الخميس، 13 فبراير 2020

الاستشراق المعاصر والسلفيات الجهادية


الاستشراق المعاصر والسلفيات الجهادية

قاسم شعیب

يسمي الكاتبُ والمترجم هاشم صالح الباحثَ الفرنسيّ جيل كيبل "أكبر مفكر عربي معاصر" لأنه أمسك بالمشكلة الأساسية في العالم، حسب تقديره، وهي مشكلة الأصولية والسلفية وركز عمله عليها منذ أكثر من أربعين سنة.

يعيد كيبل التطرف السلفي إلى تعاليم الإسلام نفسه. ويجعل من تلك الحركات مشكلة العالم الأولى. وهذا لا يحيل إلى معرفة عميقة بالإسلام لدى كيبل، كما أنه يمثل  اختزالا لمشكلة مركبة.

لم تظهر الحركات السلفية، المسماة جهادية، بشكل تلقائي بل هي حركات مصنوعة، عمل الغرب على صناعتها وتغذيتها منذ ظهور محمد بن عبد الوهاب والدولة السعودية، اعتمادا على مادة أولى وفرتها مدرسة "أهل الحديث" والنزعة السلفية والفقه التيمي.

اعتبر كيبل أن تلك الحركات مفصلية خارجة من عمق التاريخ. وهذا صحيح. ولكن ما أغفله كيبل هو الدور الغربي في احياء ذلك التراث التاريخي المستند إلى فتاوى متوترة وفقه سلطاني غالبا.

غني عن البيان أن ابن تيمية هو المنظر الأول للسلفيات المعاصرة مهما اختلفت فيما بينها سياسيا. فالأساس العقائدي يبقى مشتركا والقدر الأكبر من الرؤية الفقهية يبقى مشتركا أيضا.. اكتشف الغرب ذلك وعمل عليه. وكان البريطانيون سباقون إلى ذلك.

يعتقد كيبل أن الحركات السلفية تمثل "روح الإسلام" منذ كتابه الأول "النبي والفرعون".
في هذا الكتاب قدم صورة سلبية جدا عن الإسلام. وهذا متوقع من مستشرق فرنسي معاصر لا يدرك عمق الواقعة الإسلامية وتلبس التاريخ بالنظرية والعبث الذي يفوق الخيال الذي تعرض له الإسلام النبوي  في مفاهيمه وقيمه وأحكامه.

وقد تأثر بما كتبه كيبل كتاب كثيرون منهم عبد الوهاب المدب، سليل أحد شيوخ الزيتونة، الذي لم يتردد في عنونة كتابه بـ "مرض الإسلام"، وعفيف الأخضر في كتابه الذي أصدره قبل أن ينتحر: "من محمد الإيمان إلى محمد التاريخ" والذي مثل اعتداء على شخصية النبي ص.. وآخرين مثل جورج طرابيشي..

لم يهتد كيبل إلى ما اهتدى اليه اوليفييه روى الذي كتب "الجهل المقدس والتدين بلا ثقافة"، مؤكدا على أن الفكر والسلوك السلفيين غريبان عن تعاليم الإسلام. ومن الطبيعي أن يميل العلماني العربي، الكاره للدين في ذاته، إلى أطروحات كيبل دون أطروحات روى.

من الممكن أن تكون مشاكل الفقر والاقتصاد سببا جزئيا في انتشار الفكر السلفي، لكن هذا شيء هامشي. والمشكلة الأساسية تتردد بين الجهل بحقيقة التعاليم الإسلامية لدى الشباب ما يسهل استقطابه، والدور المخابراتي الكبير الذي صنع من ضباط مخابرات قادة وشيوخا يسوقون هؤلاء الشباب إلى أهدافهم ليكونوا هم المنفذين لأجنداتهم.

تسمية هذه الحركات السلفية بالإسلامية ظلم للإسلام وقد يكون الأمر مقصودا من أجل الإساءة والتشويه خاصة بعد أن انتقل حكام الغرب مثل الرئيس الفرنسي والرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء البريطاني إلى الحديث عن "الإرهاب الإسلامي".

بالأمس استقبل الرئيس التونسي قيس سعيد هذا الكاتب الفرنسي جيل كيبل الذي أهداه كتابه الأخير "الخروج من الفوضى الشرق أوسطية" بعد أن أنهك الجميع.. لا نعلم مغزى ذلك الاستقبال. لكن تهليل هاشم صالح للكاتب والكتاب، قد يضيء على الحقيقة، رغم أنه اعترف أنه توقع خمسين سنة من الفوضى في العالم العربي.

نحن صنعنا الفوضى ونحن ننهيها بحسب ما تقتضيه مصالحنا.. هذا ما أراد الكتاب قوله. لكن السؤال يبقى عن كيفية انهائها..

يشتغل الغرب ضمن مؤسسات ومراكز دراسات استراتيجية.  وباحث مثل كيبل لا يمكن أن يكون خارج تلك المؤسسات.

الأحد، 11 نوفمبر 2018

حكام تونس والحضن الصهيوني




يركض الشباب والشياب إلى وسط العاصمة ليقفوا بعض الوقت أمام المسرح البلدي. يقولون كلاما ويرفعون شعارات ثم يعوديون إلى بيوتهم فرحين مسرورين. هذه أشكال بائسة لما يسمى نضالا. يعرف الجميع أن المشكلة الأساسية تتحدد في الطبقة السياسية الحاكمة. ولو كانت لدينا حكومة وطنية لما وصلنا إلى هذا الحضيض.
يحتاج النضال الحقيقي أن يبدأ بهذه الحكومات المتعاقبة على بيع البلاد.. وهذا الهدف لا يمكنه أن يستغني عن مخاطبة الناس وإقناعهم، لكن ذلك غير ممكن دون امتلاك إعلام جاد وملتزم ومنابر ثقافية حقيقية.. ودون امتلاك ما يكفي من المصداقية.
تعيين روني طرابلسي ليس إلا امتدادا لتاريخ طويل من العلاقات التي تربط الطبقة السياسية الحاكمة منذ بداية الخمسينات، وحتى قبل ذلك، بالحركة الصهيونة والجهات اليهودية النافذة. وهذا يعني أن المشكلة ليست في هذا الوزير أو ذاك وإنما في نظام كان ولا يزال متواطئا ضد مصالح البلاد.
نشر ديفيد لاسكيير المؤرخ الإسرائيلي المتخصص في العلاقات المغاربية الإسرائيلية وثيقة عن العلاقات التي كانت تربط بورقيبة ونظامه بالأوساط اليهودية والصهيونية. وتؤكد أن تونس كانت، مع بورقيبة، تتقرب لأمريكا عبر الوسيط الإسرائيلي للحصول على الدعم.
في شهر شباط/ فيفري 1956 التقى بورقيبة السفير الإسرائيلي بباريس ياكوف تسور، خلال ما سمي بمفاوضات الاستقلال. ونصح السفير الإسرائيلي بورقيبة بـ"ضمان دعم اليهود الأمريكيين للحصول على دعم اقتصادي أمريكي". بعد ذلك سافر بورقيبة الابن الى واشنطن وقدمت له أمريكا دعما بـ20 مليون دولار مقابل شراء الخمور التونسية..
والسياحة التونسية نفسها ارتبطت بالدعم الاسرائيلي حيث طلبت غولدا مائير عندما كانت في وزارة الخارجية الإسرائيلية، من السفير الإسرائيلي بواشنطن تشجيع اليهود الأمريكيين على إضافة تونس إلى قائمة رحلاتهم السياحية، وحسب تلك الوثيقة، وصلت وفود منهم إلى تونس منذ نهاية سنة 1965.
ويوم 4 تشرين الأول/ أكتوبر 1966 التقى محمد المصمودي سفير تونس بباريس آنذاك مع السكرتير السياسي للمؤتمر اليهودي العالمي ألكسندر ايسترمن، وطلب دعم اليهود لتونس ماليا واقتصاديا.
لم يتغير شي مع ذهاب بورقيبة بل إن خلفه واصل المسيرة ذاتها. أما الذين جاءوا بعد هروب ابن علي أو تهريبه، فإنهم ينتقلون الآن من السرية إلى العلنية بعد أن عجز سابقوهم عن فعل ذلك أو الاستمرار فيه..
الطريق إلى واشنطن يمر عبر تل أبيت.. هذه قاعدة يعرفها الحكام العرب، وأكثرهم أو ربما كلهم، يعمل بها.. ونقطة الانطلاق في أي عملية تحرر سياسي لا بد أن تبدأ بهؤلاء الحكام والطبقة السياسية التي تحتضنهم..


الأربعاء، 24 أكتوبر 2018

الراقص أردغان!





