السبت، 24 سبتمبر 2016

الاستفزازات الأمريكية والاحتقان الروسي.. سيناريو الحرب النووية المدمرة






قاسم محمد

  

لا شيء يشير إلى اتجاه العلاقات الروسية الغربية نحو التهدئة. في كل مرة تتراجع حدة التصريحات، تخرج تصريحات أخرى تزيد المشهد سخونة. الحلف الأطلسي لا يتوقف عن اتهام روسيا باستخدام القوة ضد جيرانها ومحاولة ترهيب حلفاء الأطلسي. فروسيا، بالنسبة للناتو، تمثل تهديدا محتملا. وهي بالنسبة لرئيس المجلس الأميركي مايكل ترنر تمثل تحديا حقيقيا. وهذا "لم يترك للحلف خيارات سوى التفكير في احتمال أن ترتكب روسيا عملاً عدوانياً ضد دولة عضو في الحلف وتعتبره تهديداً محتملاً" حسب قوله.

لم يسكت الروس وقالوا إن حلف شمال الأطلسي ينتهج الأسلوب الموروث عن الحرب الباردة،. وعلق السفير الروسي لدى الحلف، ألكسندر غروشكو في حديث إلى صحيفة روسيسكايا غازيتا الرسمية، بالقول إن "الحلف يعتمد أساليب أمنية كانت سارية خلال الحرب الباردة... ويدعونا إلى العودة إلى الماضي". "الحلف يواصل سياسة، احتواء، روسيا على رغم دعواته إلى فتح حوار سياسي".

لا أحد يريد الحرب إلا أولئك الذين يظنون أنهم يملكون القوة، ويمكنهم إخضاع الآخرين بواسطها. ومن الواضح أن الأمريكان لا يريدون فقط تخويف الأوروبيين ودفعهم إلى شراء المزيد من الأسلحة الأمريكية، بل إنهم يريدون فعلا إشعال الحرب ضد الروس وحلفائهم. وما نراه من تنسيق بين الطرفين في سوريا يخص فقط حركة الطيران العسكري في الأجواء السورية تفاديا للاحتكاك، كما صرح وزير الخارجية الأمريكي جون كيري.

لم يقتصر المشهد الساخن على التصريحات، بل إن الحلف الأطلسي أطلق في بولندا مناوراته العسكرية أناكوندا-16 أمس الاثنين والتي تشارك فيها أكثر من 20 دولة بحلف شمال الأطلسي وشركاء آخرين. هذه المناورات ليست إلا تصعيدا مباشرا ضد روسيا. فعلى مدى أكثر من عشرة أيام يشارك 30 ألف جندي يدعمهم عدد كبير من المركبات والطائرات والسفن في واحدة من أكبر المناورات على الطرف الشرقي لحلف الأطلسي منذ انتهاء الحرب الباردة في تحرك يزيد الضغوط على العلاقات المتوترة فعليا بين الكرملين والغرب. هذه المناورات التي تشارك فيها الولايات المتحدة الأمريكية بنحو 14 ألف عسكري، تسبق قمة الناتو في وارسو للموافقة على نشر المزيد من القوات شرق أوروبا.
لا تبدأ الحروب فجأة، بل إنها تكون مسبوقة بمناورات وأعمال عسكرية مشتتة هنا وهناك. وهي أيضا تبدأ إعلاميا، حيث تكثر التصريحات والتصريحات المضادة. تشعر روسيا أنها مستهدفة وأنها تكاد تكون محشورة في الزاوية. لكن الغرب يخطئ لو تصور أن روسيا ضعيفة وأنها لا تستطيع الرد العسكري المناسب الذي قد يفاجئ الأوروبيين والأمريكيين معا.
قبل أشهر، قال المخرج الصربي الشهير أمير كوستوريكا صاحب فيلم زمن الغجر في مقال له، إن الحرب العالمية الثالثة ستبدأ عندما تضيق الولايات المتحدة الأمريكية ذرعا من قناة روسيا اليوم فتقرر قصفها، وتقوم روسيا بتدمير الـسي آن آن ردا على ذلك.
لم يكن كلام المخرج الصربي مغالاة، بل كان استنتاجا يعكس الحرب الإعلامية الشرسة بين روسيا وأمريكا وأوروبا التي لم تتوقف منذ أن اشتعل الصراع في شرق أوكرانيا ونجحت روسيا في استعادة جزيرة القرم ونجح معها إعلامها، وفي مقدمته قناة روسيا اليوم، في التصدي للحملة الإعلامية التي كان يشنها الإعلام الغربي، وعلى رأسه قناة سي آن آن الأمريكية وبي بي سي البريطانية وفرانس 24 الفرنسية، ضد روسيا.
لم تقصف أمريكا حتى الآن قناة روسيا اليوم التي تعد الذراع الاعلامي الأقوى للروس في العالم حيث يشاهد القناة العربية مثلا 18.2 مليون مشاهد في العالم، فالحرب الفعلية لم تبدأ بعد. إلا أن الحرب الاعلامية الجارية الآن بين الغرب من خلال قناة سي آن آن وقناة روسيا اليوم تؤكد مدى شراسة هذه الحرب التي ازدادت خشونة بعد التدخل العسكري الروسي في سوريا إلى جانب النظام والضربات الجوية التي ينفذها الطيران الروسي ضد المجموعات المسلحة المدعومة أمريكيا وخليجيا.
كثيرون باتوا اليوم يصفون السيناريو المرعب؛ حرب نووية مدمرة لا تبقي ولا تذر. فقد وجّه مجموعة من العلماء والعاملين الروس في الولايات المتحدة رسالة مفتوحة مفادها أن العالم على وشك حرب عالمية ثالثة ستكون نووية هذه المرة وستطحن كل ما بناه الإنسان. والمسؤول الأول عن هذه الحرب هم المحافظون الجدد من السياسيين الأمريكيين المغامرين الذين يقودون الولايات المتحدة نحو الدمار الشامل، وليس فقط العالم.
تقول الرسالة: "نحن نشاهد بقلق بالغ سياسات الولايات المتحدة والناتو وهي تسير نحو اصطدام خطير مع الاتحاد الروسي وكذلك الصين. والكثير من الأمريكيين المحترمين بدأوا يحذّرون من حرب عالمية ثالثة تلوح في الأفق، ولكن تحذيراتهم تضيع في خضم بحر إعلام غارق في تزييف الحقائق مدعياً أن الاقتصاد الروسي على وشك الانهيار، وأن قواته المسلحة ضعيفة، لكننا، نحن من يعلم الحقيقة، نؤكد أن هذه أكاذيب ونحذر شعب الولايات المتحدة من هذه الأكاذيب ونود أن نقول لهم بكل بساطة، إذا قامت حرب مع روسيا فإن الولايات المتحدة سيتم تدميرها بكل تأكيد وسنصبح جميعاً من الأموات!". ويضيف أصحاب الرسالة: "بعكس بعض الأمريكيين الذين يرون في الحروب شيئاً مثيراً، فإن الروس يكرهونها ويخافونها ولكنهم الآن مستعدون لها. كما أن أي حرب تقليدية في أوروبا بين الناتو وروسيا ستنتهي بحرب نووية".
ترفض الولايات المتحدة معاملة روسيا ندا وشريكا. وهي لا تريد المحافظة على وضعها قوة أحادية، فحسب، بل تريد، فوق ذلك، أن تلتهم العالم كله لتكون روسيا مثل أي دولة أخرى تابعة لها بشكل مطلق حيث لا أمر إلا أمر السيد الأمريكي. لكن الولايات المتحدة الأمريكية لا يبدو أنها تحسب حسابا لقوة المناهضين لسياساتها، وهي تراها أقل من أن تكون قادرة على مواجهة قوتها التي يقول السياسيون الأمريكيون أن لا أحد يعرف حجمها الحقيقي ولا نوعيتها..
وإذا استمر الاستفزاز الأمريكي لروسيا، واستمرت السياسات العدوانية تجاهها، فإن الغضب الروسي سيتراكم إلى أن يصبح لجمه شيئا ممتنعا. وحينها لن يكون ممكنا تخيّل حجم القوة التي يمكن أن يستخدمها الروس ولا كيفية الرد الأمريكي الأطلسي. وإذا بدأت الولايات المتحدة أو الناتو بتوجيه الضربة الأولى فإن الاحتقان الروسي سينفجر، ولن يكون ممكنا توقع مداه. وحتى لو فاجأت أمريكا الروس وقتلت جميع قادتهم، فإن نظام Dead Hand أو the Perimeter System   لن يتأخر في توجيه هجوم مضاد بشكل أوتوماتيكي يحوِّل الولايات المتحدة إلى كومة خراب ويجعلها قاعاً صفصفاً.
إننا اليوم أمام الاحتمال الأسوأ في تاريخ البشر..



