطن لضمان الوصول إلى العرش، بقدر ما يريد، أيضا، ضمان الدعم الإسرائيلي في حال وقوع أية مواجهة.


الأربعاء، 4 أبريل 2018

الثروة والسيادة.. وسقوط السياج الحديدي






قاسم شعيب


في كتابه "المعذّبون في الأرض"، تحدث فرانز فانون عن وهم الاستقلال مؤكدا "أن الأشكال الوحشية التي يجسّدها وجود المحتّل على الأرض قد تزول زوالا تامّا. والواقع أن زوالها هذا لا يعدو كونه تخفيضا للنفقات التي ينفقها المحتّل، ولا يعدو كونه إجراء إيجابيّا من أجل الحيلولة دون بعثرة قواه. ولكن الشعب الخاضع للاستعمار لا يلبث أن يدفع ثمن ذلك باهظا، يدفع ثمنه مزيدا من تحكّم الاستعمار وتلاعبه بمصيره".
يأخذ استقلالُ الدّول أبعادا متعددة. فهو لا ينحصر فقط في السّيادة العسكرية على الأرض، بل يذهب إلى ما هو أعمق من ذلك فيما هو استقلال القرار السياسي والسيادة على ثروات البلاد وتاريخها وثقافتها. ومن دون هذه السيادة المتعددة الأبعاد يبقى الاستقلال ناقصا.
كشف الإرث الاستعماري
في المثال التونسي، فرضت حكومات "ما بعد الاستقلال" سياجا حديديّا على بنود الاتفاقيّات التي تم توقيعها مع الاحتلال الفرنسي قبل اضطراره لسحب قواته العسكرية من البلاد في سياق تاريخيّ شهد موجات عاتية لحركات التحرر الوطني في قارات الجنوب ولم يعد ممكنا استمرار أشكال الهيمنة التقليديّة والاستعمار العسكريّ المباشر.
وتم اختزال حدث "الاستقلال" في صور خرساء واحتفالات نمطية ورواية رسمية باهتة كيّفها مجموعة من المؤرخين حسب أهواء "المجاهد الأكبر". لكنّ سقوط نظام زين العابدين بن علي عشية 14 جانفي 2011، أعطى مجالا واسعا من الحريّة انبثقت عنها انتخابات ومؤسسات وهيآت كشف بعضها الكثير مما كان مَخْفيا.
هيأة الحقيقة والكرامة، التي صوّت البرلمان، قبل أيام، لإيقاف نشاطها في جلسة غير قانونية بسبب عدم اكتمال النصاب القانوني لحضور النواب، وهو الثلث، هي واحدة من تلك المؤسسات التي أكدت ما كان متداولا، دون أدلة ملموسة، عندما نشرت وثائق تكشف الاتفاقيّاتِ الموقعة بين تونس وفرنسا، في حقبة الاستعمار وبعدها، تشير إلى تكوين شركات منحتها حقوق استغلال الحقول النفطيّة والمقاطع في إطار عقود استغلال أو رُخص تنقيب وتحديد قيمة أتاوات استغلال ومنح امتيازات زمنية لـ 99 سنة أو إحداث تدابير خاصة بالشركات الفرنسيّة لتسهيل التنقيب عن المواد المعدنيّة.
لم يغفَل المحتل الفرنسي، قبل خروجه من البلاد، عن تحصين إرثه الاستعماري من خلال فرض الإبقاء على الفصلين 33 و34 الواردين في اتفاقيتي الاستقلال الداخلي والتام واللذّين ينصّان: أولا، على التزام الدولة التونسيّة بمنح حقّ الأفضليّة للمشاريع الفرنسيّة عند تساوي الشروط للحصول على رُخص التفتيش والاستثمار وعلى اللزم. وثانيا، على منع الدولة التونسيّة على تغيير آجال اللزمات والاتّفاقيات ورُخص التنقيب والاستثمار المبرمة أو الممنوحة إلاّ بموافقة الطرف الفرنسي.
ومن الطبيعي أن تؤدي تلك الاتفاقيات إلى خسارة الدولة التونسية سيطرتها على مواردها الطبيعيّة والماليّة. ففي محضر جلسة الوزير الأوّل التونسي وسفير فرنسا نجد أنّ إنتاج الحقول النفطيّة التونسيّة خلال سنة 1971 قد بلغ 4 مليون طن، أي ما يعادل 30.4 مليون برميل، في حين لم تتجاوز مداخيل الدولة التونسيّة من النفط خلال نفس الفترة 300 مليون فرنك فرنسي أي ما يعادل 550 ألف دولار أمريكي، بمعدّل 0.2 دولار للبرميل الواحد، رغم أنّ سعر برميل البترول سنة 1971 كان في حدود 3.6 دولار. وهو ما يعني أن المردوديّة لم تتجاوز 6%.