قاسم شعيب


بعد أن رفع أردغان سقف التوقعات عاليا قبل خروجه إلى الناس بخطاب عن قضية الصحفي السعودي جمال خاشقجي، صُدِم الكثيرون بخطاب فارغ لا يتضمن جديدا. كرّر أردغان ما سربته الصحافة والإعلام على مدى أيام ولم يفعل أكثر من التلميح إلى تورّط جهات رسمية سعودية أساسية.
لم يكن ذلك غريبا بالنسبة للرئيس التركي الذي لا يمكنه تجاوز السقف الأمريكي الذي حَدّد مسبقا الحد الأعلى لتلك التصريحات بعد وصول مديرة المخابرات الأمريكية على عجل إلى أنقرة بعد أن غادرها وزير الخارجية بلدها بومبيو. فلابد أن تنسيقا جرى لتحديد النقاط التي يمكن أن تقال والنقاط التي لا ينبغي أن تقال.
لا يبدو أن أردغان قادر على اتخاذ مواقف جذرية. بل إن قضية خاشقجي ربما مثلت فرصة بالنسبة له لابتزاز السعودية. والابتزاز يتطلب الاحتفاظ ببعض الأوراق أو كلها وعدم إلقائها. من الواضح أن المخابرات التركية كانت على علم مسبق بالعملية وقد جهزت كل ما تحتاج لتوثيق العملية وتركها تأخذ مجراها دون تدخل. أما كيف عرفت المخابرات التركية بذلك فهناك طرق كثيرة. ولعل وجود التركية خديجة التي رافقت خاشقجي إلى القنصلية وقالت إنها خطيبته يمثل أحد مفاتيح اللغز. اتهمت خديجة بالولاء لفتح الله غولن الذي تخرجت من إحدى مدارسه واشترطت عليها السلطة التركية الانضمام الى حزب العدالة والتنمية لإطلاق سراحها. ثم انضمت لاحقا إلى الاستخبارات الخارجية التركية. والمعقول أن تكون خديجة قد أوقعت خاشقجي في فخها وكانت مكلفة بمهمة مرافقته لكشف تفاصيل عملية التصفية التي دبرتها المخابرات السعودية له من أجل الحصول على إثباتات للعملية. والمعقول أيضا أن يكون قد جرى ذلك بتنسيق كامل مع الاستخبارات الأمريكية.
برّر بعض المقربين من أردغان عدم اتهامه ولي العهد السعودي مباشرة بالعملية بأن المعلومات التي لديه لا تزال معلومات استخباراتية تجسسية تحتاج إلى تحقيق قضائي. وليس ممكنا له استباق عمل القضاء. هذا الكلام سيكون وجيها لو كان حقيقيا ويطبق على القضايا المشابهة مثل اتهام غولن وأنصاره بتنفيذ انقلاب فاشل واعتقال الآلاف من الناس بتهم لا يمكن أن تثبت مثل المشاركة في الانقلاب بينما يعرف الجميع أن الانقلابات هي عادة من تدبير جماعة محدودة العدد.
لم يكن عدم اكتمال التحقيقات هو سبب عدم توجيه الاتهام للرسميين السعوديين. بل إنه كان ممكنا في هذه الحالة نشر التسجيلات التي قال الإعلام التركي إنها تثبت تورط سعود القحطاني وولي العهد في العملية. لكن ذلك لم يحدث. وهذا ما أراح ولي العهد السعودي الذي خرج اليوم مشيدا بأردغان ومتحدثا عن تركيا الشقيقة بدل تركيا العصملية!
يقول الإعلام السعودي أن المتهم بري حتى تثبت إدانته. سيتطلب الأمر مقدارا من الغباء حتى يقول صاحبه هذا الكلام بعد أن اعترف الرسميون السعوديون بالجريمة. لا توجد في السعودية مؤسسات من أي نوع. فلا دستور ولا برلمان ولا انتخابات ولا شفافية ولا رقابة ولا قضاء مستقل ولا إعلام ضاغط ولا حريات ولا عدالة، بل كل ما يوجد هو فقط فرد أو أفراد يحكمون بشكل مزاجي ومطلق ولا رقيب عليهم في كل ما يفعلون. ويبدو أن أردغان الذي طار إليه خالد الفيصل وقدم له حزمة من الإغراءات لإسقاط القضية قد خضع لذلك رغم أنه صرح أنه لا يقبل الرشوة السياسية. من المرجح أنه قال ذلك لإبعاد الشبهة بعد أن علم الرأي العام التركي بمجي الأمير السعودي.
تمر بتركيا منذ سنوات عواصف متتالية. فمن الأزمة السورية انتقلت إلى الأزمة مع الروس ثم ظهرت أزمة الانقلاب فأزمة القس الأمريكي وعقوبات ترمب. ووصلنا أخيرا إلى أزمة الصحفي خاشقجي. وفي كل تلك الأزمات برهن أردغان أنه لاعب سياسي ماهر ولكن دون قيم وأخلاقيات. فهو يعد ويخلف، يبيع ويشتري، مبديا استعداده لفعل أي شي فقط لضمان مصالح قد تكون شخصية أكثر منها وطنية.
يعزف ترمب فيرقص أردغان فيُعجَب بذلك ابن سلمان!