نادي بيلدبيرغ وحكومة العالم الخفية







قاسم محمد

يجتمع أعضاء نادي بيلدبيرغ كل سنة في مكان محدد دون السماح للإعلام بتغطية اجتماعاته المغلفة بالسرية المطلقة. وفي هذا العام ينعقد اللقاء الرابع والستون لهذا النادي بدريسدن الألمانية خلال الفترة ما بين التاسع من الشهر الجاري وحتى الثاني عشر منه. وهذه السرية بحد ذاتها تثير الريبة وتطرح أسئلة كثيرة عن مبرراتها. إذ لو كان هذا النادي ومؤتمراته السنوية التي تعقد لا هدف سوى الحوار وتبادل الآراء أو خدمة العالم لسمح للإعلام بتغطيتها ولكانت له مقررات وبيانات توضح نتائجه وقراراته وكواليسه.
كثيرون لا يعرفون شيئا عن نادي بيلدربيرغ، لكن، ربما، طرق أسماعهم شيء عما يعرف بالحكومة العالمّية الخفية، التي بدأ أسمها يظهر للعلن، بعد نجاح "الياسمينة الزرقاء" و"الربيع العربي" وما تلى ذلك من عمليات إرهابية وحروب خاصة في سوريا واليمن وليبيا. نادي بيلدبيرغ هو ما يوصف بحكومة العالم الخفية. وهو أخطر الأيادي الخفية والمجموعات السرية التي توجه إليها الاتهامات بافتعال الحروب وممارسة الإرهاب وتنفيذ الاغتيالات وخلق المنظمات المتطرفة والمجموعات الإجرامية التي تعمل في المخدرات والدعارة وتجارة البشر عبر العالم. وحتى يكون كلامنا علميا وبعيدا عن أية تخيلات أو شطحات، من المهم التعرف على هذا النادي.
يجتمع أعضاء هذا النادي كل سنة منذ تأسيسه سنة 1954 في فندق بيلدربيرغ في هولندا. والاجتماعات هي دائما مغلقة، ويحضرها عدد من أثرياء العالم وأصحاب النفوذ والسلطة ورجال السياسة والاقتصاد والاتصالات، يقدر بـ100 الى 150 شخصا. وهذه الاجتماعات محاطة بستار من السرية التامة والكتمان والغموض حيث تمنع وسائل الإعلام من حضورها، لكنه قد يكشف أحيانا عن بعض موضوعات تلك الاجتماعات دون الإشارة إلى آراء الحاضرين، ولا تسجيل محاضر بشأن ما يدور فيها، إذ لا يصدر عنها أي بيان يشير إلى ما يتخذ في نهايتها من قرارات.
إن ما يدور في هذه الاجتماعات يطرح فرضيات عديدة يحاول بعضها التبرير لسريتها، فرئيس اللجنة المنظمة لهذا الاجتماع هنري دي كاستري، وهو رئيس مجموعة التأمين الفرنسية أكسا، قال في تصريح قبل اجتماع دريسدن هذه الأيام، إن الهدف من الحوار خلف الأبواب الموصدة هو فقط  لتسهيل هذا الحوار.
لكنها هذا الكلام يفتقر إلى التماسك لأن هذه المجموعة ليست مكونة من أشخاص عاديين، بل إنها تضم الأسماء الأهم في العالم ممن يملك الثروة والسلطة والإعلام.. إننا نجد مثلا كتاب غيرهارد فيشنيفسكي "سلطة زعماء بيلدربيرغ" الذي يحظى بشعبية واسعة بين طيف واسع من المهتمين، يتحدث عن "مؤامرة النخبة الاقتصادية والسياسية والإعلامية". من الصعوبة تصور انقطاع هؤلاء الأشخاص عن أعمالهم اليومية والتزاماتهم لعدة أيام من أجل التحدث فقط مع بعضهم بعضا من دون هدف مهم.
إننا نجد في مؤتمر دريسدن شخصيات على درجة كبيرة من الشهرة والأهمية مثل هنري كيسنجر، ونيلسون وديفيد روكفلر وزبيغنيو بريجينسكين وآلان غرينسبان وغيرهم من صناع السياسة والاقتصاد والتمويل في الولايات المتحدة.. وفي الأيام الماضية كان من السهولة رؤية رؤساء مؤسسات صناعية ألمانية كبيرة في دريسدن هذه الأيام، مثل: "سيمينس" و"شبرينغر" و"إيرباص". بل إننا نجد من بين المشاركين في هذا الاجتماع رئيس اتحاد الصناعات الألمانية أولريخ غريللو، وكذلك ثلاثة وزراء: وزير المالية فولغانغ شويبله، والدفاع أورسولا فون دير لاين، والداخلية توماس دي ميزيير. إضافة إلى ملك هولندا وليم ألكسندر كما أفادت صحيفة Dresdener Neuste Nachrichten وكذلك وزير المالية الألماني ورئيس الوزراء الهولندي. فضلا عن مديرة صندوق النقد الدولي كريستين لاغارد. ولا يمكن تصور اجتماع سنوي على هذا المستوى في سرية كاملة دون أن تكون هناك خطط للسيطرة على العالم والتحكم فيه.
ومنذ 1999 لا يوجد إلا أمين عام واحد لهذا النادي. ومع وجود نواة صلبة خفية تشكل ثلث المجتمعين، ولا يتغير أعضائها، تتم دعوة أسماء مختلفة كل سنة. والنواة الصلبة، تضم أعضاء المجس الإداري، وتعمل واجهةً للضيوف الجُدد، وأعضاء أقل وضوحا كي لا يخشاها القادمين الجدد.
وهؤلاء الأعضاء في النواة الصلبة هم في الحقيقة قادة كبار في دولهم سياسيا وماليا وامنيا مثل كارل بيلت رئيس وزراء السويد، واوسكار برونر الرئيس التنفيذي لشركة دير ستاندارد النمساوية، وثيموني كولينز  مدير صندوق الاستثمار ريبلورد، وجون ايلكان رئيس مجموعة فيات، ومارتن فيلشتاين مستشار رونالد ريغن والمستشار الحالي لباراك اوباما هنري كيسنجر ووزير خارجية امريكا الأسبق هنري كرافيس ومدير الاستثمار المالي صندوق كيه آر وهو من المتبرعين الاساسيين للحزب الجمهوري الامريكي وبيتريكس ملكة هولندا وديفيد وروبرت زوليك وهو دبلوماسي امريكي شغل منصب رئيس البنك الدولي، وريتشارد بيرل المخطط والمنظر لاحتلال العراق وغيرهم..
من الطبيعي أن تكون مجموعة بهذه القوة المالية والسياسية صانعة الملوك وصاحبة الكلمة الفصل في تحديد من يحكم في أمريكا أو في أوروبا أو في أي مكان آخر تملك التأثير فيه. فمثلا تناقلت مصادر إعلامية خلال الانتخابات الرئاسية 2008 في الولايات المتحدة، بأن باراك أوباما وهيلاري كلينتون قد اختفيا ليوم واحد في 6/6/2008، للتفاوض بعيدا عن الأعين، لإنهاء حالة التنافس بينهما. وكانا في الحقيقة قد ذهبا إلى الحلقات الدراسية السنوية لمجموعة بيلدربيرغ، في شانتيلي "بفرجينيا، الولايات المتحدة". وفي اليوم التالي، أعلنت السيدة كلينتون تنحيها من السباق. وتحدثت مصادر إعلامية على التوصل إلى اتفاق تصبح بمقتضاه كلينتون رئيسا للولايات المتحدة بعد انتهاء ولاية أوباما.
وبنفس الطريقة، نقل الإعلام أن مجموعة بيلدربيرغ نظمت عشاءا مرتجلا، خارج إطار الحلقات الدراسية، في 14 نوفمبر 2009، في قصر فال دو دوشاس، الذي تعود ملكيته لملك بلجيكا. وألقى خلاله رئيس الوزراء البلجيكي السابق "هيرمان فان رومبوي" هيرمان كلمةً. وفي وقت لاحق بعد خمسة أيام تم انتخابه رئيسا للمجلس الأوروبي.
لا يسعى هذا النادي إلى السيطرة على الاقتصاد والسلطة فحسب، بل إنه يبحث باستمرار في وسائل للسيطرة على العقول من خلال امتلاك مفاتيح الثقافة كالسينما والمسرح ودور النشر ووسائل الإعلام والسيطرة على ذلك كله للترويج لأفكاره ولنشر فضائح من يريد التخلص منهم أو يسببون له إزعاجا. فكما تنتشر النوادي الفاخرة عبر العالم، من أجل نشر أفكاره وتحقيق أهدافه الخفية أو المعلنة، فإن الاعلام بشكل خاص أصبح اليوم وسيلة ناجعة للتحكم في العقول من خلال الشبكات التليفزيونية الضخمة ومواقع الانترنيت والتواصل الاجتماعي التي يمتلكها في الغالب أعضاء من هذا النادي.
لقد انتقل المتظاهرون إلى درسدن، وخيموا أمام أعين رجال الشرطة رافعين لافتتات كتب عليها: “إذا لم يكن لديكم ما تخفونهن فلم تخفون الكثير؟”. وهذا يعكس جزء من الوعي الشعبي بحقيقة ما يحيكه هذا النادي للعالم.
إن أعضاء نادي بيلدبيرغ هم أيضا أعضاء في الحركة الماسونية وتفرعاتها، وبعضهم أو ربما كلهم، ينتمون إلى "التنويريين" عبدة اللوسيفر. لم يعد خافيا أن العالم يحكم من قبل هذه المنظمات السرية. فالمسألة لم تعد مجرد مؤامرة ما دام هناك شيء يرشح عن هذه المنظمات التي تعتمد المثل الرائج الذي يقول إن الأسرار الكبيرة يحميها عدم تصديق الناس لها. إن المؤامرة حقيقة يومية ليس في السياسة وحدها بل في حياتنا اليومية العادية. وبإمكاننا القول، كما يقول كثيرون: المؤامرة هي إنكار المؤامرة.