وفقدان القرار التونسي استقلاليته تجلى أيضا في مجال التصرّف في الطاقة، ليشمل إقصاء تونس من المحادثات مع الطرف الجزائري حول استغلال الأراضي التونسيّة لنقل البترول من الجزائر. وانتهت المفاوضات ين الجزائر وفرنسا إلى فرض اتّفاقيّة مع الحكومة التونسية سنة 1958 لمدّ أكثر من 510 كلم من إجمالي 775 كلم مربّع من قنوات نقل البترول من "عين أميناس" بالجزائر إلى ميناء الصخيرة وفق عمولات حدّدها الطرف الفرنسي منفردا ودون الرجوح إلى الحكومة التونسية.
أما بالنسبة للشركة العامة للملاحات التونسية "كوتوزال"، فإن ملّفها طُرح لأوّل مرّة خلال جلسة تنصيب مهدي جمعة رئيسا للحكومة في جانفي 2014، لكنه لم يحقق أي تقدم رغم الضغط السياسيّ والإعلاميّ لمراجعة عقد الاستغلال وتحسين بنوده. وجاءت وثائق هيأة الحقيقة لتؤكد أكثر ما نشر في الإعلام.
في وثيقة هيأة الحقيقة والكرامة، أعلن المرسوم الموقع من قبل محمد الأمين باي والمقيم العام الفرنسي في تونس جان مونس بتاريخ 06 /10/ 1949 اندماج أربع شركات تستغلّ ملاّحات خنيس وسيدى سالم وطينة ومقرين وفق مرسوم 6 أكتوبر 1949. وتبعت هذه الاتفاقيّة ملاحق تحدّد حجم الأراضي المستغلّة ومدّة الاستغلال التي تمّ تحديدها بـ50 سنة قابلة للتجديد إلى 15 سنة إضافيّة يتمّ تجديدها بشكل آلي إذا ما لم يُطلب من الشركة إنهاء الامتياز. أما ضرائب استغلال الأراضي فتحسب بأدنى سعر من السلم العام لاستغلال أراضي الدولة التونسية. كما تتضمّن الوثيقة المذكورة العائد المالي من استغلال الأراضي التونسيّة والتي حدّدتها الفقرة الثانية من المادة 11 بسداد حقوق استغلال الأملاك العامة بقيمة 1 فرنك للهكتار الواحد سنويا لجميع المناطق التي تشملها رسوم الامتياز للمجال العام.
وفي اتفاقية 03/06/ 1955 للاستقلال الداخلي التّي تضمن مصالح الشركات الفرنسية بعد الاستقلال، نصت الفصول 28 و29 و30 و31 و32 على التزام الدولة التونسيّة بالحفاظ على الوضعيات القانونيّة للشركات الفرنسيّة في تونس والتعهّد بعدم إجراء أيّ تعديلات للعقود المبرمة أو التدخّل بالقوّة العامّة في شؤون تلك المؤسّسات أو المسّ من امتيازاتها. كما تعهدت الدولة التونسيّة بعدم المسّ بالاستثمارات الفرنسيّة أو مراجعة رخص التنقيب والاستغلال إلاّ بموافقة الطرف الفرنسي.
لكن ما نشرته هيأة الحقيقة والكرامة لا يمثل إلا جزءا من القضايا المسكوت عنها حتى الآن مثل آليات إبرام عقود الاستغلال وامتيازات التنقيب الممنوحة للشركات الأجنبيّة وشركة بوشمّاوي النفطيّة وقضيّة منجم سراورتان، إضافة إلى ملفّ الغاز الصخري الذّي مازال يثير جدلا واسعا في أوساط المجتمع المدني والجمعيات البيئيّة.
تفاوت ردود الأفعال
من الطبيعي أن تسارع السفارة الفرنسية إلى الرد، فقالت في بيان لها إنّ فرنسا تتعامل بشفافية في هذه القضية وهي لا تحاول أن تخفي شيئا من حقبة الاستعمار بدليل تمكينها الهيأة من عدد من تلك الاتفاقيات، ولا توجد أيّة مؤسسة فرنسية تتمتع بشروط تفضيلية أو بحقوق خاصة لاستغلال الموارد الطبيعية في تونس.
لكن اللافت أن تستفز تلك الوثائق عددا من "المؤرخين" التونسيين الذين تبرّعوا لإدانة هيأة الحقيقة والكرامة، فوصفها خالد عبيد بأنها "محاولات تزييف من شأنها تقسيم التونسيين وتوظيف التاريخ في صراعات جانبية سياسوية"، وهو كلام لقي ترحيبا من الرئيس قايد السبسي الذي استقبله عقب ذلك.
هذا الموقف وجد رفضا من منظمات المجتمع المدني وبعض الأحزاب التي وقفت إلى جانب هيأة الحقيقة والكرامة ورئيستها سهام بن سدرين رغم بعض التحفظات والاختلافات السياسية والإيديولوجية. لكن الرد الأكثر جديّة جاء من المؤرّخ الأكثر اعتبارا في تونس عبد الجليل التميمي الذي فنَّد كلام خالد عبيد وأكد في تصريح إذاعي صحّة الوثائق التّي تولّت مؤسّسته دراستها والتثبّت منها، مُحمّلا القيادة السياسيّة التي وقعت وثيقة الاستقلال مسؤوليّة التفويت في الموارد الباطنية للدولة التونسية على غرار الملح والنفط.