الثلاثاء، 23 أكتوبر 2018

هل وقع طارق رمضان في فخ أم أنه كان فعلا يمارس الإزدواجية؟






قاسم شعيب


لم يتردد الإعلام الغربي في إسباغ الألقاب الفخمة على الأكاديمي والباحث السويسري من أصل مصري طارق رمضان، فوصفته الواشنطن بوست بمارتن لوثر الاسلام واعتبرته تايم الأمريكية نجما إسلاميا وعدته من بين أهم مائة شخصية في العالم. بينما أطلق عليه آخرون ألقابا مثل مالكم إكس الأبيض ومارتن لوثر كينغ المسلم. ورغم أن الأخ الأكبر، كما يسميه عشّاقه، يلقَى الكثير من الحضوة في أوروبا والغرب وفي كثير من بلاد العرب، إلا أنه يواجه منذ فترة أوقاتا صعبة بعد ظهور امرأة فرنسية على إحدى شاشات التلفيزيون في فرنسا تتهمه بالتحرش والاغتصاب، ثم تلتها أخرى، ليرفعا معا قضيتين ضده وهو ما اضطره إلى طلب إجازة من جامعة اكسفورد التي يعمل بها، ورفع قضية مضادة ضد المرأتين، معتبرا نفسه مستهدفا بسبب خطابه. غير أنه لم يجد مفرا أخيرا، هذا الإثنين، من الاعتراف أنه كذب وأنه فعلا أقام علاقات جنسية مع المرأتين هند عياري وكريستال.
مستنير أم محافظ؟
يجد المتابعون لطارق رمضان ونشاطاته من هواة التصنيف صعوبة في فهم فكر الرجل وهل هو اصلاحي مستنير أم داعية محافظ، ليبرالي غربي أم إسلامي غربي.. يرفض رمضان كل تلك التصنيفات ويعتبر نفسه مسلما غربيا، فهو لا يقدم نفسه محافظا ولا إصلاحيا ولا ليبراليا ولا حتى إسلاميا. تحاشى رمضان كل ذلك وركّز اهتمامه على تقديم خطاب اعتبره كثيرون متوازنا. ولعل إلمامه الواسع بالواقع الغربي وامتلاكه لعدة معرفية تراثية جعلاه يفرض رأيه في أغلب حواراته كما فعل مع نيكولا ساركوزي الرئيس الفرنسي السابق وجان ماري لوبان زعيم الجبهة الوطنية الفرنسية السابق. وتلك القدرة جلبت له احترام الكثير من الشباب المسلم في الغرب وجعلت أفكاره نموذجا بالنسبة للكثيرين من أجل الجمع بين الانتماء الديني الذي يحملونه وثقافة العصر الذي يعيشونه.
ولد رمضان ونشأ في سويسرا في عائلة متشبعة بالفكر الإخواني، فجَدُّه لأمه هو مؤسس حركة الإخوان المسلمين حسن البنا وأبوه سعيد رمضان هو السكريتير السابق للبنا.. عمل أستاذا في عدة جامعات أوروبية، وهو الآن مدير مركز دراسات التشريع الإسلامي والأخلاق ومقره الدوحة. وعضو في الفريق الاستشاري لوزارة الخارجية البريطانية في حرية الدين والمعتقد. وهو أيضا مستشار وخبير لدى عدة لجان في البرلمان الأوروبي. من الواضح أن نشاطاته الفكرية والسياسية والخيرية وأسفاره إلى دول عديدة مثل البرازيل والهند وإفريقيا ومقابلته لشخصيات مؤثرة مثل الدالاي لاما والأم تيريزا ودوم إيلدر كامار مؤسس ما يعرف بلاهوت التحرر، مكنته كلها من اكتساب صيت وتأثير كبيرين.
مستقبل الإسلام الأوروبي
يتحدث رمضان كثيرا عن مستقبل الإسلام الأوروبي في مجموعة من المحاضرات والمؤلفات. وهو يركز على عدم وجود تناقض بين الإسلام والعلمانية المنفتحة. وقد انتقد الإجراء الفرنسي لمنع الحجاب في المدارس واعتبره خطوة إلى الوراء مناقضة لقيم الحرية والعدالة والأخوة التي تمثل جزءا من شعارات الثورة الفرنسية.
وعندما كان الغربيون يتحدثون عن صراع الحضارات كان رمضان يتحدث عن صراع التصورات. فما يوجد في الواقع ليس صراعا حضاريا بين الاسلام والغرب ولكنه صراع بين تصورات مغلوطة عن الآخر بسبب المسبقات التي لا تستند إلى معطيات موضوعية. ولأجل إنهاء ذلك الصراع لا بد من التوقف عن إطلاق الأحكام المستندة إلى أفكار مسبقة. واحترام كرامة الإنسان حيث يتعرض المهاجرون إلى نمط جديد من العبودية والاستغلال من خلال استخدامهم في تجارة المخدرات والبغاء والأعمال الشاقة..
ولم يتردد رمضان في كشف الدور الذي يلعبه اللوبي الثقافي الصهيوني في الغرب من على المنابر الاعلامية الفرنسية بعد أن عمل إيريك زمور اليهودي من أصل جزائري على التقليل من أهمية طروحاته، واعتبره المحلل السياسي انطوان صفير أخطر مفكر إسلاموي في الغرب يقف ضد اندماج المسلمين في الغرب ويقدم خطابا مزدوجا. وهو الأمر الذي أصرت عليه كارولين فورست عندما عنونت كتابها عن طارق رمضان بـ"الخطاب المزدوج لطارق رمضان". وهذه الكاتبة هي التي تتدّعي أنها شجعت الناشطة، هنده عياري، لرفع قضية ضد رمضان، وتتهم كل المسلمين في فرنسا، بمعاداة السامية.
وازدواجية الخطاب التي يُتّهم بها رمضان أكد عليها آخرون خلال محاكمة صهيب بالشيخ ومحمد سيفاوي اللذان قالا إن رمضان يمارس ازدواجية حيث إنه يقول أمام الإعلام الغربي شيئا ويصرح أمام أنصاره المسلمين بشيء آخر. لكن رمضان رفض ذلك وأكد أن أفكاره واحدة وخطابه يختلف باختلاف الجمهور، وأن الذين يتهمونه بالازدواجية يركزون على مصادره ويهملون تحليلاته، مشيرا إلى أن الازدواجية هي في الاستماع بسبب رؤية دغمائية تصر على نفي وجود إسلام منفتح.
الإسلام وقراءاته
يميز طارق رمضان بين الإسلام والإسلامية. فالأول هو الدين ذاته. والثانية هي فهم المسلمين له. والخلط بين الإثنين هو ما يسبب الفوبيا المنتشرة في الغرب من الإسلام. وهو يعتبر أن الاختلاف في فهم الاسلام شيء طبيعي. ورغم انقسام المسلمين إلى كتلتين كبيرتين إلا أنهما معا مسلمين مادام الجميع ينطق الشهادتين. واختلاف التيارات الدينية المعاصرة يؤكد أن أفكارها لا تمثل إلا وجهات نظر خاصة تتراوح بين التوازن والاعتدال والعنف والتطرف. والحَرْفيون الذي لا يفهمون عمق النصوص ويتمسكون بالمتشابه فيها دون المحكم هم الأكثر تطرفا والأكثر إثارة لهواجس الغربيين.
وبسبب تأكيده على سماحة الإسلام ودعوته إلى السلام، تعرض رمضان إلى حملات متشددين بعضهم من التيار الوهابي وآخرون أعضاء في جماعة الاخوان المسلمين. فقد أصر على أهمية التعايش مع المجتمعات والثقافات التي يعيش مسلمون بينها، واعتبر أن الجهاد اليوم وسط تلك المجتمعات لابد أن يركز على الكلمة والحوار والإقناع. وهذا يعني ضرورة توسيع جغرافية النص وإصلاح فهمه في واقع مختلف، فالهدف ليس التكيّف مع الواقع ولكن تغييره وهو ما يفرض الاستعانة بمناهج عمليّة وفلسفية وإنسانية جديدة. وهذا ما أوصله إلى إعادة النظر في مسائل الفقه والشريعة وسلطة العلماء من أجل تحرير النص من القراءة الأحادية الدينية لتصبح تلك القراءة حقا لكل من يملك معرفة في أي مجال من المجالات العلمية الطبيعية أو الإنسانية. وهذه الجغرافيا الجديدة لفهم النص تعتمد على علم المقاصد الذي يملك القدرة على توسيع فهمنا للنصوص.
كان طارق رمضان يمارس في أوروبا دورا مزدوجا يجمع بين الفكر والسياسة. لكن خطابه لا يُرضي جهات متعددة. فالتيارات المتشددة لا تقبل بما يطرحه، وتعتبره خروجا عن النص. وفي الوقت نفسه يمثل ذلك الخطاب إزعاجا كبيرا لبعض اللوبيات الثقافية التي لا يعجبها خطاب رمضان. وتبقى هناك تساؤلات: هل تمت الإطاحة برمضان عبر إغوائه؟ أم أنه كان فعلا يمارس ازدواجية بين خطاب إسلاموي وممارسة مناقضة لذلك الخطاب؟ هل فرض نفسه فعلا أكاديميا ومفكرا في الجامعات والمراكز العلمية الغربية؟ أم أن الإعلام الغربي وجِهات أكاديميّة وسياسيّة أخرى استخدمته على مدى سنوات لجمع المعلومات وفهم طريقة تفكير قسم كبير من المسلمين، وهم الآن يرون أن دوره انتهى؟ 


السبت، 20 أكتوبر 2018

اعترافات ما بعد منتصف الليل!