السبت، 17 سبتمبر 2016

هل باع الروس الأسد؟






قاسم محمد

يحمل الاتفاق الأمريكي الروسي بنودا ماكرة، ولولا ذلك لتم الكشف عنها جميعا. اتفق الروس والأمريكان على الإبقاء على جزء من بنود الاتفاق طي الكتمان. ومن الواضح أن الأمريكان هم من أصر على ذلك، بعد أن طالب الروس بالكشف عنها وتلقوا رفضا أمريكيا في ذلك. وافق الروس على البنود الخفية، ولا شك أنهم لم يروا فيها تهديدا لمصالحهم.
لم يظهر الأمريكي جدية في إنهاء الصراع السوري حتى الآن. والهدف هو استنزاف الجميع وإنهاكهم حتى تأتي اللحظة المناسبة التي ربما تكون قد حانت الآن مع نهاية ولاية أوباما. لا تحارب أمريكا في سوريا بشكل مباشر. وإذا ما استثنينا بعض القوات الخاصة، فإن من يحارب نيابة عنها هي المعارضة المسلحة والجماعات السلفية إضافة إلى داعش والنصرة وقوات سوريا الكردية. وجد الأمريكيون، حتى الآن، متعة في إطالة أمد الصراع فذلك ما يحقق لهم الهدف الاستراتيجي في تدمير سوريا أولا، ثم الانقضاض على السلطة تاليا.
لا يفكر الروسي بأكثر من مصالحه الاستراتيجية وقواعده العسكرية ومنافعه الاقتصادية في سوريا. وكما أعلن بوتين ووزير خارجيته أكثر من مرة، فإن الأسد لا يعنيهم كثيرا وهو ليس حليفا لهم! وهم ليسوا متمسكين به مادام هناك بديل مماثل أو أفضل لمصالحهم.
بعد ست سنوات بلغت الخسائر السورية حدا مرعبا وغير مسبوق. وقال المركز السوري لأبحاث السياسات أن عدد الخسائر البشرية التي لحقت بالسوريين خلال السنوات الخمسة الماضية وصل إلى نحو 470 ألف في كسر جديد للأرقام التي أعلنتها وتصر عليه الأمم المتحدة. وقال التقرير الذي نشرته الغارديان يوم 11 فيفري/ شباط 2016، أن "نحو 11.5% من سكان البلاد قُتلوا من جراء الصراع منذ مارس 2011، في حين يقدر عدد الجرحى بنحو 1.9 مليون إنسان، فضلاً عن انخفاض متوسط العمر المتوقع عند الولادة من 70 في 2010 إلى 55 في عام 2015"، لافتاً إلى أن "التقارير تقدر الخسائر الاقتصادية في البلاد بنحو 255 مليار دولار"..  بينما يقدرها مركز فرونتيير إيكونوميكس الأسترالي للاستشارات ومؤسسة ورلد فيجن الخيرية بـ275 مليار دولار حسب دراسة أجراها. وتحتاج سوريا إلى 20 سنة لإعادة البلد إلى وضعه السابق.
هذا يكفي لتأكيد أن أمريكا وإسرائيل حققتا جزء كبيرا من هدفهما في تدمير سوريا. وهو أمر ما كان ليحدث لولا وجود أدوات داخلية وإقليمية نفذت العملية بشكل أفضل بكثير مما لو تولته أمريكا بنفسها كما فعلت في العراق مثلا.
لم يربح أي طرف من أطراف الحرب في سوريا. والرابح الوحيد هو شركات السلاح وإسرائيل التي لا تقصّر في كل مرة، عندما تنزلق بعض القذائف الى داخل الأراضي المحتلة، في تسيير بعض طائرتها لقصف مصادر النيران، ثم العودة الى قواعدها بسلام.
الاتفاقية كان من المفترض أن يكون أطراف الصراع على الأرض جزء منها. فوجودهم هو ما يعطيها ضمانات التنفيذ. لكن ما رأيناه هو وجود طرفين فحسب. والطرفان هما القوتين الأكثر تأثيرا في ما يجري. حتى الآن لا ندري هل تم إعلام الحكومات السورية والإيرانية والتركية والسعودية باعتبارها أطرافا للصراع أم أن الاتفاق، كما هو مرجح، ثنائي وسري بين القوتين العظميين.
يخفي الاتفاق بنودا ملغومة لا تريد أمريكا إعلانها. أما الروس فيبدو أنهم يرونها مناسبة لهم. والاحتمال الأرجح هو أن الإدارة الأمريكية باعت المعارضة السورية المسلحة. إن من يتابع ردات فعل المعارضين ومحلليهم يلاحظ بسهولة شتائمهم الموجهة لأمريكا بعد أن أصبحت، في نظرهم، متواطئة ضدهم، ومتآمرة على ما يسمونه "ثورة الشعب السوري".
يبدو لنا أن الطُّعم الذي قدمته أمريكا للروس هو سحب الدعم المالي والعسكري من المعارضة المسلحة والمشاركة في ضربها بكل أطيافها "المعتدلة" و"المتطرفة". فما تخفيه هذه الاتفاقية هو توقفها عن التمييز بين متطرف ومعتدل، ليصبح الجميع متطرفين وإرهابيين، يجب ضربهم والتخلص منهم. لن يكون الجيش الحر والفصائل المشابهة استثناء. ويبدو أن ذلك لا تمليه فقط صعوبات التمييز على الأرض بين مختلف الفصائل، بسبب التداخل كبير بينها.
ولا يعني ذلك أن أمريكا ليس جادة في الذهاب بعيدا في تنفيذ هذا البند المفترض، بل يعني أمريكا لابد أن تتلقى مقابلا لذلك. ما يمكن أن يخشاه الأسد من هذا الاتفاق السري هو وجود بند ينص على عملية انتقالية تستبعده هو ومحيطه القريب. في هذه الحالة سيتم عمل انتخابات جديدة وكتابة دستور جديد تمهيدا للمرحلة الانتقالية التي يجد فيها الأسد نفسه خارج اللعبة. إذا وجد هذا البند، فلا توجد قوة يمكن أن تمنع من ذلك رغم أن مصالح بعض الأطراف ستتضرر.
سيكون التركي أكبر الخاسرين، إذا تم الاتفاق على وقف الأعمال القتالية والتركيز على محاربة داعش والنصرة دون استثناء بقية الفصائل. فهو مع قطر من داعمي الجبهة الأساسيين. كما أن أنقرة لا يمكنها القبول باستمرار سيطرة قوات سوريا الديمقراطية، التي يشكل الأكراد عمودها الفقري، على مساحات واسعة من الشريط الحدودي، يمتد من الحسكة إلى الفرات، ويقطعه جزئيا وجود الفصائل المدعومة منها في مناطق غرب الفرات شمال حلب.
أما السعودية، فقد التزمت الصمت حتى الآن ولم ترحب بالاتفاق، وهو ما يثير أسئلة حول موقفها من الهدنة والعملية السياسية، خاصة أنها ما برحت تشدد على أنْ لا دور للرئيس بشار الأسد في المرحلة الانتقالية ومستقبل سوريا. ولو كانت تعلم بوجود بند ينص على التخلي عن الأسد لسارعت إلى الترحيب، وهو ما يؤكد أن الاتفاق ثنائي ولا أحد يعرف شيئا عن بنوده السرية.
وتبقى إيران، في الجانب الآخر، مرتاحة للاتفاق، في حدود معينة. فهو، في نظرها، لا يختلف كثيرا عن طرحها في مبادرة لوقف إطلاق النار ومحاربة الإرهاب والبدء بحوار سوري– سوري، للتوصل إلى حل سياسي. ولكنها، بلا شك، لا يمكن أن تكون راضية عن اتفاق، لا يعطيها دورا أساسيا، ولا تعلم بكل تفاصيله. فهناك مخاوف إيرانية باتت واضحة تجاه مواقف الروس في سوريا، كما توجد خشية من أن يكون الاتفاق الروسي- الأمريكي حول مصير الأسد على حساب إيران ومصالحها في سوريا كما أكد ذلك موقع تابناك المقرب من الحرس الثوري الإيراني حين قال: "نرى أنه بعد تصريحات كيري ولافروف وتأكيد واشنطن وموسكو على الانتقال إلى المرحلة السياسية في سوريا، وتأكيد الأمريكيين على أن هذه المرحلة لا تتضمن وجود بشار الأسد، نستطيع القول الآن بأن هناك اتفاقا تم بين موسكو وواشنطن وراء الستار لرحيل بشار الأسد".
لن تبقى الاتفاقية سرية. فالتطبيق على الأرض سيكشفها. غير أن ما يمكن للروس أن يخشوه هو وجود فخ أمريكي في الاتفاقية. إن التخلص من المعارضة المسلحة لا يمكن أن يكون هدية أمريكية للروس بلا مقابل. وإذا كان الاتفاق ينص على إيصال شخصية توافقية بدل الأسد، فإن ما سيحدث، من الممكن أن يكون شيئا آخر مختلفا تماما. وليس مستبعدا أن تدبر أمريكا انقلابا أو تفرض عميلا لها، إذ لا يوجد شخص توافقي يرضي الطرفين. وإذا حدث ذلك، سيجد الروسي نفسه مضطرا للاختيار بين شيئين؛ إما الانسحاب أو مقاتلة النظام الجديد وداعمه الأمريكي.