بعد مرور أكثر من ستة عقود على توقيع تلك الاتفاقيات المجحفة دون مراجعة، لم يعد طرح مسألة السيادة الوطنيّة على ثروات البلاد مجرّد ترف فكري قائم على تخمينات، بل أصبح مسألة موثقة يتعين العمل من كشفها وتوضيحها بشكل أوسع وصولا إلى استعادتها بشكل كامل أمام التغييرات الجيوسياسيّة التي تواجهها تونس والمنطقة برمتها.

الاثنين، 2 أبريل 2018

هل يمكن بناء القيم الأخلاقية على أساس الفكر الإلحادي؟



قاسم شعيب



يبحث علم الأخلاق في ما ينبغي أن يكون عليه سلوك الإنسان. فالأخلاق لا تقبل بما هو واقع دائما، بل تبحث عن الأفضل والأكمل من أجل تحقيقه. وإذا كان العلم الطبيعي يريد اكتشاف الواقع من خلال الملاحظة والتجربة والسبر والاستنتاج، فإن العلم الأخلاقي يريد الانطلاق بالواقع نحو آفاق أجمل اعتمادا على قدرات الإنسان الكامنة. والفرق الآخر بين الاثنين هو الموضوع لأن العلم الطبيعي يبحث في هو مادي بينما تبحث الأخلاق فيما هو روحي.
يفتقر الملحد إلى مرجعية نهائية تحدد له بوصلة الحركة. ولأجل ذلك يرفض الاعتراف بوجود الحقيقة المطلقة ويعتبر الحقيقة نسبية وذاتية وكل إنسان يراها على طريقته. لا شك أن الذاتية والنسبية ليست خاصة بالملحدين بل إنها تشمل المثاليين واللادريين والشكاكين والريبيين والوجوديين.. وباختصار كل النزعات الذاتية على مختلف تلوّناتها.
يختلف الفلاسفة في الأسس والمعايير التي يقوم عليها العقل العملي. وهناك معياران أو أساسان عندهم. الأول، الأساس الذاتي. والثاني، الأساس الموضوعي. والأساس الذاتي ليس شيئا آخر سوى الرؤية الذاتية للشخص أو مجموعة الأشخاص أو المجتمع في عمومه. أما الرؤية الموضوعية فهي التي تعتمد أسسا واقعية منفصلة عن الإنسان وتتفق حولها جميع العقول. فهذا الاتجاه يرى أن القاعدة الصلبة للأخلاق متحققة في الواقع الخارجي خارج ذهن الإنسان. وهي لذلك صحيحة في ذاتها حتى لو لم يؤمن بها أحد.
لا يؤمن الإلحاد بالأساس الموضوعي للأخلاق ويتبنى الأساس الذاتي القائم داخل الذهن الإنساني. فهو يقيم تصوراته على المعيارية الذاتية، لكن مشكلة هذه المعيارية في نسبيتها. ذلك أنها لا تقبل بالإطلاق، وهو ترى أن الأحكام الأخلاقية تتباين بحسب تباين وجهات النظر وتعدد الأفراد. فالمجتمعات تختلف قواعدها الأخلاقية باختلاف ثقافاتها وتقاليدها وأنساقها الفكرية والدينية. وهذا ما يعني غياب مرجعية ثابتة ونهائية في نظر الاتجاهات المادية والوضعية لأن المرجعية لديهم ليس واحدة بل متعددة، والأخلاق ليست نهائية بل متغيرة.