قاسم شعيب


أخيرا اعترفت السلطة الرسمية السعودية بمقتل الصحفي جمال خاشقجي في قنصليتها بأسطنبول في بيان صدر بعد منتصف ليل الجمعة/ السبت. لكنها قالت إنه قتل في شجار بينه وبين أشخاص هناك، وقامت بإقالة مستشار ولي العهد سعود القحطاني ونائب رئيس الاستخبارات أحمد العسيري ولاة آخرين وكلّف الملك ولي عهده إعادة هيكلة جهاز المخابرات. لم يصدِّق المتابعون تلك الرواية المليئة بالثقوب والثغرات. وفهم الجميع أن تلك الإقالات والإجراءات لم تكن إلا محاولة للتغطية على الفضيحة التي لا تُغَطّى.
في البداية قال ولي العهد ابن سلمان إن خاشقجي غادر القنصلية. والآن يعترف أن مواطنه قتل في القنصلية ولكنه قال إنه توفي خلال شجار بينما يعلم الجميع الآن أن 15 ضابطا من المخابرات والحرس دخلوا القنصلية قبيل وصول خاشقجي. سنصدق إنه قتل خلال شجار ولكن بمعنى شجار مفتعل هاجمت فيه المجموعة وخنقت الرجل إلى أن أسلم الروح ليتم بعد ذلك تقطيعه.
يعكس الموقف السعودي المرتعش مقدار الاضطراب الذي وقع فيه نتيجة ما يبدو لنا فخّا كبيرا نجحت المخابرات الأمريكية في نصبته بإحكام ليس لولي العهد السعودي فحسب بل للرئيس الأمريكي أيضا.
أثارت رواية الشجار الكثير من السخرية مثلما أثارت رواية المنشار الكثير من الاشمئزاز. فنحن أمام دولة لا يعرف الملك فيها ماذا يجري حوله بينما يكذب ولي عهده ويكذب إعلامه ويكذب ذبابه الالكتروني ثم يتراجعون ليعترفوا بما كانوا ينفونه.
كان لابد بالنسبة لولي العهد من كبش فداء أو أكثر. فهو غير قادر على تحمل مسؤولية ما حدث. ولأجل ذلك تم اعتقال 18 شَخْصًا اتهموا بالتورط في الجريمة بينما أقيل خمسة آخرون أبرزهم اللواء أحمد عسيري، نائِب رئيس المُخابرات، وسعود القحطاني، المُستشار الإعلاميّ المُقرَّب لمحمد بن سلمان.
يعرف الرسميون الدوليون أن جريمة بهذه الطريقة لا يمكن تنفيذها دون علم الرئيس أو الملك. وفي حالة السعودية لا يمكن تنفيذها دون علم ولي العهد الحاكم الفعلي للبلاد في ظل تدهور الصحة العقلية للملك.
تواجه العائلة الحاكمة شبح النهاية. ومن كان مطّلعا على فلسفة التاريخ يعرف أن تسلط المتهورين والمجرمين على الحكم يعني النهاية. فالتهور الذي يبديه ولي العهد السعودي دون أي مقدار من الحكمة والتروي يعني أن مواقف أخرى مشابهة أو أكثر بؤسا يمكن أن تصدر عنه.
تواجه العائلة السعودية الحاكمة خطر النهاية. ولا يبدو أنها قادرة على النجاة من المصير المحتوم هذه المرة ليس فقط بسبب تهور ولي العهد، بل وبالأساس، بسبب تفكك الأسرة الحاكمة وانتشار الفقر وتوسع القمع وارتفاع منسوب الظلم السياسي والاجتماعي وتركز الحكم في يد واحدة بشكل استبدادي كما لم يحدث من قبل.. فمعروف عن الملك سلمان الذي كان أمير للرياض لعقود تجبره وغلظته. وقد انتقل معه ذلك بعد أن أصبح ملكا وورَّثه لنجله ولي العهد.
أراد الرسميون السعوديون إغلاق ملف خاشقجي باعترافهم بقتله في القنصلية بأسطنبول غير أنه لا شيء يشير إلى ذلك. بل إن المطالب الآن تتجه إلى ضرورة الكشف عن مصير جثته، فيما يبدو سيناريو محبوكا جيّدا للضغط على ابن سلمان وجعله يقول كل شيء ويعترف بكل شيء ولكن على مراحل.
قال ابن سلمان إن خاشقجي غادر القنصلية. وربما قصد أن الرجل غادر مقطّعا وملفوفا في أكياس بلاستيكية. ولأجل ذلك لن يصمت صوت الإعلام الذي يصدر أصواتا من واشنطن ونيويورك ومدن أمريكية أخرى ويجد له صدى في الاعلام العربي والأوروبي مادامت هناك حلقات أخرى لم تبث من المسلسل الدرامي.
لم يثر اغتيال أي معارض سعودي أو غير سعودي مثل هذا القدر من الاهتمام الإعلامي والدولي. ومن غير الممكن أن يكون ذلك بسبب أهمية الصحفي خاشقجي. وهذا يعني أن قتله كان عملية مصنوعة تماما لغايات سوف تبدأ بالظهور تباعا خلال الأيام والأشهر القادمة.
يحلو لبعضنا مقارنة ما حدث في 11 سبتمبر 2001، عندما تعرض مبنى مركز التجارة العالمي للانهيار وما يحدث اليوم. من الممكن أن تكون المقارنة وجيهة. فتلك كانت عملية مخابراتية أمريكية مموِّهة بمكر شديد لتبرير الهجوم على أفغانستان والعراق. وهذه قد تكون عملية لتبرير هجوم آخر ولكن بعنوان مختلف.
أمكن للمملكة السعودية في الماضي تجاوز أزمة 11 سبتمبر من خلال المال وصفقات الأسلحة، لكن أزمة خاشقجي قد لا تسمح بالشيء نفسه إذا كان الهدف هذه المرة أبعد من الابتزاز المالي ويصل إلى حد إسقاط النظام القائم من خلال جرّه لحروب مع جيرانه في المنطقة، تمهيدا لإعادة تشكل جغرافيتها السياسية وفق مخططات ما بات يعرف بصفقة القرن التي لم يتم الإفصاح عن تفاصيلها حتى الآن.
وصف ترمب الاعتراف السعودي بقتل خاشقجي بـ"أنّها خُطوة أُولى جيّدة، وما حَدث غير معقول". والخطوة الأولى لا بد أن تتبعها خطوات أخرى. وتلك الخطوات تبقى مبهمة ولكن يمكن أن نخمن ما هي. إنها لا تتعلق بإعادة هيكلة حكم الأسرة السعودية بل بدفعها نحو اللامعقول. فأمريكا لا تبحث عن إنقاذ هذه العائلة بل عن تحقيق أهداف الحركة الصهيونية التي تخدمها والتي تفكر فيما هو أبعد من المال.. أقصد الأرض والمقدسات الإسلامية. نتذكر كلام غولدا مائير في مارس عام 1968 م حين وقفت في خليج نعمة جنوب سيناء، وقالت: إنني أشم رائحة أجدادي في خيبر ويثرب وتيماء وصحراء فآران.. نَتَذكر ونُذكّر... "فإن الذكرى تنفع المؤمنين".


الثلاثاء، 16 أكتوبر 2018

اغتيال خاشقجي.. هل كان فخا أمريكيا له ما بعده؟






قاسم شعيب


بعد أحداث سقيفة بني ساعدة المعروفة، رفض سعد بن عبادة الاعتراف بشرعية الحاكم الجديد وبيعته وخرج إلى الشام. لم يمر وقت طويل حتى تعرض ابن عبادة إلى كمين وتم اغتياله. قيل حينها إن الجن قتلته!.. وأغلق الملف. حوادث الاغتيال السياسي كثيرة ومن يدبرها عادة هو المتضرر من الضحية. عادة ما يكون ذلك الضحية معارضا شرسا أو منشقا يملك أسرارا خطيرة يخشى الحاكم إفشاءها. والحالة الثانية هي حالة الصحفي جمال خاشقجي. فقد عمل الرجل لسنوات مستشارا إعلاميا للأمير تركي الفيصل وصديق للأمير الوليد بن طلال. لكنه ليس الأول الذي تتم تصفيته من المعارضة السعودية فقد سبق لناصر آل سعيد صاحب كتاب "تاريخ آل سعود الدمويين"، أن اعتقل في بيروت عام 1979 بمساعدة ياسر عرفات ورميت جثته في صحراء السعودية.
ساهم خاشقجي في فترة الثمانينيات في "الجهاد الأفغاني". وكان مقرباً من التيار السلفي في صيغته الليبرالية المتأثرة بمهاجري الإخوان المسلمين المصريين في السعودية. ومآخذه على السياسات الجديدة لابن سلمان ليست فكرية بالأساس، بل تكاد تكون شخصية بعد منعه من التغريد والكتابة في صحيفة الحياة. ومن الممكن أن تكون بقدر ما سياسية بسبب رفضه للطريقة التي يسعى من خلالها ولي العهد إلى التخلص من رموز التيار الصحوي الذي هيمن بعد حادثة جهيمان العتيبي عام 1979.
لم يعلن خاشقجي انشقاقه عن النظام السعودي ولكنه خير المغادرة وتوجيه انتقادات خفيفة حول السياسات الجديدة لبلاده. لم يكن شرسا ضد النظام ولم يقل شيئا يقوله عادة المعارضون الكبار لأنظمة الحكم الشمولية. غير أن ذلك لم يشفع له. ويبدو أن هناك خليطا من الخوف منه والحقد عليه عجل بنهايته. يخشى البلاط السعودي إفشاء الأسرار التي يحملها رجل كان قريبا من مخابرات البلد وهي أسرار عائلية كما هي أسرار دولة، ويحقد عليه لأنه منشق، والمنشق عن مثل تلك الأنظمة خائن يستحق القتل في عرفها.
أثبتت الصور والفيديوات أن خاشقجي دخل القنصلية السعودية في اسطنبول ولا يوجد دليل واحد على أنه خرج. دخل ولم يخرج. ولم تستطع الحكومة السعودية تقديم أية إجابات عن مصير الرجل. نقلت وكالات الأنباء أخبارا كثيرة عن تعذيب خاشقجي في القنصلية وقتله وتقطيع جسده بمنشار الكتروني. عندما خرجت الرواية لأول مرة كانت صادمة ومقززة. وشعر الجميع أننا أمام نظام متوحش بلا حدود. تقول الرواية إن 15 شخصا قريبين من ولى العهد ابن سلمان دخلوا الى القنصلية قبيل وصول خاشقجي وحققوا معه وعذبوه قبل قتله وتقطيع جسده. ثم ظهرت روايات لاحقة حول وضع الجسد المقطع في حقائب دبلوماسية وتهريبه إلى السعودية. كانت هناك روايات حول متابعة ابن سلمان بنفسه للعملية وأنه شاهد الصور عبر دائرة بث مباشر.
خيرت السلطات التركية تسريب ما تملكه من معلومات قطرة قطرة عن طريق الإعلام ودون تأكيد رسمي. وفي كل مرة تسند وكالات الأنباء تصريحا لمسؤول تركي سواء كان أمنيا أو سياسيا، لكن لم يتم إصدار بيان ولم توجه الحكومة التركية اتهاما صريحا للدولة السعودية. هذا السلوك جعل الكثيرين يستنتجون أن صفقة ما كانت تأخذ مسارها بين تركيا والسعودية برعاية أمريكية.
رجح الرئيس الأمريكي في البداية قتل خاشجي وتوعد بعقاب شديد للدولة السعودية إذا ثبت ذلك. لكنه بدأ لاحقا يتراجع ليقول لنا إن "مجموعة مارقة" قد تكون هي من ارتكب الجريمة. صفقة ما لابد أنها دفعت ترمب إلى تغيير مسار تصريحاته التي تأكد أنها كانت فقط للضغط على ابن سلمان لتقديم ما هو مطلوب منه للفلفة القضية واتهام مارقين أو شيء من هذا القبيل بارتكاب الجريمة حيث لا مجال لنفيها.
دخل خاشقجي القنصلية ولم يخرج. وهو ما يعني أنه قتل خاصة بعد أن دخل فريق تحقيق تركي القنصلية وقال إنه وجد أدلة على قتل الرجل فيها. يبقى على أجهزة المخابرات اختراع قصة محكمة لتبرير عملية القتل. وزير الخارجية الأمريكي بومبيو طار إلى السعودية ليس لمعرفة ما حدث كما ادعى ترمب بل لتنسيق التصريحات وضبط الرواية الرسمية عن مقتل الصحفي السعودي.
السؤال الذي يبقى معلقا الآن في انتظار تطور سلسلة الأحداث هو ماذا وراء مقتل خاشقجي؟ وكيف سيكون تأثير ذلك على سلوك ابن سلمان؟ لا شك أن أمريكا اختارته ليكون وليا للعهد كما صرح ترمب ذات مرة. وهي لم تفعل ذلك إلا بعد دراسة شخصيته والاتفاق معه على جملة من الشروط. لا يمكن لابن سلمان أن يكون قد تصرف في قضية خاشقجي دون ضو أخضر أمريكي. وهذا هو الفخ الذي وقع فيه. تريد أمريكا إدخال الخليج كله في فوضى وهذا الأمر ليس ممكنا دون حرب. ولا يمكن الدفع في اتجاهها دون ابتزاز متواصل لا هدف له سوى افقارها. وعندما تصبح المملكة السعودية عاجزة عن تأمين الطلبات المالية الأمريكية، فإنها لن تجد مفرا من خيار الحرب من أجل تأمين القدرة على الدفع.
تبدو اليوم العين مفتوحة على الكويت التي زارها ابن سلمان قبل أيام من اختفاء خاشقجي وطلب من أميرها تسليمه مناطق حدودية مشتركة هي موضوع خلاف من أجل استغلال حقلين نفطيين ضخمين فيها وهما حقل الخفجي ومنطقة الزُّور والخيران أو دفع 300 مليار دولار سنويا للسعودية. رفض أمير الكويت الابتزاز ونقلت عنه تسريبات تقول "إن هذا  "الخبل" -ويقصد ابن سلمان- طامع في ثرواتنا ويريد تدمير بلاده وبلادنا بسبب ذلك "الوسخ" ابن زايد".
كلام الأمير الكويتي صادر عن معرفة بما يفكر فيه ابن سلمان الذي قال إنه يريد توحيد الجزيرة العربية ولو بالقوة من أجل مواجهة "أطماع إيران التوسعية". ولاشك أن ذلك هو ما تريده الولايات المتحدة من أجل إغراق السعودية والخليج كله في حرب جديدة قد لا تخرج منها هذه المرة أبدا قبل إعلان نهايتها. سبق لترمب أن تحدث عن مرحلتين في التعامل مع "البقرة السعودية". الأولى هي الحلب والثانية هي الذبح حين يجف الضرع. ويبدو أنه ماض في تنفيذ مخططه.