فتنة الحداثة






بقلم : مولاي احمد صابر

يسلط قاسم شعيب الضوء على موضوع الحداثة ومآلاتها، متوقفا عند افتتان البعض من المفكرينذوي النزعة الوضعية العرب بالحداثة الغربية إلى درجة أنهم جعلوا منها مسلكا في فهم الإسلام؛ فقد جاء الفصل الأول من الكتاب بعنوان: الحداثة وما بعد الحداثة الفراغات والمآلات؛ ليعرف بالحداثة ويعريها، وينزع عنها طابع القداسة. أما الفصول الأخرى للكتاب، فهي قراءة في بعض مشاريع المفكرين العرب. يرى المؤلفأن الحداثة الغربية ما هي إلا اجتهاد، انطلق على أساس قيم محدودة، أنتجتها تصورات الإنسان الغربي؛ ولهذا فالحداثة الغربية لم تكن إلا نتيجة للعقلانية المادية التي تعتبر كون الحقيقة تستمد قيمتها من كونها نتاجا للعقل الإنساني؛ لتصبح الذات مركز العالم وفقا لتصورات كبار الفلاسفة الأوربيين، مثل سبينوزا، وفرنسيس بيكون، ودافيد هيوم...[1].
لقد استندت الحداثة في تصوراتها على مبدأ العقلانية والحرية، وقد ترتب عن هذه الأسس اتساع رسالة التنوير بخروج الإنسان من قصوره الذي اقترفه في حق نفسه، ومن حالة العجز في استخدام عقله إلا بتوجيه من إنسان آخر، وفقا لتعبير الفيلسوف كانط[2]. ورغم أن الحداثة تتضمن جوانب إيجابية، فهي تتضمن جوانب سلبية قاتلة في حاجة إلى تبيينها وتسليط الضوء عليها من خلال الفصل بين الحداثة كمعطى فلسفي، وبين منجزاتها في العلم والتكنولوجيا وأدواتها في التنظيم الإداري والمؤسسات... ويعتبر الفيلسوف نيتشه من بين النقاد الأوائل للحداثة؛ فنيتشه أول من رمى بسهم في صدر الحداثة بنبذه للعقلانية الوثنية اليابسة، وهاجم الفلسفات القائمة على أساسها، وهو الذي أسس لنقد الميتافيزيقا، وتفكيك الحقيقة والتمركز حول الذات، وانطلاقا من فلسفة نيتشه، ستواجه فلسفة الحداثة نقدا يأخذ اتجاهين: الأول؛ هو اتجاه إرادة القوة المؤسسة على نظرية السلطة، ويستخدم الأنثروبولوجيا؛ والثاني هو اتجاه نقد الميتافيزيقا الذي يعيد رسم ثقافة الذات مبتدءا من أصولها السابقة ويمثله هيديكر، ودريدا.
كان نيتشه يقول: "احذروا من التقدم التكنولوجي الذي لا غاية له إلا ذاته... احذروا من حركته الجهنمية التي لا تتوقف عند حد، سوف يولد في المستقبل أفراد طبيعيين خاضعين مستعبدين، يعيشون كالآلات... إن التقدم ليس غاية في حد ذاته، وإنما هووسيلة لإسعاد الإنسان"[3]. لقد خلصت الحداثة في بعض من زواياها إلى تشيئ الإنسانبتزايد الانغماس في كل ما هو مادي، وإهمال كل ما يتعلق بالجوانب الروحية في الإنسان المرتبطة بقيمته العليا والتزاماته الدينية وأبعاده الأخلاقية... وهذا ما جعل الإنسان يضيع في الغرائزية المفرطة، وهذا يعني أن الحرية التي كانت شعارا لفكرة الحداثة، قد انتهت إلى سجن للذات وعبودية للغرائز، وخضوع للملذات المادية والمتع الجنسية... وقد لعب الإعلام دورا في تحويل الإنسان إلى كائن مستهلك لا يفكر إلا من خلال جانبه البيولوجي؛ فانقلاب أسس الحداثة بتحول الحرية إلى عبودية، والعقلانية إلى غرائزية هو ما تعبر عنه فلسفة ما بعد الحداثة التي أصبحت تمثل الدعاية الفكرية للنزعات الفوضوية ذات الطابع التشاؤمي.
لقد وضع قاسم شعيب الحداثة في قفص الاتهام؛ فهي التي كانت من وراء إنتاج الأصوليات المدمرة التي كانت أوروبا أحد ضحاياها في الحرب العالميتين السابقتين...بل أن ما يجري اليوم في العالم من حروب تقودها أنظمة ترفع شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان... فضلا على تدمير الطبيعة باستغلالها البشع وغير الواعي. يرى قاسم شعيب أن فكر ما بعد الحداثة لا يمكن بحال أن يقدم نفسه بديلا عن فكر الحداثة؛ لكون فكر ما بعد الحداثة لا يقدم نفسه كمرشد أو ناقد للحداثة من مطباتها بقدر ما هو صورة عن سلبياتها.
ويمضي بنا قاسم شعيب إلى أهمية استعادة قيم الإسلام ومبادئه في حل مشاكل الحداثة ليس على مستوى العالم الإسلامي فحسب، وإنما أيضا على مستوى العالم كله. فالحداثة ليست قطيعة مع الماضي، بقدر ما هي تواصل معه، وهي كذلك ليست إلا تفاعل مع المنجز الحضاري  الإنساني؛ فهي لا تنطلق من الصفر، بل تتمثل كل المنجزات العقلية والعلمية والثقافية في الحضارات السابقة لتبني عليها[4] يتوقف بها المؤلف.