يعترف جان بول سارتر بحقيقة أن الإلحاد وإنكار وجود الله يعني ضرب كل القيم[1]. لكن الحرج الذي شعر به سارتر والناتج عن التداعيات المدمرة لإنكار وجود الله حاول ريتشارد دوكنز المعروف بإلحاده الالتفاف عليه من خلال إنكار وجود الخير والشر والحديث عن عدمية مطلقة للوجود فقال: "في هذا العالم لا يوجد شر ولا يوجد خير، لا يوجد سوى لامبالاة عمياء وعديمة الرحمة"[2]. وهو بذلك يتجه إلى نوع من النسبية الأخلاقية والعدمية الوجودية التي لا يمكن بناء الحياة على أساسها بسبب تصادم المصالح والأهداف والرؤى.
 وبالفعل، فإن إنكار وجود الله ورفض اعتباره ضامنا للحق والخير والمسؤولية يعني استباحة كل شيء، وهو ما يعني الانخراط في عبثية تدمر الحياة لا محالة. وهذا ما فهمه الباحث الأميركي اللاأدري ديفيد برلنسكي عندما قال مفسرا مقولة ديستوفسكي: "إذا كان الإله غير موجود فكلّ شيء مباح"، "فإذا لم تكن الواجبات الأخلاقية مأمورة بإرادة الله، ولم تكن في الوقت ذاته مطلقة، فإن (ما ينبغي أن يكون) هو ببساطة ما يقرّره الرجال والنساء. لا يوجد مصدر آخر للحكم. هل هذه إلا طريقة أخرى للقول بأنه طالما أن الإله غير موجود، فكل شيء مباح؟"[3].
تعني نسبية القيم تحوّل مفاهيم الحق والخير والفضيلة إلى أشياء نسبية متغيّرة بحسب نظرة الشخص لها حيث لا مرجعية موحدة تجمعها. والقول بنسبية القيم يعني أنه لا يوجد معيار للقيم وأن المنطق الإلحادي والوضعي عامة لا يملك معيارا لها. لا يستطيع الفكر المادي الوضعي تفسير مفاهيم الوعي والإدراك والقيم الأخلاقية. ولا يمكنه الاعتراف بوجود مكوّنات غيبية فوق طبيعية في عالمنا، وكل ما يستطيعه هو السعى إلى البحث عن تصوّر مادّي جديد يستطيع تقديم مبرّرات موضوعية تسوّغ الفعل الأخلاقي الإنساني في إطاره.
 إن إنكار الواقع الموضوعي للقيم واتفاق الناس جميعا حولها لا حل له نظريا إلا باللجوء إلى مقولة النسبية التي لا تصمد أمام أية محاججة منطقية. فالناس يتعاملون في الحياة العامة على أساس التسالم على تلك القيم. ولولا ذلك لاستحالت المعاملات الإنسانية. فأشياء مثل الأمانة والعهود والصدق والحقوق لو لم تكن موضوعية متفق عليها بين الناس لما كانت المعاملات المالية والتجارية والاجتماعية ممكنة.. بل إن الادّعاء بنسبية القيم من الممكن أن يحوّل القتل إلى ممارسة متهوّرة لا تقوم على أساس سوى الأهواء والنزوات. وهو أخطر ما يمكن أن يصيب الحياة العامة.
إن الحديث عن نسبية الأخلاق يعني بوضوح استباحة كل شيء. يصبح الزنا والسدوية والشذوذ والخيانة والكذب والقتل والشر والرذيلة.. أشياء مبرّرة تماما. ولعل هذا ما وصلت إليه اليوم بعض المجتمعات والأفراد كما هي حالة لورنس كراوس الذي يعتقد بصحة زنا المحارم في مناظرته مع حمزة تزورتيس. وكذلك ريتشارد دوكنز الذي رأى أن الإجهاض فعل أخلاقي ومشروع طالما ليس هناك ألم، وبرّر ذلك بقوله: "لأن الجنين في بطن أمّه هو أقل إنسانية من أي خنزير بالغ"[4]. وهذا التبرير يوضح قيمة الإنسان في رأي دوكنز!