السبت، 25 أغسطس 2018

فضائح ترامب وحفر سوروس





قاسم شعيب


تنضج الفضيحة أكثر فأكثر، ويجد الرئيس الأمريكي نفسه محشورا في زاوية. كان صعود ترامب مفاجئا للكثيرين ويبدو أنه في طريقه لسقوط ليس مفاجئا هذه المرة ولكنه مزلزل.
 منذ استقلال الولايات المتحدة عام 1776، يصعد الرؤساء إلى الحكم بطريقة واحدة هي الانتخابات، حتى وإن كانت انتخابات صورية يديرها رأس المال المهيمن كما في أي ديمقراطية رأسمالية أخرى.
45 رئيسا وصلوا إلى الحكم عبر صناديق أصوات المندوبين حيث أن أصوات المقترعين لا تأثير لها. وآخر الواصلين هو دونالد ترامب الذي جمع أصواتا أقل بمليوني صوت من منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون. لكن أصوات المندوبين اختارته هو.
صُمِّم النظام الأمريكي بطريقة تضمن سيطرة كبار المصرفيين على الحكم. فقسموا أنفسهم إلى فريقين فريق يدعم الحزب الديمقراطي وفريق يدعم الجمهوري. ومهما كان الفائز فإن عليه أن يراعي المصالح الاقتصادية والسياسية لهذه الطبقة بل عليه أن ينفذ إملاءاتها. وإذا امتنع فإن الاغتيال أو العزل في انتظاره كما حدث لعدة رؤساء سابقين.
ليس الرئيس الحالي ترامب معارضا للمؤسسة المهيمنة بقوة على المشهد الأمريكي. غير أنه جاء لتمشية ما لا يمكن لغيره تمشيته. ومن ذلك الانقلاب على الاتفاقيات الدولية التي وقعها سابقوه ومزقها بدعوى أنها لا تخدم المصلحة الأمريكية.
ورغم أن ترامب لم تأت به صناديق الاقتراع بل أصوات المندوبين، إلا أن التهمة وجهت منذ البداية إلى روسيا بقرصنة تلك الانتخابات واختراق حواسيب منافسته هيلاري كلينتون ونشر مراسلاتها الخاصة ونشر وثائق تدينها عبر ويكيلكس ما أدى إلى تراجع شعبيتها. كانت لعبة متقنة الهدف من ورائها الضغط على ترامب لتنفيذ ما هو مطلوب منه وتوتير العلاقات مع الروس والتمهيد لصدام محتمل بعد أن طرد أوباما 35 ديبلوماسيا روسيا وتلى ذلك طرد عدد آخر منهم.
لم يتوقف الأمر عند ذلك الحد بل انتقلت الاتهامات إلى فريق ترامب، وحتى الرئيس نفسه، بالتواطؤ مع الروس. حاول ترامب احتواء الأزمة فرفض الاتهامات مرارا وأقال رئيس الأف بي أي جيمس كومي الذي كان يدير ملف التحقيقات. وفي 30 أكتوبر 2017 وجه مدير التحقيق في قضية الاختراق الروسي روبرت مولر 12 اتهاما تتعلق بغسيل أموال وإخفاء حسابات مصرفية والاتصال مع الروس للمدير السابق في حملة ترامب وشريكه وفرض عليهما الإقامة الجبرية.
بدأ الرئيس الأمريكي يشعر بتدلي الحبل حول رقبته. فتقدُّم التحقيقات ونشر الفضائح بشكل تراكمي يجعلان ترامب يخشى عل مصيره أكثر من أي وقت مضى. والفضائح ليست فقط جنسية تتعلق بمغامراته مع نساء، بل هي أيضا فضائح قانونية واستخباراتية ومالية تتعلق بتمويل حملته الانتخابية. للمرة الأول يقول ترامب لقناة فوكس نيوز التي تدعمه والمحببة لديه إن "الاقتصاد الأمريكيّ سيَنهار في حالِ عَزلِه، وسيُصبِح الجميع فُقَراءً جِدًّا".
كشف المحقق الخاص عن ضربتين جديدين تلقاهما ترامب. الضربة الأولى تتعلق باعتراف محاميه الخاص بارتكابه انتهاكات تتعلق بتمويل الحملة الانتخابية ودفع مبلغ 150 ألف دولار لإسكات امرأتين أقامتا علاقات جنسية مع موكله ترامب. الأولى هي ستورمي دانيالز الممثلة الإباحية والثانية كارين ماكدوغان عارضة مجلة بلاي بوي. والضربة الثانية إدانة المحكمة لبول مانفورت رئيس حملة ترامب الانتخابية السابق بالاحتيال الضريبي والمصرفي والتورط في 12 قضية على الأقل.
يواجه ترامب خطر العزل بشكل جدي. والعزل ممكن بعدة طرق أوضحها من خلال مجلسي النواب والشيوخ. وإذا فاز الحزب الديمقراطي في انتخابات التجديد النصفي فإن إجراءات العزل يمكن أن تأخذ طريقها بشكل فوري. وقد قدم الرئيس السابق باراك أوباما دعمه لـ88 مرشحا ديمقراطيا في أكبر مؤشر على عودته إلى المشهد السياسي. وهو دعم له اهميته بلا شك.
لكن هناك سيناريو أكثر خطورة. فمن أجل تجنب استلام نائب الرئيس بنيس الحكم وتجييش الناس والقضاء على أي تعاطف شعبي مع ترامب يمكن افتعال ثورة ملونة على نحو ما حدث في أوروبا الشرقية وعدة دول عربية من أجل إفساح المجال للبنتاغون للتدخل وتعيين حاكم جديد يختاره هو لإكمال الولاية الرئاسية.
قد يرى المهتمين أن هذا السيناريو مستبعد، لكن من يعرف إصرار جورج سوروس على الإطاحة بترامب حتى قبل إعلان فوزه ودور هذا الملياردير الخزري في ما عرف بـ"الثورات الملونة" الأوروبية والعربية ودعمه المستمر للحزب الديمقراطي وقربه من أوباما لا يمكنه أن يشك في قراره افتكاك السلطة من الحزب الجمهوري لترتيب آثار معينة على ذلك. من المهم جدا افتعال حالة من الفوضى والهستيريا الشعبية وسط اتهامات لترامب بالخيانة وللروس بالتدخل من اجل شرعنة أي "حرب انتقامية" لاحقة. بهذه الطريقة يفكّر المؤسسة الحاكمة التي تسيطر على مراكز القوة الحاكمة في أمريكا مثل البيت الأبيض والبنتاغون والسي آي ايه..
وتحذير الرئيس الأمريكي من انهيار الاقتصاد الأمريكي في حال عزله ليس فقط محاولة لاستعطاف مؤيديه من الحزب الجمهوري والعنصريين البيض والكنيسة الانجيلية التي دعمته، بل إنه شيء حقيقي. فالسياسات المتبعة الآن من شأنها عزل الولايات المتحدة. وعند الإطاحة المحتملة بترامب سيسبب ذلك حالة من الهلع في الأسواق تؤدي الى انهيار البورصات والدولار. وإذا لم يحدث ذلك بشكل طبيعي فمن السهل افتعال ذلك.
امتص ترامب من السعودية 500 مليار دولار أمكن من خلالها خفض نسبة البطالة في الولايات المتحدة من 8% إلى 4 %. لكن تلك المليارات ليس بإمكانها إنقاذه إذا كان كانت هناك خطة مسبقة لإسقاطه من أجل البناء على ذلك الحدث.
تدفع الضغوط المتواصلة الرئيس الأمريكي إلى فعل كل ما يرضي إسرائيل. فقد نقل سفارة بلاده إلى القدس واعترف بها عاصمة موحدة لكيان الاحتلال. وطرح مشروع "صفقة القرن" التي كلف صهره كوشنير بالترويج لها. وهي صفقة لا تعني شيئا سوى تصفية القضية الفلسطينية وإسقاط حق العودة وتهجير الفلسطينيين إلى سيناء والأردن وكردستان والتطبيع العلني بين العرب وإسرائيل.
وستستمر تلك الضغوط عليه لفعل المزيد مما يمكن أن تطلبه منه إسرائيل أو المؤسسة الحاكمة. ومن ذلك افتعال خلافات مع الأوروبيين وحلف الناتو لأهداف لا تتعلق فقط بمساهمة الأوروبيين المالية في الحلف بقدر ما تتجاوز ذلك إلى افتعال توترات دولية.
لا يفيد العرب في شيء سقوط ترامب أو بقاءه. فما هو موجود هو مؤسسة تحكم في أمريكا وليس للرئيس إلا فعل ما يجب عليه فعله. ما يفيد العرب هو فقط الوعي بأنهم محكومون بواسطة طبقة سياسية أثبتت فشلها بسبب خضوعها لهذه الامبراطورية الممتدة على الضفة الأخرى من الأطلسي، ومحاولة البناء على ذلك.