في الفصل الثاني من الكتاب الذي بعنوان: طه عبد الرحمن ومأزق التكييف الحداثي. حول مشروع هذا المفكر المغربي من خلال كتابه روح الحداثة؛ فقد حاول طه عبد الرحمن من خلال هذا الكتاب أن يجعل منه مدخلا للفعل الحداثي في العالم العربي بعد فشل كل محاولات التحديث، إذ لم ترث العرب بعد نهاية الاستعمار سوى مزيد من التخلف والتبعية...[5]. وقد ربط طه مشكلة التحديث في العالم العربي بعائق التقليد. ووفقا لهذا العائق، قسم المفكرين في العالم العربي إلى مقلدة للسلف، ومقلدة للغرب، بينما يرى نفسه بكونه مبدعا في نحت المفاهيم والاصطلاحات... في الوقت الذي يرى فيه قاسم شعيب، أنه يمثل النزعة السلفية التي ينتقدها[6]، ويرى فيه لذلك أنه يظهر بجلباب الحداثة الغربية[7] رغم انتقاداته لها؛ فهو لا يستحضر بأن المشكل يتعلق بخلل بنيوي في فكر الحداثة، بقدر ما يرى أن المشكلة تنحصر في تطبيقاتها الغربية، ومن ثم يدعو إلى الاعتماد على الذات في عمليات التطبيق. ومن أجل هذا المطلب، قعد لأولويات وقواعد في جلب الحداثة، وهذا مالم يتفق معه قاسم شعيب إيمانا منه بأن مشكلة الحداثة تكمن في مضمونها الفاسدة، وليس في تطبيقاتها.
الفصل الثالث من الكتاب، تم تخصيصه لموضوع النبي والقرآن في فكر الوضعيين العرب؛ وقد اختار المؤلف المفكر التونسي هشام جعيط كنموذج من خلال كتابه تاريخ الدعوة المحمدية في مكة؛ فهشام جعيط في نظر قاسم شعيب لم يخرج عن مقولات الاستشراق في نفي نبوة محمد، والطعن في إلهية المصدر القرآني[8]، ومن ثم وضع نفسه في منزلق منهجي خطير مفاده استرجاع مقولات الفكر الوضعي.
جاء الفصل الرابع والأخير من الكتاب تحت عنوان: الإسلام  والحداثة، إذ حاول المؤلف، خلال هذا الفصل يقدم الصورة الحقيقية عن الإسلام؛ فالإسلام في نظره يملك رؤيته الكونية الخاصة من خلال ما يطرحه من حقائق تتعلق بمبدأ الوجود، وخلق العالم، ومصير الإنسان، والعالم الغيبي...فهو يقدم نفسه كوريث لكل أديان الوحي النبوي التوحيدية التي تعرضت للتحريف[9]. عندما يتحدث المؤلف عن الإسلام؛ فهو لا يقصد إسلام الفقهاء  والمحدثين وغيرهم الذين يرى فيهم أنهم تحولوا إلى كهنة، يدعون احتكار الحقيقة، وتكفير المخالفين، وتبرير الواقع الفاسد، وحماية السلطان. لقد نصبوا أنفسهم متحدثين باسم الله إلى درجة أنهم يرون في كل اجتهاداتهم أحكاما إلهية لا يجوز تجاوزها أو حتى الاستهانة بها[10] والحل لهذه المعضلة في نظر المؤلف هو ضرورة قراءة الإسلام في نصوصه الأساسية بطريقة جديدة، تتوخى قراءة النص بشكل مباشر دون خضوع لتفسيرات المفسرين، وتأويلات المؤولين[11] من خلال هذه الفصول الأربعة، حاول المؤلف أن ينبه إلى العمل على ضرورة نقد الحداثة في مضمونها، ويكون في نفس الوقت قد دعا إلى تجديد فهم  الإسلام بقراءة نصوصه المؤسسة قراءة جديدة.


الهامش:
[1] قاسم شعيب، فتنة الحداثة، مؤسسة مؤمنون بلا حدود، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت،
ط.1. 2013 ،ص. 7
[2] نفسه، ص17.
[3]نفسه، ص25.
[4] نفسه،ص19.
[5] نفسه،ص43.
[6] نفسه،ص44.
[7] نفسه ص49.
[8] نفسه،ص94.
[9] نفسه، ص 143.
[10] نفسه، ص144.
[11] نفسه، ص145.

الجمعة، 16 سبتمبر 2016

تكوين النص القرآني








كتاب جديد  للباحث والمفكر التونسي، أستاذ الفلسفة والإسلاميات، قاسم شعيب، صدر حديثا عن مؤسسة الانتشار العربي في بيروت، 2016. جاء الكتاب في عشرة وصول. وهو يتناول علوم القرآن فيناقش موضوعات النبوة وأمية النبي و التأويل والنسخ والإعجاز والمكي والمدني وتدوين القرآن واختلاف القراءات.. ويناقش ما طرحه بعض المستشرقين والكتاب العرب المعاصرين حول هذه القضايا. وينتهي الى يطرح منهج مختلف في قراءة النص القرآني سماه التفهمية القيمية.
لقد بُعث النبي في مرحلة تاريخية مزدحمة بالحضارة والتنوع الثقافي، رغم أن الجزيرة العربية كانت تفتقد إلى الدولة الجامعة. وليس غريبا أن يكون الخطاب القرآني محملا، بسبب ذلك، بأبعاد عقلانية إنسانية عميقة تناسب تطور مستويات الوعي. فعرب الجزيرة كانوا بعيدين عن سذاجة الأجيال السابقة التي كانت تؤثر فيها المعجزة الحسية أكثر من الحجة المنطقية.
وكان تركيز القرآن كبيرا على تقديم رؤية وجودية عقلانية متماسكة، وكان تأكيده لافتا على سنن التاريخ والقوانين التي تحكم حركته. ودور الإنسان في تطويع هذه السنن لتحقيق غاياته، وعلى حقيقة أن التغيير السياسي والاجتماعي يحتاج إلى الوعي بمعطيات الواقع والمعرفة بقوانين التغيير وإرادة الانجاز. ولم يهمل القرآن الكريم تقديم منظومة تشريعية متكاملة ونظرية أخلاقية متوازنة يمكن أن تحقق للإنسان حرية حقيقية.
غير أن أسئلة طرحت حول سلامة النص القرآني من التلاعب بسبب وجود كم كبير من المرويات المنسوبة إلى كثير من الصحابة والتابعين التي تشير إلى ذلك، وهو ما حاول الكتاب تقديم مقاربة علمية له من أجل تبيّن حقيقة ما تطرحه تلك المرويات.