وبالمنطق ذاته تصبح السدومية والمثلية الجنسية ممارسة مشروعة بل يصبح الجنس مع البهائم شيئا مشروعا كما قال الأسترالي بيتر سنجر. فمادام ذلك لا يتضمن أذى من أي نوع للحيوان فهو أمر طبيعي ومقبول في إطار حميمية العلاقة بين الحيوانات والإنسان[5]. لا يهتم أتباع هذا التيار بقيمة الحياة الإنسانية التي لا يمكن لشيوع ممارسات السدومية والجنس الحيواني سوى تدميرها فضلا عن الأمراض التي تسببها تلك الممارسات الشاذة والمصادمة للطبيعة.
ليس الإلحاد حقيقة تتحرك داخل الإنسان. بل هو مجرد أداة لتبرير اعوجاج في السلوك والفكر يعاني منه الشخص. يؤمن كل الناس في قرار أنفسهم بالله خالقا لهذا الوجود. غير أن الذين يقبلون برسالاته ويسلّمون لأمره قلة من الناس. مشكلة الإنسان مع الله كانت دائما في طاعته وليس في الإيمان بوجوده.
والأخلاق مثل بقية القيم الحقوقية هي الضحية الأولى لنزعات الإلحاد المزعومة. ذلك أن إنكار الوجود الإلهي مجرد مدخل لإنكار رسالاته ورفض القيم التي دعا إليها. لا شك في حاجة الأخلاق إلى الإيمان والعقل معا، فهما صديقان لا ينفصلان. ورغم أن البعض قد يرى إمكانية لتأسيس الأخلاق على العقل فحسب، إلا أن هذه ليست إلا حالة قلة من الناس. ذلك أن أكثر الناس تحركهم الانفعالات والعواطف، والثواب والعقاب. فما لم يكن هناك ثواب محتمل أو عقاب متوقع، فإن هذا الصنف من الناس ليس بإمكانه الالتزام بأية ممارسات أخلاقية.
ولأجل ذلك يرى أغلب الناس أن الإلحاد لا يمكنه أن يكون أساسا للأخلاق، بل إنه سبب رئيسي في تدميرها. وهم يستدعون التجربة السياسية لبلدان المعسكر الشيوعي لتأكيد ذلك.
إن الماديين والملاحدة ليس بإمكانهم تبرير القيم الأخلاقية حتى وإن آمنوا بها. فالأخلاق تحتاج إلى الدّين والعقل، وكلاهما مرفوض لدى المدرسة المادية. وبرفضهم للدّين والعقل لا يبقى لديهم أساس موضوعي للفعل الأخلاقي.
يمكننا أن نجد ماديين وملحدين يمتلكون أخلاقا ولكن لا توجد أخلاق إلحادية. والسبب هو أن الملحد يتأثر ببيئته وتربيته ومنهما يكتسب الالتزام الأخلاقي. أما الإلحاد النظري ذاته فهو لا يقبل الأخلاق الموضوعية والمطلقة المؤسسة بالضرورة على الدين أو العقل أو كليهما.


[1] Jean-Paul Sarte: Basic writings, New York: Routledge, 2001, P.32.
[2] Richard_Dawkins, River Out of Eden:A Darwinian_View of Life, P.133.
[3] David Berlinski: The Devil’s Delusion:Atheism and It’s Scientific_Pretensions, P.19,40.
[4] Richard Dawkins tweets on abortion. https://www.lifesitenews.com/opinion/richard-dawkins-tweets-on-abortion-any-fetus-is-less-human-than-an-adult-pi.
[5]  بيتر سينغر، الالحاد وجماع الحيوانات https://www.youtube.com/watch?v=2pG01ASbgyM.