الأربعاء، 15 أغسطس 2018

قانون يهودية الدولة.. من يوقف تقدُّمَ صفقة القرن؟






قاسم شعيب

الخطوة الأخيرة التي أقدم عليها كيان الاحتلال في فلسطين بإعلان يهودية الدولة لم يكن مفاجئا. فطالما تحدث القادة الصهاينة عن ذلك. غير أن توقيت الإعلان الذي جاء بعد نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وتداول فكرة توطين اللاجئين الفلسطينيين في بلدان اللجوء، يعكس تقدما في ما بات يعرف بـ"صفقة القرن" التي أطلقها الرئيس الأمريكي ترامب.  
تدرجت إسرائيل في تنفيذ مخططاتها التوسعية. وإعلانها الآن "دولة يهودية" هو محاولة لنقل الجدل من الرفض القاطع لوجودها باعتبارها كيانا محتلا إلى الجدل حول عنصريتها. يحاول الصهاينة إلهاء العرب عن الموضوع الأساسي في قضية فلسطين وإنتاج موضوع ثانوي لا علاقة له بجوهر القضية.
غير أن ذلك لا يمنع من فهم الأبعاد الأخرى للقانون الجديد. أول تلك الأبعاد تحويل تقرير المصير إلى حق حصري لليهود، بعد الإعلان عن القدس عاصمة لليهود دون بقية المسيحيين والمسلمين. وهذا ما سيفتح أبواب الهجرة أمام اليهود للتدفق من جديد نحو فلسطين، ويطلق العنان للاستيطان.
ومن الناحية الثقافية تصبح العبرية اللغة الرسمية الوحيدة والشرعية بينما تتراجع العربية، وهو ما ستنتج عنه تداعيات كثيرة تتعلق بالتعليم والطبع والنشر وإشارات السير والتصاميم والخرائط والمعاملات الرسمية الخ.. لا يحتاج الإسرائيليون لمبررات من أجل التوسع فقد كانوا يفعلون ذلك طوال العقود الماضية رغما عن القوانين الدولية. غير أن قانون التهويد يسهل لهم الآن مثل هذه الإجراءات.
نشأت إسرائيل على دماء الفلسطينيين ودموعهم. وهي الآن تتحول إلى دولة أبارتايد عنصرية. لم تكتف باحتلال الأرض، بل تريد تصفية الوجود العربي عليها مستعينة بصعود اليمين وتزايد دور الأحزاب والمنظمات الدينية. 
يقضي قانون يهودية الدولة على مزاعم العلمانية والديمقراطية ويؤكد على الخلفية الدينية للاحتلال الصهيوني. ورغم ما قيل عن علمانية «الآباء المؤسسين» إلا أن العمق الديني الذي كان مخفيا ينكشف اليوم. لا ندّعي أن كل يهودي هو صهيوني بشكل مطلق، ولكن ذلك يكاد يكون صحيحا بنسبة ساحقة. لا يوجد سوى قليل من اليهود المعارضين لإسرائيل في العالم. وهؤلاء هم غالبا من الأقلية الأورثدوكسية التي تتحدث عن تحريم دخول فلسطين قبل خروج المسيح اليهودي، أو من اليسار الذي خرج فعليا عن يهوديته وأصبح يفكر من خلال مرجعية غير دينية. ومع ذلك، سيكرس قانون يهودية الدولة منذ الآن وسم كل يهودي بالصهيونية رغم رفض بعض اليهود لذلك.
 يمثل الفلسطينيون نحو 20% من سكان الأرض المحتلة، وهؤلاء سيحرمون من حقوقهم في لغتهم ومدارسهم واقتصادهم ومعيشتهم. وسيمنعون من أي حقوق سياسية كانت ممنوحة لهم مثل دخول البرلمان. لا شك أن تلك الحقوق كانت محاولة إسرائيلية للظهور بمظهر الدولة المدنية التي تراعي حقوق الأقليات. ولكنها الآن تتعرى تماما ويتضح لكل من كان يحاول التبرير لهذه الدولة الغاصبة أنها بعيدة عن الديمقراطية وحقوق الإنسان التي كانت تدّعيها.
يخشى الفلسطينيون التعرض إلى موجة ترنسفير جديدة لإخراجهم من أرضهم. فتجريدهم من حقوقهم المدنية ليس إلا وسيلة للضغط عليهم لإنهاء وجودهم في أرضهم. وإذا صَحّت الأخبار عن تجهيز ملاذات وملاجئ جديدة لهم في سيناء والأردن فإن ذلك يعني أن قانون يهودية الدولة يأتي منسجما مع صفقة القرن، ولعله أحد بنودها.
لم يكن الحديث عن حل الدولتين سوى ملهاة لكسب الوقت. وقد تبين الآن أن مواقف المعارضين له كانت صائبة ليس فقط لأنه كان خدعة بل لأن هذا الحل ليس ممكنا مع عدو لا يفكر إلا في التوسع المستمر.
نجحت الحركة الصهيونية في السيطرة على القرار الأمريكي وتحويل الولايات المتحدة إلى أكبر داعم لمشاريعها. والمفارقة اليوم هي أن المال الذي يقدمه العرب لأمريكا من خلال صفقات السلاح الضخمة والعقود التجارية الكبيرة هو نفسه المال الذي تقدّم أمريكا جزءا كبيرا منه لإسرائيل.
وإذا أمكن لإسرائيل الوصول إلى هذه النقطة من خلال سياسة التدرّج، فإن استمرار العرب في سباتهم سيعني استمرار المشروع الصهيوني في التوسع ليجد عرب الجوار لاحقا أنفسهم مستهدفون بالتوسع هم أيضا.
شكّل وجود ترامب في البيت الأبيض فرصة، مصنوعة بإحكام، للذهاب بالمشروع الصهيوني خطوات واسعة إلى الأمام. بل إن الدول الغربية الأخرى كانت هي أيضا مساعدة لذلك رغم حديثها عن حماية حقوق الإنسان والدفاع عنها، ومعارضة نقل السفارة الأمريكية إلى القدس وتهويد الدولة.
لكن ما شجع الاندفاع الإسرائيلي أكثر هو غياب العرب عن الفعل وانكفاؤهم نحو الداخل لمواجهة مشاكلهم التي باتت متنوعة ومتراوحة بين الحروب الأهلية والصراعات السياسية والانهيارات الاقتصادية والمالية. وهي مشاكل ليست ناتجة فقط عن مخططات أمريكية سبق لوزيرة الخاريجية الأمريكية أن سمتها "الفوضى الخلاقة"، بل هي ناتجة أيضا عن فشل سياسات أكثر من نصف قرن من الحكم الاستبدادي والفساد بكل أبعاده..
صفقة القرن تتقدّم.. من يقْدر على إيقافها؟