الاثنين، 12 سبتمبر 2016

القوة الذكية.. الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في التحكم والإخضاع











قاسم محمد


لا يرتبط نجاح أية قوة حضارية واستمرارها في الهيمنة بقوتها الصلبة بقدر ما يرتبط بقوتها الثقافية. والقوة الثقافية المقصودة ليس مضمونها الفكري والقيمي والديني، وإنما أساليب نشرها وتعميمها. أنطونيو غرامشي، الذي كان من كبار المنظرين لمفهوم الهيمنة الثقافية عندما كان يبحث في سبل إنجاح الثورة الاشتراكية، انتبه مبكرا إلى أهمية الثقافة البديلة. كان يرى أن هيمنة الرأسمالية لا تنبني على  الاقتدار المالي والامتداد السياسي والقوة العسكرية فحسب، بل هناك عامل أهم هو قوة التحكم في العقول من خلال الثقافة التي تصنعها الطبقة الحاكمة وتُدخلها في أذهان الناس.
 لا يبتعد غرامشي هنا عن المقاربة القرآنية في التغيير والبناء والتي تعتمد على أهمية العوامل النفسية والذهنية في تغيير الواقع كما في الآية 11 من سورة الرعد: "إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ"، فيما سماه الرسول ص بالجهاد الأكبر. يحاجج غرامشي معتبرا أن حدوث التغير الاجتماعي، إنما يعتمد على ضرورة إنتاج ثقافة بديلة لدى الفئات الاجتماعية المسحوقة، تحمل قيم الثورة ومفاهيمها وتقاليدها، من أجل مقاومة الثقافة الرأسمالية المهيمنة.
ومفهوم الهيمنة الثقافية هو الذي سيعيد جوزيف ناي إنتاجه من خلال اختراع مفهوم مرادف هو مفهوم القوة الناعمة التي تستخدم باعتبارها كاسحة ألغام أمام القوة الصلبة لخوض حربها. نجحت الرأسمالية في هزيمة الشيوعية. ولم يكن ذلك بسبب نظامها الاقتصادي والسياسي المرن فحسب، وإنما، أيضا، بسبب قوتها الناعمة وقدرتها على إسقاط الأفكار والثقافات المنافسة.
استخدمت الولايات المتحدة الأمريكية إمكاناتها الثقافية والإعلامية كلها للترويج للنظام العالمي الجديد، وإنهاء المنظومة الاشتراكية، ليفقد اليسار العالمي مواقعه المتقدمة. وتبين أن الهدف الإستراتيجي للولايات المتحدة، هو إقامة إمبراطورية عالمية ذات مركز قيادي واحد تحت عناوين جديدة، كالعولمة والحكومة العالمية، كما اتضح أن الصراع المستقبلي، الذي لابد منه لإدراك تلك الأهداف، ليس إلا صراعاً حضارياً.

الصدام والنهاية
رسم فرانسيس فوكوياما وصموئيل هنتنغتون البعد النظري للمزاوجة بين مفهومي القوة الصلبة والقوة الناعمة، وأسسا بصورة علنية لخارطة طريق الهيمنة الثقافية. تسيدت مقولة نهاية التاريخ، التي أطلقها هيغل منذ القرن التاسع عشر وأعاد "فرانسيس فوكوياما" تدويرها، محافل الفكر السياسي الأمريكي لفترة ناهزت الخمس سنوات. وفي كتابه: نهاية التاريخ والإنسان الأخير الذي صدر في العام 1989، توقع فوكو ياما انهيار الأنظمة الشمولية، وسائر الأنظمة الشيوعية والاشتراكية، ، وبشر بانتصار النظام الليبرالي في المستقبل. وقال إن نهاية الاضطهاد لا يمكن أن تصنعه شيوعية ماركس، بل إن ذلك قدر نظام اقتصاد السوق كما تقدمه الديمقراطيات الغربية.
كان فوكوياما يدعو إلى ضرورة بقاء الولايات المتحدة جاهزة بشكل مستمر لاستخدام القوة الصلبة في سبيل حماية مصالحها تحت غطاء ما سماه "نشر الديمقراطية". لكنه اعتبر أن ذلك يجب أن يكون آخر الخيارات التي يتم اللجوء إليها، إذ لا بد من إعطاء إصلاح التعليم ودعم مشروعات التنمية، أولية لأنهما يمنحان سياسة الولايات المتحدة مشروعية أقوى.
وفي مقال نشرته المجلة التابعة لصحيفة نيويورك تايمز New York Times، في العام 2006، نفى فوكوياما أن تكون الحرب العسكرية هي الإجابة الصحيحة على الحرب على الإرهاب. وقال إن معركة كسب عقول المسلمين وقلوبهم هي المعركة الحقيقية. كان يشير بذلك إلى ما خلفته الحروب التي شنتها الولايات المتحدة على بلدان عربية ومسلمة من ويلات. فالوعي السياسي المتنامي للعرب والمسلمين جعلهم يميلون إلى رفض السياسات  الأمريكية في بلادهم، ولم تعد القوة العسكرية قادرة على سحق الشعوب أو الاستمرار في إخضاعها. فَهِم فوكوياما أن القوة الصّلبة التي استخدمت ضد أفغانستان والعراق والصومال ومناطق أخرى فشلت في إخضاع تلك الشعوب كما توهم المحافظون الجدد ونادى بضرورة الانطلاق الى مرحلة جديدة تقوم على فكرة المزاوجة ما بين القوتين: الصلبة والناعمة، فيما سمي بالقوة الذكية.
ولم يكن فوكو ياما بصدد التنظير لحوار الثقافات أو احترام إرادة الشعوب، ولكنه كان يبحث في استراتيجية أمريكية للهيمنة. ولعل هنتنغتون كان المعبِّر عن واقع الصدام الحضاري بين الغرب والإسلام أو بين الغربيين والمسلمين. كان هذا الرجل في كتابه صدام الحضارات The Clash of Civilizations، الذي صدر في نهاية التسعينات، يبحث في ضرورة التحيين الدائم لأدوات القهر الأمريكية على المستويين: المباشر والرمزي. ولم تكن شهرة هنتنغتون تتعلق بالقيمة العلمية لكتابه، بل بصلته الوثيقة برؤية المؤسسات الحاكمة في أمريكا والتي يهيمن عليها تيار متطرف.
نفذ هنتنغتون إلى حقيقة أن طرفا الصراع القادم، بعد انهيار الشيوعية، هما العالم الغربي والعالم الإسلامي. ولن يكون ذلك الصراع صراعا إيديولوجيا كما كان بين الليبرالية والشيوعية، بل سيكون هذه المرة صراعا حضاريا. غير أن كتاب "صدام الحضارات" يتحرك من منطلقات أيديولوجية تبرر مبدأ صراع الحضارات بدلاً من مبدأ الحوار. فهو يتبنى الإيديولوجيا الليبرالية، بأنظمتها الاقتصادية والسياسية، ويعتبر أنها تمثل الحقيقة التي لابد أن تحكم العالم. ولأجل ذلك فإنه من المنطقي أن يدعو إلى بناء القوة العسكرية من زاوية إستراتيجية، إذ لا معنى، عنده، لفكرة السلام العالمي أو حوار الحضارات.