الجمعة، 20 يوليو 2018

انقلابات ترامب.. ماذا تطبخ أمريكا للعالم؟



قاسم شعيب


يشير الاتجاه العام، الذي يحرك قرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب منذ وصوله إلى البيت الأبيض، إلى وجود رؤية استراتيجية قد لا تكون بعض تفاصيلها واضحة بالنسبة إلينا. يرفع ترامب شعار "أمريكا أولا"، لكن عمق الأمور يشير إلى شيء آخر مختلف تماما وهو سعي الولايات المتحدة إلى القطع مع النظام العالمي القائم وافتعال المعارك السياسية مع القوى الكبرى والمنظمات الدولية من أجل إسقاطه. وتلك الرؤية الاستراتيجية ليس مصدرها الرئيس الأمريكي نفسه دون شك، بل المؤسسة الحاكمة.
لكن هذا التوجه الجديد لم يمنع من ظهور تناقضات في المواقف والتصريحات لدى ترامب الذي لا يجد صعوبة في الانقلاب على نفسه بين الحين والآخر. وآخر تلك المواقف والتصريحات تتعلق بالتدخل الروسي المفترض في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الماضية في قمّة هلسنكي. لم يمر سوى وقت قصير حتى التفّ ترامب على تصريحاته التي برّأ فيها الروس، ليعود ويتّهم موسكو بالتدخل في تلك الانتخابات. بل إنه قال إنه يتهم بوتين شخصيا بذلك. شكّل هذا التصريح انقلابا حقيقيا على موقفه السابق من بوتين الذي استبعد تدخُّله، في ندوته الصحفية معه في هلسنكي. وبرّر ترامب ذلك في حوار تلفزيوني بأنه أخطأ التعبير، وأن الجملة التي كان يريد أن يقولها هي: "إنه لا يرى سببا يجعل روسيا لا تتدخل في الانتخابات"..
يريد الرئيس الأمريكي تأجيل أي صدام مُفترَض مع الروس من أجل الاهتمام بمعاركه الأخرى في أكثر من اتجاه رغم ضغوط الإعلام. فقد خرج ترامب من عدة اتفاقيات أبرزها اتفاقية المناخ واتفاقية الهجرة واتفاقية النووي مع إيران.. وهذه هي المعارك التي يريد إعطاءها الأولوية.
خرجت أمريكا من اتفاقية المناخ، وقال رئيسها إن اتفاق باريس ظالم ومضر ولا يصب في صالح الولايات المتحدة وأن الاتفاق الراهن ليس حازما بما يكفي مع الصين والهند، ويعطي مزايا اقتصادية لدول أخري تعد الأكثر إصدارا للتلوث، بل اعتبره عائقا أمام قدرات الولايات المتحدة الاقتصادية، بما أنه يكلفها مليارات الدولارات ويثقل ميزانية الشعب الأمريكي. ولم يكن لاحتجاجات رئيس المفوضية الأوروبية ولا المستشارة الألمانية ولا الرئيس الفرنسي تأثير على قرار ترامب.
وفي أكتوبر من العام الماضي، أعلنت وزارة الخارجية انسحاب الولايات المتحدة من اليونسكو وقالت المدير العام للمنظمة ايرين بوكوفا إن انسحاب الولايات المتحدة خسارة للمنظمة وخسارة للتعددية وخسارة للأمم المتحدة. لكن ترامب حاول تبرير هذا الانسحاب بأن المنظمة تحتاج إلى إصلاحات جذرية بسبب انحيازها ضد "إسرائيل" كما ادّعى. وهو ما رأى فيه العالم محاولة لمعاقبة المنظمة على وقوفها إلى جانب الشعب الفلسطيني.
كما أعلنت إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى العام الماضي عن الانسحاب من ميثاق "إعلان نيويورك" الدولى لتحسين التعامل مع أزمات المهاجرين واللاجئين باعتباره "يتناقض" مع سياساتها، وجاء الانسحاب من ميثاق الهجرة منسجما مع نهج ترامب فى التضييق على المهاجرين والحد من دخولهم لأراضي الولايات المتحدة.
لم يتوقف ترامب عند ذلك بل انسحب أيضا من اتفاقية "الشراكة عبر المحيط الهادي" التي تضم 12 دولة، مؤكدا أن قراره أمر عظيم للعامل الأمريكي، وهو انسحاب حدث بعد وعود أمريكية بإقامة أكبر منطقة للتجارة الحرة من حيث إجمالى الناتج المحلي.
وفي قمة السبعة التي احتضنتها مدينة كيباك كندا، رفض الرئيس الأمريكي المصادقة على البيان الختامي، وأجهز بذلك على يومين من المباحثات بين أعضاء مجموعة قمة السبع بسبب نزاع حول التجارة، ومحاولته فرض رسوم على الصلب والألومينيوم متهما رئيس الوزراء الكندي غاستن ترودو الذي ترأس القمة بأنه غير نزيه وضعيف. وقال إن التعريفات التي فرضناها جاءت ردا على فرضه 270% على الألبان.
لا تتوقف شكوى ترامب من القواعد التي تحكم عمل منظمة التجارة العالمية، رغم استناد هذه القواعد إلى مبدأ حرية التجارة الذي يشكل عماد النظام الرأسمالي الذي تتبناه بلاده، وهو يتحرك باستمرار نحو إقامة الحواجز والجدران التي تحول دون التدفق الحر للبضائع والخدمات والأشخاص ورؤوس الأموال، إلى درجة إقدامه على إشعال فتيل حرب تجارية وصلت إلى أسوار الصين وقد تنتهي بكارثة للاقتصاد العالمي.
لكن الخطوة الأكثر خطورة على أمن منطقة "الشرق الأوسط" وربما العالم كله، هي القرار الذي اتخذه ترامب قبل ذلك بأشهر قليلة عندما ألغى الاتفاق النووي الأمريكي مع إيران مبررا ذلك بأنه اتفاق ألحق ضررا كبيرا بالولايات المتحدة التي دفعت أموالا كثيرة لإيران هي في الحقيقة أموال إيرانية كانت مجمّدة في بنوك أمريكا. وعاد ليشترط شروطا كثيرة أخرى يعلم مسبقا أنها شروط تعجيزية لا يمكن لطهران أن تقبل بها. وقال إنه سيفرض حصارا نفطيا على إيران إن لم تلتزم بتلك الشروط بداية من  4 نوفمبر القادم. بل إن ساكن البيت الأبيض لم يكتف بنقض اتفاقه مع طهران ولكنه رفع سقف تصريحاته المناهضة لها عند إعلان انسحابه، وقال إن العقوبات مرشحة لتشمل الدول المتعاونة مع طهران.
فهمت طهران اللعبة وهي تحاول منذ ذلك الحين المزج بين الديبلوماسية والتهديد لإفشال الخطوات الأمريكية من خلال استمالة الأوروبيين والروس وشركائها الاقتصاديين الآخرين مثل الصينيين والهنود تارة، والتهديد بإغلاق مضيق هرمز أمام الصادرات النفطية تارة أخرى.
لا يكاد يبقي الرئيس الأمريكي ترامب على اتفاقية دولية. وهو يرمي بأحجاره الثقيلة مخلِّفًا وراءه في كل مرة أزمة جديدة. قد يبدو ما يفعله ترامب عملا عشوائيا، لكنه في الحقيقة يخفي مُخطَّطا مسبقا. ولا يبدو الأمر متعلقا بخدمة الشعب الأمريكي كما يدّعي، بل إنه يتحرك بشكل واضح من أجل إسقاط تلك الاتفاقات والمنظمات التي انسحب منها باعتبارها مدخلا أساسيا لإعادة صياغة النظام العالمي على الأسس الجديدة التي أن تفرضها القوى الرأسمالية المهيمنة في العالم. ولا شك أن عملية مفصلية بهذا الحجم، تريد إسقاط النظام العالمي القائم واستبداله بآخر، تحتاج إلى عمليات تمهيدية ووقت ومضاعفات قد تكون الولايات المتحدة نفسها ضحية لها من خلال العزلة التي تنكس فيها مع كل قرار انسحاب من إحدى الاتفاقيات.
لا نعتقد أن الرئيس الأمريكي يتصرف بشكل مزاجي كما يقال عادة، بل إنه يطبق بشكل دقيق ما تطلبه المؤسسة أو الدولة العميقة التي تملك استراتيجية بعيدة المدى يتداول على تنفيذها الحزبان الديمقراطي والجمهوري حسب متطلبات المرحلة. وقرارات ترامب تعكس رغبة تلك المؤسسة الحاكمة في التخلص من النظام العالمي القائم الآن من أجل الانتقال إلى نظام عالمي جديد سبق أن أعلنه الرئيس الامريكي الأسبق جورج بوش الأب في سبتمبر 1990 أمام الكنغرس، ويخدم بالأساس الكيان الصهيوني المحتل لتحويله إلى مركز سياسي واقتصادي عالمي خاصة بعد نقل السفارة إلى القدس والإصرار على اعتبارها عاصمة لـ"إسرائيل" رغم معارضة أكثر دول العالم، ومباشرة وضع قانون أساسي يقر بيهودية الدولة العبرية.



الاثنين، 2 يوليو 2018

أردغان والمرحلة الجديدة: أزمات الداخل وأحلام التمدد





قاسم شعيب

مع إعلان فوز رجب طيب أردغان بالانتخاب الرئاسية، تدخل تركيا مرحلة جديدة تكرّس ابتعاد الكماليين من السلطة دون التخلي عن النزعة القومية الطورانية التي ستبقى جزءاً من تكوين السلطة. حظي أردغان بدعم أنصاره في الداخل والخارج بسبب خلفيته التي يلتقي فيها مع تيار واسع من "الإسلام السياسي" الذي يرى في أي نجاح يحققه "السلطان الجديد" وحزبه نجاحا لمنهجه ورؤيته. لم يحقق أردغان حلم أنصاره فقط بل حقق أيضا حلمه الشخصي في أن يصبح رئيسا لتركيا بصلاحيات واسعة في نظام رئاسي مطلق بعد أن صوّت له 52,59% من الناخبين حسب النتائج الأولية، مقابل 30,76% لمحرم اينجه مرشح حزب الشعب الجمهوري الذي اعترف بخسارته.
لم يكن توقّع فوز أردوغان بالرئاسة صعبا، فالرجل يحكم البلاد بموجب قانون طوارئ منذ حوالي سنتين بعد محاولة الانقلاب التي اتهم الداعية فتح الله غولن بالوقوف ورائها. أسفرت تلك المحاولة، التي يشكك كثيرون في حقيقتها، عن مقتل 250 تركياً وجرح أكثر من 2200، وأدت إلى طرد أكثر من مئة ألف مواطن من عملهم في القطاع العام، بينما أوقف عشرات الألوف عن العمل، قبل أن يعود عدد منهم لعدم ثبوت التهم ضدهم. وهناك إحصاءات تقول إن ربع القضاة والمُدّعين العامين في تركيا طُرِدوا من العمل كما طرد ألفا أستاذ جامعي و33 ألف مدرس من عملهم. والرقم الأسوأ هو أن أكثر من 50 ألف تركي سُجِنوا منذ محاولة الانقلاب.
ولم يكن نصيب الإعلاميين أقل قسوة حيث أغلقت حكومة أردوغان 189 مؤسسة إعلامية، وهو ما أدى إلى فقدان أكثر من 30% من العاملين في مجال الصحافة والإعلام وظائفهم. وتحولت تركيا إلى "أكبر سجن للصحفيين"، حسب تقارير منظمات دولية.
يحاول أردغان استثمار الطفرة الاقتصادية التي حدثت بعد وصوله إلى الحكم لتوسيع نفوذه والتمدد على حساب جيرانه. لكن تلك الطفرة كانت نتيجة لقروض قدمتها البنوك الدولية تضخّمت اليوم ليصل الدين الخارجي إلى 600 مليار دولار، ولم تكن نتيجة قوة ذاتية للاقتصاد التركي.
اعتمد أردغان على البنوك الدوليّة في أحداث نقلة اقتصادية كبيرة، لكن ذلك لم يمنعه من إعلان موقف سلبي من الحضارة الغربية ومن النهج الأتاتوركي بشكل عام. ورغم أنه يقول إنه رجل علماني إلا أنه يقول أيضا إن الإسلام رسالة عالمية، وهو مؤهل لقيادة العالم، وتوجد حاجة حقيقية لإحياء هذا الدور الإسلامي العالمي أمام الهجمة الغربية على العالم الإسلامي. وهذا ما كان يعلنه أربكان الذي أجبر على التنحي عن السلطة بعد أن فهم أن الجيش لن يتركه يستمر في الحكم. كان يريد إقامة محور سياسي – اقتصادي مشرقي يضم الرباعي: أنقرة وطهران وبغداد ودمشق، لكن هذا الأمر كان ممنوعا بالنسبة إلى الإدارة الأمريكية.
ورغم الصعوبات التي يواجهها الاقتصاد التركي بسبب تراجع الليرة وخسارتها 20% في ظرف وجيز وارتفاع نسبة التضخّم وتراكم الديون الخارجية، يعد أردغان شعبه بالصعود بتركيا إلى القوة الاقتصادي العاشرة في العالم. غير أن ذلك لا يمكن تحقيقه إذا ما أصرت واشنطن وتل أبيب والعواصم الاوروبية على دفعه بعيدا عنها. وحينها لا مفر لتركيا من مواجهة أيام صعبة بسبب الارتباط العضوي لاقتصادها بمصادر التمويل الغربية.
لم تكن براغماتية أردغان خفية منذ استلامه الحكم عقب فوز حزبه بانتخابات برلمان 2002. فقد قدم نفسه لواشنطن حينها "بديلا إسلاميا حليفا للأميركيين"، ومنذ 2005 شجّعهم على الحوار مع التنظيم العالمي لجماعة الإخوان المسلمين، وعندما اندلع "الربيع العربي" أصبح عرّابا له أملا في أن تكون للإخوان المسلمين في تونس ومصر خاصة الحظوة. غير أن ذلك لم يستمر طويلا بعد تخلي واشنطن عنهم في مصر عام 2013. لا تبدو البراغماتية عند أردغان مقيدة، بل إنها لا تخلو من الإجراءات القمعية التي تتم صناعة مبررات لها في كل مرة. وهذا ما مكّنه من مواجهة معارضة الداخل من خلال تكتيكات سياسوية مثل فصل المعارضين وسجنهم وملاحقة الصحفيين وخنق نفوذ العسكر الذي استمر الحاكم الفعلي للبلاد منذ أتاتورك وراء ستار الحكومات المدنية.
يستمر أردغان في الحكم ولكن هذه المرة بصلاحيات سلطان عثماني. ويمكن بسهولة ملاحظة وجود نزعة مدروسة لمَرْكزة كل شيء في شخص أردغان وتحوليه إلى أب جديد لتركيا بدل أتاتورك الذي لا بد أن تبدأ صورته في التواري منذ الآن. وبسبب ذلك تخشى القوى السياسية في الداخل والجيران في الخارج من عودة تركية إلى السلوك العثماني.
استغل أردغان هواجس بلاده من الأكراد في المثلث السوري العراقي التركي وجعل منه مبررا للاندفاع نحو شريط جرابلس ــ الباب ــ أعزاز، عام 2016، ثم إلى عفرين عام 2018 ووصل هذا الشريط بإدلب، لتكوِّن أنقرة بذلك منطقة نفوذ تمتد من بداما حتى جرابلس على طول الحدود السورية ــ التركية يسيطر عليها سوريون يأتمرون بأوامر الأتراك. وفي كلمته بعد اعلان فوزه قال أردغان أنه سيواصل التمدد في سوريا. لا شك أن ذلك شيء لا تقبله الحكومة السورية التي ربما تؤجل إثارة الموضوع بشكل جدي لاعتبارات الميدان.
وفي المقابل بات التقارب التركي الروسي الإيراني حقيقة ومن الممكن أن يتوسع في المرحلة القادمة بعد أن وجد أردغان ترحيبا ضمن هذا المحور. فهناك تقاطعات سياسية كثيرة بين أعضائه بعد التوترات الكبيرة بين تركيا والغرب. لكن ذلك لا يمنع من توقع تقلبات جديدة يحسنها أردغان، فالخلفيّة الإيديولوجية لا تجعل من هذا المحور مكانا طبيعيا للرئيس التركي وحزبه.
لا يبدو أردوغان مستعدا لمراجعة سياساته التي فاقمت الاستقطابات الداخلية والتوترات الخارجية. وما لم يعترف بأن مواطنيه يواجهون أزمة اقتصادية واجتماعية متفاقمة فلا أمل بأن يبدل في نهجه. ومحاولة الهرب من مواجهة تلك الأزمة وارتفاع معدلات البطالة والتضخم بإلقاء اللوم على الخارج، أو على خصومه في الداخل، لن تنفعه.
استعجل أردغان تقديم الانتخابات من أجل التسلح بصلاحيات واسعة واستباق تفاقم الأزمة الداخلية بعد تحويل النظام إلى رئاسي، والمضي في تمدده خارج الحدود، لكن ذلك لا يؤثر على موقف أكثر من نصف الشعب التركي المعارض له إذا ما اعتبرنا نسبة المقاطعين. ولن يغير في نظرة الاتحاد الأوروبي الذي يتهمه بممارسة القمع ومطاردة خصومه السياسيين والهيمنة على الإعلام وضرب سلطة القانون واستقلال القضاء. ولن يغير أيضا من طريقة تعامل الأمريكيين والإسرائيليين له رغم ما يبديه من مرونة معهم. أما الجيران الذين يريد التوسّع على حسابهم فلن يقفوا مكتوفي الأيدي.