مفهوم القوة الناعمة
مع ظهور معالم الاستراتيجية الجديدة، بدأ استخدام مصطلح القوة الناعمة بشكل مكثف. وقد تزايد ذلك في العالم العربي بعد الحراك السياسي والتغيرات التي حدثت منذ 2011. فمن الناحية الاصطلاحية، مفهوم القوة الناعمة مصطلح سياسي حديث، لكنه في المضمون لا يختلف عن مفاهيم قديمة طرحها فلاسفة وسياسيون قدامى مثل الإقناع والثقافة والنموذج..
والقوة الناعمة تتضمن إجباراً وإلزاماً غير مباشرين. فهي من جهة لا تستغني عن القوة الصلبة من أجل أن تنتشر. ومن جهة أخرى تقوم بأعمال تعجز القوة الصلدة عن القيام بها. تلجأ القوة الناعمة إلى استخدام وسائل التأثير والإبهار من خلال الصورة والصوت. وهي ليست دعاية سياسية، بل إنها عمليات منظمة تأخذ أشكالا بيانية من أجل اقتحام العقول والتأثير على الرأي العام من خلال وسائل الإعلام والسينما والموسيقى والرياضة وسائر الفنون. لكنها تستخدم أيضا الأشكال المنطقية المغشوشة والبيانات العلمية المراوغة لإقناع الطبقات المثقفة والأكاديمية التي تمثل رصيدا مهما للقوى الرأسمالية من أجل الهيمنة على عقول الشباب الجامعي والمدرسي.
وبالنسبة إلى جوزيف ناي صاحب المصطلح والمفكر الاستراتيجي وعميد كلية كيندي للدراسات الحكومية في جامعة هارفارد، ورئيس مجلس المخابرات الوطني ومساعد وزير الدفاع الأميركي السابق، تعني القوة الناعمة، كما شرحها في مقاله الذي يحمل الاسم ذاته Soft Power، القدرة على تحقيق الأهداف المتوخاة من خلال الجذب بدلاً من القسر أو الدفع.. فهي تعتمد الإغراء والجذب بدل الإكراه والقهر. ويقابل مفهوم القوة الناعمة مفهوم القوة الصلبة الذي يعني القوة المشتركة السياسية والاقتصادية والعسكرية، أي القوة في صورتها الخشنة التي تعني الحرب، والتي تستخدم فيها الجيوش. لكن القوة الصلبة قد تقود إلى الوقوع في منزلقات خطرة كما حدث مثلاً في الحرب العالمية الثانية، بين اليابان وألمانيا النازية. ومفهوم القوة الناعمة هو أيضا مصطلح يستخدم في نظريات العلاقات الدولية. ويشير إلى توظيف ما أمكن من الطاقة السياسية، بهدف السيطرة على اهتمامات القوى السياسية المستهدفة بوسائل ثقافية وأيديولوجية.
يريد الأمريكي إخضاع الآخر والهيمنة عليه. والقوة الناعمة المتعاضدة مع القوة الصلة هي الوسيلة لتحقيق ذلك. وهذه القوة الناعمة ليست، في الحقيقة، إلا تعبيرا مختلفا عن الغزو الثقافي أو العولمة الثقافية.
وقد اعترف روبرت غايتس وزير الدفاع الأمريكي السابق أنه جاء إلى الوزارة من أجل تعزيز استخدام القوة الناعمة، ولتصبح قوة فاعلة رديفة للقوة الصلبة، فلم تعد الحرب تعتمد القوة الصلبة فحسب بل إنها أدخلت القوة الناعمة ضمن وسائلها. لقد طرح جوزيف ناي في مؤلفاته استراتيجيات بارزة من أجل إنجاح سياسة الولايات المتحدة في السياسة الدولية. ودرس تكلفة حروب الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق، فوجد أنها خسرت الكثير من وزنها وسمعتها وأن مستوى القبول الشعبي في البلدان الإسلامية اصبح متدنيا. ووصل الى قناعة تقول أن استخدام الوجه الثاني للقوة، أي القوة الناعمة، سيجذب الآخرين ويرفع مستوى القبول بالسياسة الأمريكية.
فالقوة الناعمة تجعل من الآخر يريد ما نريد دون إكراه. وهي العنصر الثابت في العمل السياسي. ومن الناحية الإجرائية تجيز نظرية الحرب الناعمة خطط الحرب غير المباشرة، كاللعب بقواعد العدو وخلق حالة من التشكيك في الثوابت والمعتقدات التي يتبناها والاشتباك معه على أرضه يصطبغ باللون المحلي تماما.

الاستراتيجية الجديدة.. القوة الذكية
 إن المزاوجة بين القوة الناعمة والقوة الصلبة هي ما انتهى إليه الفكر الاستراتيجي الأمريكي كما عبر عنه ليزلي جلب في كتابه قواعد القوة، عندما أكد أن الحس السليم بإمكانه أن ينقذ السياسة الخارجية الأمريكية من مأزقها من خلال الجمع بين القوتين الناعمة والصلبة.
والمزاوجة بين القوة الناعمة والقوة الصلبة في الفكر الاستراتيجي الأمريكي هو ما أعطى مفهوم القوة الذكية. فالقوة الذكية مزيج من القوة الصلبة والقوة الناعمة.
وهذا التزاوج المفاهيمي لم يحصل بشكل اعتباطي، بل إنه جاء نتيجة لتفاعلات فكرية مختلفة داخل الولايات المتحدة من خلال العديد مراكز البحوث والدراسات والمعاهد والجامعات التي ترفد صانع القرار بكل ما تنجزه من دراسات ومشاريع استراتيجية جديدة، حيث تمثل الجامعات ومراكز البحث والتفكير Think Tanks في الولايات المتحدة الأمريكية الأذرع الفكرية والعلمية لصياغة السياسات الامريكية.
انتقل الفكر الإستراتيجي الأمريكي من مفهوم القوة الذكية إلى مفهوم القوة الذكية، نتيجة الفشل العسكري الأمريكي في العراق وفشل القوة الإكراهية الصلبة المستخدمة بصورة مباشرة. وبذلك أصبح ضروريا إشراك الإعلام والثقافة والفنون والدبلوماسية والمنظمات الدولية من أجل الترويج للثقافة الأمريكية والادعاء بأن ما تفعله أمريكا عسكريا واقتصاديا هدفه نشر الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان والحريات العامة.

 المجال التطبيقي للقوة الذكية
أما المجالات التطبيقية للقوة الذكية في الإستراتيجية الأمريكية، فبإمكان كل متابع ملاحظة ذلك بشكل واسع في المنطقة العربية على نحو خاص بسبب الأهمية الاستراتيجية والدينية والجغرافية لها.
وقد مكنت الطفرة التكنولوجية والعلمية أمريكا من اختصار الجهد والزمن من أجل إيصال المعلومة أو الفكرة ونشرها وترويجها. وكانت الإنترنت ثم شبكات التواصل الاجتماعي الأداة الأكثر فاعلية في إحداث التغيير في بلدان عربية عدة مثل تونس ومصر.. وإدخال بعضها الآخر في حروب داخلية لا تخدم إلا الأهداف الأمريكية والكيان الصهيوني الغاصب في فلسطين كما هو الحال في العراق وسوريا وليبيا واليمن.. تمثل المنطقة العربية العمق الاستراتيجي للأمن القومي الأمريكي الذي عملت دوما الولايات المتحدة على ربطه بالأمن العالمي. والأهم هو أن المنطقة تمثل المركز الذي تريد أن تنطلق منه أمريكا لتنفيذ مشروعها في النظام العالمي الجديد المزعوم. فلا شك أن أمريكا لا تحركها السياسة أو الاقتصاد وحدهما، بل إن هناك ما هو أهم بالنسبة إليها وهو الجوانب الدينية والإيديولوجية الخفية.



الأحد، 4 سبتمبر 2016

الشرق الأوسط الجديد.. والدم العربي المسفوك







قاسم محمد



بناء الجديد يحتاج إلى هدم القديم. وعندما يكون الجديد المأمول كيان سياسي بمواصفات جديدة، فإن الكيانات القديمة لا بد لها أن تختفي. ولا يمكن أن تختفي إلا بتدميرها، وهذا ما يسعى إليه الأمريكيون والصهاينة ومن وراءهما الأخطبوط الماسوني الحاكم في العالم. هناك خطة ممنهجة ومرسومة لإعادة رسم الخرائط. وقد بدأ العمل على ذلك منذ أحداث 11 سبتمبر 2001. حتى الآن تتقدم الخطة. فقد وصلت عمليات التدمير في العراق وسوريا واليمن وليبيا.. إلى مستويات متقدمة.
هذا الكلام لا نقوله لولا الأدلة القطعية التي يشير إليها الواقع والتصريحات الواضحة التي سبقت الحروب التي نراها اليوم. في مقابلة مع القائد الأمريكي السابق لقوات حلف الناتو الجنرال ويسلي كلارك مع ايمي غودمان في تلفزيون Democracy Now  [https://m.youtube.com/watch?v=bSL3JqorkdU] قال هذا الجنرال سنة 2007:
"بعد حوالي 10 أيام من 11 سبتمبر ذهبت إلى البنتاغون وقابلت وزير الدفاع رمزفيلد ونائبه وولفوتز. ثم نزلت الى الطابق الأسفل لأسلم على بعض زملائي ممن عملوا معي في قيادة الاركان المشتركة، وما كان من أحد الجنرالات الا أن ناداني. وقال: سيدي.. عليك أن تدخل عندي لنتكلم للحظة. قلت: لعلك مشغول جداً. قال: لا ..لا. وأضاف: لقد تم إتخاذ القرار بالذهاب للحرب ضد العراق. كان ذلك حوالي 20 سبتمبر 2001. قلت: نحن ذاهبين للحرب على العراق؟ لماذا؟ فأجاب: لا أعرف. لذلك سألت: هل وجدوا أن هناك رابط بين صدام والقاعدة؟ أجاب: لا.. لا.  لا جديد بهذا الشأن. إنهم فقط قرروا الذهاب للحرب ضد العراق. وأضاف: يبدو أننا لا نعرف شيئاً عن الإرهابين ولدينا قوات مسلحة قوية ونستطيع مقاتلة الدول. يبدو أنه إذا كانت لديك قوات مسلحة قوية وتستطيع مقاتلة الدول وأنه إذا كانت أداتك الوحيدة هي المطرقة فستظن أن كل مشكلة هي مسمار".
ويضيف الجنرال القائد السابق لحلف الناتو: "رجعت بعد أسابيع قليلة وكنا حينها قد بدأنا الحرب على أفغانستان. سألت صديقي: هل ما زلنا سنحارب العراق؟ فأجاب: أن الأمر أسوأ من ذلك. أخرج مذكرة من مكتبه وقال: لقد استلمت هذه الآن من مكتب وزير الدفاع اليوم. وأضاف:  إننا سنحارب سبع دول ابتداءً من العراق ثم سوريا ولبنان، وليبيا، والصومال، والسودان وأخيراً ايران". قلت: هل المذكرة مصنفة سري فأجاب نعم سيدي. قلت: إذن لا تريني أياها؟ رأيت هذا الجنرال بعد ذلك بسنة فبادرني قائلاً: سيدي أنا لم أريك تلك المذكرة.. أنا لم أريك تلك المذكرة!".
لا تحكم الولايات المتحدة الأمريكية أحزابٌ، بل إن من يحكم حقيقة هي ما يسمونه بالمؤسسة. والمقصود القوى الرأسمالية الكبرى من شركات ومؤسسات مالية وإعلامية وأكاديمية.. ومهما كان الحزب الحاكم، جمهوريا او ديمقراطيا، فإن الاستراتيجية لا تتغير. وما يبقى للرئيس وفريقه هو هامش صغير.
تبحث أمريكا عن التفرد بزعامة العالم. وهي تعرف أن ذلك لا يمكن أن يحدث قبل السيطرة المطلقة على المنطقة العربية. ولذلك تكرر ذكر هذه الدول السبعة على لسان ويسلي كلارك وهنري كيسنجر وغيرهما. فهي دول غنية بثرواتها الباطنية التي لا نعلم إلا جزء منها. والسيطرة على الثروة شيء أساسي للسيطرة على كل شيء لاحقا.
كان الهدف من إسقاط صدام تعميم الفوضى في العراق وخلق مبرر للمجيء بالقاعدة التي ستلد لاحقا تنظيم داعش. وقد كان العقيد القذافي عارفا بذلك فأجاب سنة 2002 صحفيا أمريكيا حين سأله: "من المستفيد لو تم احتلال العراق؟ فأجاب القذافي دون تردد: ابن لادن. لا شك في ذلك وستصبح العراق مركزاً لانطلاق القاعدة لأنه في حال سقوط نظام صدام حسين ستعم الفوضى العراق. وعند حصول ذلك يصبح أي عمل ضد الامريكان جهاداً". كان الهدف، إذن، خلق حاضنة جغرفية واجتماعية لتنظيم سلفي متطرف سيستخدم لاحقا لتعميم الفوضى ليس في سوريا وحدها بل في المنطقة كلها. لقد كان من الضروري خلق هذا الكيان من أجل تبرير التدخل والغزو الذي تتعرض له سوريا واليمن وليبيا ودول أخرى ستلحق بالقائمة في المستقبل القريب.
هذا الكلام ليس مجرد استنتاجات. بل إنه يستند الى وثائق سرية ظهرت  بناءً على قانون حرية المعلومات حصلت عليها منظمة Judicial Watch  ومنها وثيقة من وكالة الاستخبارات الدفاعية  DIA  عن التعليمات بالموافقة على إنشاء داعش. كان نص مذكرة DIA: "الغرب ودول الخليج وتركيا الذين يؤيدون المعارضة السورية يساندون إنشاء كيان سلفي في شرق سوريا بصورة معلنة أو غير معلنة وذلك لعزل النظام السوري".
واللجوء إلى العصابات السلفية وتدريبها وتسليحها جاء حلا بديلا لفشل التدخل المباشر في المنطقة، وبشكل خاص في الصومال وأفغانستان والعراق ولبنان وفلسطين، بعد الهزائم المتتالية للأمريكيين والإسرائيليين الذين لم ينتصروا في أي حرب منذ 1967. وهنا تم استبدال تكتيك الحرب بالوكالة بالحرب المباشرة ليصبح العرب والمسلمون في حرب ضد بعضهم بعضا بينما يكتفي الأمريكي بالتوجيه ووضع الخطط والتدريب والتسليح، والتظاهر بخوض المفاوضات التي لا هدف لها سوى إطالة أمد الحرب إلى حين تحقيق الأهداف المرسومة. أما التمويل فيتكفل به الخليجي.
لقد كان ويسلي كلارك واضحا حين قال إن أمريكا صنعت داعش لمحاربة حزب الله. [https://www.youtube.com/watch?v=X7KtYxkWd4w].
وفي الحقيقة ليس الهدف هو فقط محاربة حزب الله، بل إن هناك ما هو أوسع وهو خلق دول فاشلة لأن ذلك يسهل كثيرا تنفيذ الخطة المرسومة. لكن إدخال العرب والمسلمين في حروب داخلية يقتل فيها بعضهم بعضا لا يعتمد فقط على خلق تنظيمات سلفية متطرفة، بل يحتاج إلى إثارة الغرائز الطائفية والدينية والعرقية بأقوى قدر ممكن. وكانت النتيجة هي ما نراه اليوم من اصطفاف طائفي وعرقي وديني حاد تحركه وسائل إعلام عربية ممولة من نفط الخليج غالبا.
يريد الأمريكيون والصهاينة ومَن خلفهم ضمان أمن اسرائيل والسيطرة على آبار النفط والغاز وبقية الثروات الباطنية. لكن هذا ليس هدفا نهائيا بقدر ما هو وسيلة. والهدف الأبعد هو شرق أوسط جديد تقوده الإدارة الأميركية، وشركاؤها الأوروبيون والمحليون في المنطقة. لكن هذا المشروع لا ينسجم تماما مع الأهداف الإسرائيلية التي عبّر عنها رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية هرتس هليفي والتي قال فيها إن القتال ضد تنظيم «داعش» في العراق وسوريا ليس من مصلحة إسرائيل الاستراتيجية ما لم يكن مقترناً بمواجهة حزب الله". تريد إسرائيل أن يركز تنظيم داعش حربه ضد حزب الله بينما تريد أمريكا استخدام هذا التنظيم في مهام أوسع لا تستهدف جهة واحدة بل جهات متعددة بما في ذلك الدول السبعة المستهدفة.
ما نراه اليوم ليست إلا بحيرات من نار تم اشعالها في سوريا واليمن وليبيا.. والخشية أن تصبح تلك البحيرات لاحقا بحرا من نار. إننا نجد اليوم تجمعا واسعا لقوى متعددة في سوريا. حرب متعددة الأطراف والأهداف، وصراعات محتدمة في طبقات متداخلة. طبقة أولى طرفا النزاع فيها داخليان وهما الحكم والمعارضة متعددة الاتجاهات. وطبقة ثانية ركيزتها التنظيمات السلفية المسلحة بتلاوينها المختلفة، وطبقة ثالثة تشمل القوى الإقليمية، وأبرزها تركيا وايران، والسعودية وقطر. وطبقة رابعة أركانها الدول الكبرى؛ روسيا، بحضورها المباشر بطيرانها وقواها البحرية وجزء من عسكرها البري، وأميركا التي تحارب بأدواتها مثل داعش وقوات سوريا الديمقراطية، والتي تملك حضورا عسكريا محدودا.
ليس مستبعدا أن تتوسع الحرب السورية لتشمل المنطقة كلها. فالهدف ليس سوريا فحسب. لكن الخطر الأكبر هو أن يختلف الكبيران الروسي والأمريكي، رغم ما يحاول إظهاره الطرفان من تنسيق بينهما، وأن يؤدي ذلك إلى استخدام أشد الأسلحة فتكا. إذا حدث ذلك فلن يبق مسرح الحرب محصورا في المنطقة العربية. ولن تبق روسيا ولا أمريكا كما هما الآن.